

حين تتكلم غزة يصمت التاريخ احتراماً
نص مسرحي: رسائل من غزة
((حين تتكلم غزة يصمت التاريخ احتراماً)) المؤلف
الشخصيات:
الراوي: يعلق على الأحداث ويخاطب الجمهور
آدم :شاب من غزة في العشرينيات
ليلى :أخته الكبرى، معلمة
ساعي البريد:رجل مسن
الطفل:في السادسة من العمر ذكي
أصوات: تسمع دون ظهور شخصيات
بيئـــة العرض:
(ضوء خافت،غرفة مدمرة بنصف جدار، في منتصف المسرح طاولة خشبية محروقة وجهاز راديو مكسور ..أصوات صفارات أنذار بعيدة متقطعة
،يدخل الراوي يحمل شمعة مشتعلـة)
الراوي: (ينظر للجمهور) في غزة، الرسائل لا تصل بالبريد... الرسائل هناك تكتب على الحجارة... على أنقاض البيوت... على جبين الأطفال النائمين دون أحلام.
(صمت قصير... ضوء خافت على آدم الجالس إلى الطاولة يكتب)
آدم: (بصوت مسموع وهو يكتب) أختي ليلى، البحر ما زال هنا، لكن رائحته صارت كالحديد كلما حاولت أن أرسم وجه أمي على الرمال... جاء الموج وحمله بعيدًا... لم أعد أميز بين الدموع وماء المطر.
(صوت انفجار بعيد... ليلى تدخل من الجانب الآخر، تحمل كتاباً محروقاً)
ليلى: (بهدوء) آدم... لماذا تكتب رسائل لا تصل؟
آدم: (يبتسم بمرارة) لأن الصمت أكبر عدو لنا يا ليلى.
ليلى: (تلوح بالكتاب) وهذا؟ من يقرأ كتبنا حين يسقط السقف علينا؟
آدم: (ينهض) سنقرأها نحن حين نعيد بناء الجدران من التراب حين نكتب أسماءنا على الريح.
(يدخل ساعي البريد ببطء... يحمل حقيبة فارغة عيناه مغطاتان بضمادات)
ساعي البريد: (يخاطب الجمهور) كنت أحمل الرسائل يوماً... رسائل حب. رسائل فرح. رسائل موت أيضاً... حتى فقأت الحرب عيني... ولم يعد لي من وظيفة إلا أن أبحث عن الرسائل تحت الركام (يخرج ساعي البريد ببطء... آدم يتبعه بعينيه ثم يعود للطاولة)
آدم :(يكتب) ليلى... رأيت الليلة طائرة ترسم دائرة فوق رؤوسنا ظننتها تكتب شيئاً في السماء لكنها كانت تحفر قبراً في الهواء(تعلو أصوات خفية، بكاء، ضحك، أصوات أطفال تنشد)
ليلى: (تجلس قربه) اكتب، آدم... اكتب حتى لو ضاعت الكلمات ربما تصل رسالة واحدة إلى يد لم نعرفها بعد... يد تزرع لنا وردة بدلاً من قذيفة.
(يبدأ الراديو المكسور بإصدار طنين خفيف)
ليلى:(بابتسامة دامعة) ربما... ربما تكون رسالة.
(ضوء خافت... الراوي يعود إلى منتصف المسرح)
الراوي: لا تنسوا... في غزة، الرسائل لا تحتاج إلى طوابع... إنها ترسل عبر الدموع... وتقرأ بالقلوب.
(يظل الراوي واقفًا، لكن الضوء ينقسم ليضيء زاوية جديدة من الخشبة. هناك حفرة صغيرة، تتصاعد منها أدخنة خفيفة... صوت مجرفة تحفر في الصمت. يخرج طفل صغير من بين الركام)
الطفل: (ينظر حوله، يحمل علبة معدنية) وجدت كنزًا، يا عمي ساعي البريد (يفتح العلبة، يخرج منها ورقة محترقة، صورة ممزقة، وزر قميص)
ساعي البريد: (يعود، يتلمس طريقه بالعصا، يقترب من الطفل) هذا... أكثر من كنز (ينحني ويأخذ الورقة بلطف) هل تسمح أن أقرأها لك؟
الطفل:(يهز رأسه، يهمس) اقرأ لي شيئًا... لم يكتب بعد.
(صمت... الراوي يتقدم ببطء، يرفع يده وكأنه يوقف الزمن)
الراوي:(للجمهور) هكذا تكتب الرسائل في غزة... على زر قطع من قميص الطفل في الليلة الأخيرة... على ورقة احترقت قبل أن تكتب... على صورة نزعت من قلب أم لا تزال تنتظر.
(الضوء يعود إلى ليلى وآدم... آدم ينهض، يحمل دفتره نحو الجمهور، يمزق إحدى الصفحات ببطء، ويرفعها كمن يرفع راية)
آدم:(بصوت يرتجف) إلى من يأتي بعدنا... نحن هنا. نزرع بين الحطام أغنية، ونكتب على كل جدار اسمًا لا يمحى. نحن، الذين لا نرى في الأخبار، نحيا رغم كل شيء، نحيا.
ليلى:(تأخذ الورقة، تطويها، ثم تدفنها في حفرة صغيرة بجانب الطفل) هذه رسالتنا، يا صغيري... ازرعها، وستنبت حكاية.
ساعي البريد: (بهدوء) وربما ستصل.
(يبدأ الراديو بإصدار صوت أوضح، كأنه لحن ... تنبعث من الزاوية أصوات أكثر وضوحًا ... مزيج من تراتيل، صوت أم تنادي، صوت طفل يضحك)
الراوي: (للجمهور، نبرة حزينة) عندما تقصف البيوت، تبدأ الرسائل في الهجرة... تتسلل من شقوق الجدران، تطير فوق الحواجز، وتحط في قلب كل من ينصت.
(إضاءة خافتة. الجميع يتجمد لحظة، كأن الزمن توقف. ثم ظلمة كاملة، تتبعها همسة واحدة، من الأصوات مجتمعة)
الأصوات: (بهمس جماعي) ...هل وصلتك رسالتنا؟
(إضاءة خافتة تعود تدريجيًا. لكن شيئًا تغير...الجدار المهدم الآن عليه رسومات بالطباشير بيت، شجرة، وأناس يبتسمون. على الأرض شمعة واحدة مشتعلة.
الراوي:(يتقدم نحو مقدمة المسرح، يقف فوق الطاولة المكسورة، ينظر للجمهور) من قال إن الجدران لا تتكلم؟ ها هي تتلو صلاة، بلغة الأطفال الذين لم يتعلموا الكتابة... وترسم أحلامًا أكبر من الحصار.
(ليلى تقترب من الحائط، تمسح الغبار عن رسم قلب كبير)
ليلى:(بهدوء) من علق هذا القلب هنا؟
الطفل: (من خلفها، مبتسمًا) أنا... لأن أمي قالت لي: إذا خفت، ارسم قلبًا... سيعرف من يراك أنك إنسان.
(آدم يجلس مجددًا، يكتب على صفحة جديدة. هذه المرة صوته أقوى)
آدم : ليلى، اليوم رسمنا شجرة على الجدار المهدوم، قال الطفل إنها ستثمر خبزًا، وقال ساعي البريد إنها تثمر رسائل، أما أنا، فقلت: لعلها تثمر حياة.
ساعي البريد: (يتقدم نحو مقدمة المسرح، لا تزال عينه مغطاة، لكنه يبتسم) لقد وجدت رسالة اليوم، مدفونة تحت خوذة جندي... لم تكن
مكتوبة بالحبر بل بنظرة أم لم تر أبنها يعود (لحظة صمت ثم يهمس) سأسلمها... حتى لو لم يكن أحد في الانتظار.
(الراوي ينزل من على الطاولة، يخلع معطفه ويضعه على الشمعة، لا ليطفئها، بل ليحرسها)
الراوي: (بصوت حاسم) في غزة، لا نحتاج إلى الجدار الرابع... لأن كل جدار رابع سقط فعلًا. أنتم... أنتم الجدار الخامس، أنتم البريد، أنتم شهود الرسائل التي لم تقرأ.
(الطفل ببطء، يحمل العلبة المعدنية الفارغة، لكنه يغني لحناً بسيطاً. يغنيه وحده أولاً... ثم تنضم إليه ليلى، ثم آدم، ثم الراوي وساعي البريد. الأغنية بلا كلمات، فقط نغمة تتصاعد، كما لو أنها تتحدى الصمت)
(الضوء يصير دافئًا فجأة. كأن الشمس خرجت للحظة، رغم كل شيء)
الأصوات: (من كل الجهات، في انسجام مع الغناء) ...وصلتنا رسالتكم.
(بعد لحظة سكون تام، يسمع صوت أذان بعيد، كأنه يأتي من ركام مسجد منهار. يظل صوته معلقًا في الهواء، رقيقًا كخيط دخان)
الراوي: (يستدير ببطء نحو الصوت، ثم إلى الجمهور) الأذان... ليس دعوة للصلاة فقط. في غزة، هو أيضًا إعلان: أننا ما زلنا هنا. نعد الوقت رغم انقطاع الكهرباء. ننهض رغم اختفاء الأرصفة.
(آدم ينحني قليلا يلتقط ورقة من الأرض يقرأها بصوت مرتجف) أبحثو عني في المقابر ...ستجدونني (يصمت لحظة):كأن المقابر دليل عناويننا الجديد (يتقدم نحو الجدار يضع، يضع أذنه عليه كأنه يسمع شيئاً):الجدار يتنفس...بل، لا... إنه يبكي...كل حجر هنا كان أماً ذات يوم، ثم صار شاهداً ثم صار قنبلة تنسى بعد الانفجار(ينظر إلى الجمهور):هل تعرفون غزة؟ ليست مدينة، بل ذاكرة. طفلة نائمة في حضن القصف،وأم تبحث عن ابنها في التراب،
ورجل يحمل حقيبة فيها صورة وخبز يابس...(يسحب قطعة قماش حمراء من تحت الأنقاض، يلوح بها كعلم): هذا علمي...لكنه صار كفنا صغيرا...(صوت انفجار بعيد الضوء يهتز، الظلام يغمر المكان تدريجياً): حين تكبرون...ابحثوا عني في المقابر،ستجدونني...
ليلى: (تتقدم إليه، تضع يدها على كتفه) لن تموت الكلمات، يا آدم. فقد ولِدت من النار، وشربت من دموعنا. إن سكتنا، تخوننا. وإن قلناها... تخلدنا.
(الطفل يركض إلى منتصف المسرح، ممسكا بعلبة الراديو المكسور، يلوح بها عالياً)
الطفل: (بفرح، كمن اكتشف سرًا) اسمعوا الراديو تحدث... قال: أنتم لستم وحدكم.
(تعلو نغمة الراديو ... همهمة موسيقية خافتة، أشبه بنبض قلب. ثم تتحول إلى أصوات أطفال من أماكن مختلفة من العالم، بلغات متعددة، تقول: نسمعكم)
ساعي البريد: (بصوت مرتجف، مندهش) لقد وصلت رسالة من الخارج... رسالة بلا عنوان. لكنها مكتوبة من نور.
(ينحني، يلتقط شيئًا غير مرئي من الأرض، ويسلمه إلى الطفل)
ساعي البريد: (بحنان) أنت ساعي البريد الآن.
(الطفل يأخذها، ثم ينظر إلى الجمهور)
الطفل (بجرأة لا تناسب سنه) من منكم سيكتب الرد؟
(إضاءة كاملة على المسرح، تبين كل التفاصيل... الجدار بنقوشه، الطاولة، الشمعة، العيون المتعبة لكنها صامدة. الشخصيات كلها تلتفت نحو الجمهور)
الراوي:(يفتح ذراعيه) من على هذه الخشبة الصغيرة، نرسل إليكم آخر رسائل غزة... لكنها لن تكون الأخيرة، ما دمتم أنتم من يستقبلها.
(تبدأ الشخصيات بالاقتراب من حافة المسرح، أقرب ما يمكن للجمهور، وجوههم مكشوفة، صامتة، لكنها تتكلم بالنظر)
(صوت قلب ينبض. مرة. مرتين. ثم...)
الأصوات: (بهمس نهائي) ...هل ستكتبون إلينا؟
(صمت ثقيل. ثم، فجأة، يظهر على الجدار رسم جديد ... يد تمسك بيد أخرى، من الجهتين... واحدة صغيرة، وأخرى كبيرة. فوقها كلمة واحدة مرسومة بخط الطفل: ردوا)
(آدم يخطو إلى الأمام، يمزق الصفحة الأخيرة من دفتره، ويرميها نحو الجمهور. الصفحة تطير ببطء، كأنها طائر ورقي)
آدم: (بصوت هادئ وواثق) ألقينا رسائلنا إليكم... لا نطلب شفقتكم، بل مشاركتكم في الحكاية.
(ليلى تفتح الكتاب المحروق، تنزع منه ورقة سوداء، وتكتب عليها بالطباشير الأبيض. ترفعها... كلمة واحدة، واضحة)
ليلى: اشهدوا.
ساعي البريد: (يخرج من حقيبته الفارغة. مرايا صغيرة، يوزعها على الشخصيات واحدة تلو الأخرى)
ساعي البريد: (للجمهور) أحيانا، الرسالة الوحيدة التي نقدر أن نرسلها... هي صورتكم في مرآتنا.
(الشخصيات ترفع المرايا نحو الجمهور... انعكاسات الضوء تتناثر على الوجوه، على الجدران)
الراوي: (يعلن خاتمة بلا نهاية) من غزة، إليكم: لسنا أبطالاً من ورق، ولا ضحايا عابرين. نحن الحبر، والورقة، والصرخة، واليد التي لا تزال تكتب رغم الارتجاف.
(الراديو يصدر آخر همسة... نغمة لحن الطفولة. نفس النغمة التي غناها الطفل. يعود الطفل ليهمس بها، وحده)
الطفل: (بهمس) عندي رسالة أخيرة... لكنني لن أكتبها. سأحفظها حتى تكبروا أنتم، وتأتوا لتسمعوها بأنفسكم.
الأصوات: (من كل الاتجاهات) ...ننتظر الرد.
الراوي: (بهدوء،يفتح ذراعيه) من على هذه الخشبة المهدمة، من بين الرماد والصمت والحنين، نسألكم أن لا تكونوا متفرجين. أن لا تكتفوا بالبكاء في صمت... أو التصفيق في نهاية العرض. بل أن تكتبوا معنا... تردوا على رسائلنا.
ليلى: (تخطو خطوة للأمام، تحمل دفتر آدم وتفتحه) هذه الصفحات ليست مسرحاً فقط... إنها بيوت مهدمة، قلوب تبحث عن صوت، أحلام تتعلق بخيط ضوء قادم من بعيد.
آدم: (ينظر إلى الجمهور، بصوت أقوى من ذي قبل) اكتبوا عنا... لا لأجلنا فقط، بل لأن الحقيقة، إن لم ترو، تموت. وإن ماتت، ماتت الإنسانية معها.
ساعي البريد: (يبتسم، ثم يخلع الضمادات عن عينيه، ببطء، لتظهر عيناه المغلقتان) أنا أرى الآن أكثر من ذي قبل... أرى الوجوه التي سمعتنا، وأراها تمسك أقلامها، لا سلاحها.
الطفل: (يتقدم نحو حافة الخشبة، يمد العلبة الفارغة أمامه، كأنها ميكروفون صغير) اكتبوا... احكوا عني، عن أبي، عن أمي، عن أخي الذي اختفى خلف دخان دبابة، وعن جدتي التي ما زالت تنتظر عودته في فنجان قهوة لا يبرد.
الأصوات: (تبدأ كهمسات، ثم تشتد تدريجيًا) اكتبوا... اكتبوا... اكتبوا...
الراوي: (يرفع صوته، نبرة شعرية) في غزة، لا ينتهي المشهد حين يطفأ الضوء، ولا تغلق القصة حين يسدل الستار. لأنها تكمل حياتها في أعين من صدق، وفي يد من قرر أن يرد على الرسالة... لا أن يحتفظ بها.
(ضوء خافت من شمعة تتراقص. الطفل يقف في منتصف المسرح ممسكا بعلبة طباشير. ليلى تجلس على الأرض ترسم دائرة صغيرة. آدم يراقب الباب كمن ينتظر شيئًا أو أحدًا لا يأتي)
آدم: (بصوت حزين) كان المفترض أن تصل الرسالة. أن ينكسر جدار، أن يظهر طائر يرفرف بحروفنا النازفة...
ليلى: (ترفع رأسها، تنظر إلى الطفل) لكن الرسائل لا تطير، كلما أطلقنا أمنية، ابتلعها صاروخ أو قناص أو خوف.
(صوت رعد خفيف من الخارج. الطفل ينهض ببطء، يتقدم نحو الجمهور، يحمل قطعة طباشير بيضاء)
الطفل: (ببراءة) هل تسمعونني؟ أنا لا أكتب لأبكي، ولا لأطلب صدقة من الرحمة. أنا فقط أكتب كي أعيش. كي تظل الحكاية. كي لا ننسى.
(يبدأ برسم دائرة على الأرض بالطباشير. ثم دائرة داخلها. ثم أخرى. يصمت. يرفع رأسه)
الطفل كل دائرة هي قبر. كل قبر هو بيت. وكل بيت... كل بيت كان لنا.
(يضع قطعة الطباشير على الأرض. يسير نحو الجمهور ببطء، يحمل في يده ورقة قديمة مطوية)
آدم: (يصرخ) لا تتركنا! قل لهم إننا لم نمت، قل لهم إن التراب ما زال يتنفس.
ليلى: (بصوت خافت يكاد لا يسمع) قل لهم إننا كنا نحب الحياة...
(الطفل يقف في مقدمة المسرح، يواجه الجمهور. يفتح الورقة، لكن لا يقرأ. ينظر فقط. ضوء خافت عليه. يرفع الورقة إلى الأعلى ببطء وكأنه
(يقدمها للسماء... يسمع همس جماعي من أصوات الأطفال .. غير مرئية .. تقول): نحن هنا... لا تنسونا...
(الضوء يخفت... الستار يغلق ببطء. الموسيقى تتلاشى كأنها تختبئ في الجدران)
صمـــت
ملاحظــة: ((لايجوز أخراج هذا النص أو الأقتباس منه أو أعداده دون موافقة المؤلف))