

حين تصبح الضمادة سلاحاً
لم أكن أظن، ولو في أكثر كوابيسي جنونًا، أنني سأجلس لأكتب هذه الكلمات يومًا ما. لكنني وجدتُ نفسي اليوم في قلب الجحيم ذاته؛ لا مجازًا ولا تشبيهًا، بل حقيقة تتسلّل إلى العظام.
أتحرّك بين الجثث والجرحى في ممرّات المستشفى، بينما الطائرات تحوم في السماء كطيورٍ جارحة، لا تعبأ بمن تكون فريستها، ولا تفرّق بين طفلٍ، ومريضٍ، وطبيبٍ؛ وكأنها تبحث عن بقعة دمٍ جديدة، صرخةٍ جديدة، وجسدٍ آخر يتمزّق على مرأى ومسمع العالم كلّه، ولم يتحرّك فيهم ساكن.
جئتُ إلى هنا بصفتي طبيبًا، رجلًا يرتدي معطفًا أبيض، يحمل سماعته وأدواته الطبية. لكنني اليوم أقرب إلى جنديٍّ أعزل، في معركة لا سلاح له فيها سوى مبضعٍ صغير، يواجه عدوًّا لا يعرف معنى الإنسانية، ولا يرحم.
كنتُ أظنّ، ربّما، أنني أستطيع النجاة من هذا الجحيم؛ لكنه كان تفكيرًا أحمقًا، لأنّ الواقع أحيانًا أقسى من أكثر خيالاتنا سوداويّة. كلُّ خطوةٍ أخطوها بين الأجساد المُلقاة على أرضيّة المستشفى، تصحبها صرخاتٌ مستنجدة، ودماءٌ تلطّخ الجدران وتغمر العيون، حتى لا ترى سوى الألم.
أشعر كأنّ العالم كلّه يُلقى بثقله فوق صدري. لا شيء هنا يذكّرني بتلك الأيام القديمة... أيام الهدوء والمختبرات، حيث كنتُ أقرأ في دفء مكتبةٍ صامتة، أبحث عن علاجٍ لمرضٍ ما، وأحلم بعالمٍ خالٍ من الأوجاع. كان حلمًا ساذجًا، سحقه الواقع.
لكن اليوم، أقف وسط هذا الخراب، حيث أصبحت الأدوية بلا جدوى، والعلاج مجرّد خرافة نخبر بها الجرحى لنزرع الوهم. لا أحد هنا ينتظر الشفاء؛ الكلّ يسعى للبقاء على قيد الحياة.
وجوه الجرحى مشوّهة إلى درجةٍ يصعب معها تمييز ملامحهم، كلُّ وجهٍ قصّةٌ من العذاب تتناثر في الأرجاء. يدَيّ ترتجفان وأنا أحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن كلما اقتربتُ من جسدٍ جديد، شعرتُ بأنّ شبح العجز يسكنني.
كيف أنقذ من فقد ساقه؟ من لم يعُد يتنفّس؟ أقف أمام الموت كطفلٍ في وجه إعصار، بلا سلاحٍ سوى علمي المحدود، وبلا قوّةٍ سوى إرادةٍ توشك على الانطفاء.
هذا المكان، الذي أصبحت جدرانه سجلاتٍ شاهدةً على الدمار، يدور فيه صراعٌ من نوعٍ مختلف؛ صراعٌ لا بين البشر، بل بين الأمل واليأس، بين الحياة والموت.
أرفع وجهي إلى السماء، أراها تمطر نارًا، وكأنها تدفن كل أمانينا في هواءٍ محترق. أنا الطبيب الذي لا يملك سوى قلمٍ يكتب حروفًا من وجع، وأيدٍ ترتجف، تلامس الجرح، لكنها لا تشفيه.
لم أذق النوم منذ فترة. كلما أغلقتُ عيني، رأيت الأطفال، أولئك الذين فقدوا أطرافهم، وسمعتُ صرخاتهم. وجوه الأمهات العالقة في ذاكرتي، وهنّ ينبشن الأنقاض بأظافر مرتعشة، بحثًا عن أبنائهن، تطاردني كالكابوس حتى وأنا يقظ.
اليوم، دخل علينا طفل لم يتجاوز العاشرة، نصف جسده ممزق، لكنه كان يتشبّث بذراع والدته الميتة، كأنها آخر قشّة في بحر الموت. حملناه إلى غرفة العمليات، بذلنا كل جهد، لكنّه لم ينجُ.
عندما غطيناه بملاءةٍ لينقل بجانب الجثث، لاحظت شيئًا صغيرًا في يده؛ كان يمسك بسيارةٍ صغيرةٍ مكسورة، لعبةٍ لم تتركه حتى في لحظاته الأخيرة. لستُ أبكي عادة، لكنني بكيت... بصمتٍ في داخلي.
الإمدادات الطبية نفدت، ولم يعد لدينا سوى مسكّناتٍ خفيفة. أجرينا بعض العمليات دون تخديرٍ كامل. لن أنسى وجه الرجل الخمسيني الذي بترنا ساقه؛ كان يعضّ على قطعة قماشٍ لئلا يصرخ، عيناه زجاجيتان كأنهما لا تنتميان لهذا العالم، ثم قال بصوتٍ مبحوح:
"لا بأس... المهم أنني حيّ، فالحمد لله على كل شيء."
كيف؟ كيف يملكون هذا الصبر الجبّار؟ كيف يستطيعون التبسّم وسط هذا الجحيم؟
سقط صاروخ قرب قسم الطوارئ، فتهدّمت أجزاء من المستشفى، وسقطت "سعاد"، تلك الممرضة التي لم تذهب إلى بيتها منذ بدء العدوان.
ركضنا نحوها، نحاول انتشالها من تحت الركام. كانت تنزف بغزارة، تمسك بيدي، وهمست بصوتٍ خافتٍ مرتجف:
"أنا بخير... اهتمّوا بالآخرين."
لكنها لم تكن بخير. ماتت بين ذراعي، قبل أن تحقق حلمها الصغير: أن تزوّج ابنتها.
ولكن... أيُّ ابنة؟ لا أخبار منذ بدء القصف، ولا أحد غادر المستشفى منذ أيام.
غطيناها بملاءةٍ متّسخة، مليئةٍ بدماء لا نعرف أصحابها، وتركناها هناك وحدها. لطالما كانت سعاد تأتي وجيبها ممتلئًا بالحلوى، توزّعها على الأطفال وتقول:
"الابتسامة دواء لا يُوصَف."
والآن، لم يبقَ من الابتسامة سوى ظلٍّ باهت، يختنق تحت الركام.
لم أعد أعرف أيّ يومٍ نحن. ربما العاشر... ربما المئة... ربما سنةٌ كاملة من الموت المتكرر.
خرجتُ للحظة إلى فناء المستشفى، نظرتُ إلى السماء التي تحترق بالصواريخ والقذائف، ثم عدتُ إلى الداخل، حيث الجرحى ينتظرون... عشراتٌ منهم، عشرات القصص التي لم تنتهِ بعد.
نحن لسنا مجرّد أطباء؛ نحن حُرّاس الحياة وسط ركام الموت، نقاتل بالمشارط والضمادات، نزرع الأمل في أرضٍ جدباء. نحاول، بكل ما تبقى فينا، أن نُبقي القلوب تنبض، حتى ولو بضعف.
الطعام شحيح، نحن نقتات على فتاتٍ من الخبز والماء، لكننا نمنح المرضى نصيبنا. لا أحد يشكو. لا أحد يتذمّر. كلّنا نعلم أن الشكوى رفاهيةٌ لا نملكها.
اليوم، فقدنا طبيبًا آخر.
الدكتور سمير، جرّاح الأعصاب، الذي لم يغمض له جفنٌ منذ أيام، خرج ليستنشق بعض الهواء، فمزقه صاروخٌ غادر. جمعنا أشلاءه في كيسٍ أسود، ووقفنا لحظة صمت... ثم عدنا، لأن لا وقت للحزن.
الأخبار تصلنا عن استهداف سيارات الإسعاف.
أصبحنا نعمل ببطء، بحذر، وكأنّ كل مريضٍ ندخله غرفة العمليات سيكون الأخير.
رأيتُ طبيبًا شابًا يبكي في أحد الأروقة. اقتربتُ منه، لم أجد كلمات... فقط وضعتُ يدي على كتفه. نظر إليّ بعينين غارقتين بالحزن، وقال:
"هل سننجو؟"
لم أملك إجابة. فقط عدتُ إلى عملي، لأنّ الأسئلة لم تعد تهم.
المدينة باتت أنقاضًا، والمستشفى شبه مدمّرة. ومع ذلك، ما زلنا نعمل.
في كل مرة نظن أن هذا هو اليوم الأخير، نجد أنفسنا أرواح تتجدد بها الحياة لعلنا ننجو هذه المرة ولكن الخذلان يعيد الكره فنقتل مرات بنفس الوسيلة واقفين كأننا نقاوم الموت ذاته.
انقطعت الإمدادات تمامًا.
لا مساعدات. لا معابر لنقل الجرحى.
الدول العربية؟ أداروا ظهورهم. نحن نموت وحدنا.
شعرتُ بالغضب، لكن... هيهات، فماذا سيفيد غضبي الآن؟
بدأنا نُعيد استخدام الضمادات القديمة، نصنع المحاليل يدويًا، ونعقّم الأدوات بالنار.
حتى التخدير صار حلمًا، والمرضى باتوا يتحملون الألم كما يتحمل المحارب السهام.
جاءتنا امرأةٌ تحمل طفلها الجريح، دموعها تنساب بلا توقّف، قالت لي:
"أنتم أملنا الأخير."
شعرتُ بثقل الكلمات، ولم أجد ردًا. فقط قلت:
"الأمل دومًا في الله... ولكن سنفعل ما بوسعنا."
تحوّلنا من أطباء إلى مقاتلين. وكلٌّ منّا يعلم أنه قد لا ينجو، لكنه يستمر.
في المساء، جلستُ بجوار نافذةٍ محطّمة، نظرتُ إلى المدينة المشتعلة، وقلت في نفسي:
"غزة لا تموت... غزة تنزف، لكنها لا تموت."
حاصرونا من كل جانب.
لا كهرباء. لا ماء. لا دواء. لم يتبقّ لنا سوى الصبر.
بدأنا نستخدم الأعشاب، والملاجئ أصبحت غرف عمليات.
الظلام والرطوبة يخنقان الهواء.
ثم جاء الخبر: قصفوا القافلة الطبية التي كانت في طريقها إلينا.
لم يتبقَّ لنا إلا بعضنا.
زملائي الأطباء أنهكهم الجوع، لكنهم يواصلون.
البعض يقول: "المدينة لن تصمد."
لكنني رأيت العكس.
رأيتُ شابًا مبتور الساقين يبتسم.
وأمًّا تهمس لطفلها الناجي: "ستكبر، وستبني كل ما دمّروه."
غزة ليست مدينة. غزة روحٌ تأبى الاستسلام.
ونحن؟ نحن حُرّاس تلك الروح...
نحاول أن نبقي نبضها حيًا، حتى لو بقي فينا نبضٌ أخير.
في اليوم التالي، استيقظتُ على صوت بكاءٍ خافت، كان صوت أحد الأطباء، يجلس في زاويةٍ مظلمة من غرفة العمليات. يداه مغطّاتان بالدم، وعيناه زائغتان، كمن رأى أكثر مما يحتمل عقلُ بشر.
لم أسأله شيئًا، فقط جلستُ بجواره، بصمت. في مثل هذه الأيام، لا حاجة للكلمات... الصمت وحده أبلغ من كل بلاغة.
الخوف أصبح شيئًا مألوفًا، كأنه أحد أفراد الطاقم الطبي. يدخل معنا غرفة العمليات، يشاركنا المشرط والمقص، وينظر إلى الجرحى بنظرةٍ مشفقة. لكنه لا يغادر... لا يتركنا أبدًا.
دخل علينا فتى في الرابعة عشرة من عمره، نصف وجهه محترق.
حاولتُ أن أضع الكمامة، لكنه أمسك بيدي وقال بصوتٍ متكسر:
– هل وجهي سيعود كما كان؟
نظرتُ إليه طويلاً، ثم قلت له كذبة صغيرة:
– بالطبع... ستعود أجمل من السابق.
ابتسم. مجرد ابتسامةٍ صغيرة، لكنها كسرتني من الداخل.
نحن نكذب كثيرًا هنا... نكذب بحب. نكذب لنُبقي الناس أحياء، نرسم الأمل على جدران المستشفى، كما يرسم الأطفال الشمس على أوراقهم، حتى لو كانت السماء تمطر موتًا.
في إحدى الزوايا، جلس ممرضٌ نحيل يربط جراح جريحٍ بقطعة قماشٍ ممزقة.
لم يكن هناك أي شيءٍ طبي في المشهد... لا مطهّر، لا خيط جراحي.
لكنه كان يفعل ذلك بإصرارٍ يشبه المعجزة.
سألته:
– هل تعتقد أن هذا سينفع؟
رد دون أن ينظر إلي:
– لا... لكنه الشيء الوحيد الذي لا يزال في وسعي فعله.
ربما كان على حق.
بدأتُ أشعر أن الجدران تهمس أحيانًا.
أسمع صوت من ماتوا هنا. سعاد تناديني من ممرٍّ مظلم.
الدكتور سمير يمرّ أمام باب غرفة الإنعاش ثم يختفي.
هل فقدتُ عقلي؟ ربما...
لكن الجنون هنا لم يعد عيبًا، بل هو ردُّ فعلٍ طبيعي على واقعٍ غير طبيعي.
حتى الآن، لم أكتب وصيّتي. لا أعرف لماذا...
ربما لأنني لا أريد أن أؤمن بأن النهاية اقتربت.
وربما لأنني ببساطة: تعبت.
تعبتُ من كل شيء: من صراخ الأمهات، من بكاء الأطفال، من نظرات الزملاء التي تقول: لن نتحمّل أكثر.
تعبتُ من كوني طبيبًا في عالمٍ لا يعترف بالأطباء، بل يعترف فقط بالدمار.
رغم كل هذا، هناك لحظاتٌ صغيرة... مجهرية... تمنحنا القوة لنواصل.
عندما ننجح في إنقاذ مريض،
عندما يخرج طفلٌ من غرفة الإنعاش حيًا،
عندما تضحك امرأة فقدت كل شيء، لمجرد أن ابنها مازال يتنفس...
في تلك اللحظات فقط، نصدّق أننا ما زلنا بشرًا.
بدأتُ أدوّن ما أراه، لا لأكتب مذكّرات، بل كي لا أنسى...
لا أريد أن تُمحى الوجوه من ذاكرتي، لا أريد أن تصبح معاناةُ الشعب مجرد خبرٍ عاجلٍ مرّ على شاشةٍ ثم اختفى.
في الليل، أكتب بجوار الشموع، بين صفير الطائرات، بين قصفٍ وقصف...
أكتب عنّا، عني، عنهم.
أكتب، لأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي لم يتم قصفه بعد.
قال لي أحد الجرحى اليوم:
– إذا متّ، لا تبكِ... فقط احكِ قصتي.
ووعدته أنني سأكتب، وسأروي، وسأحمل صوته معي حيثما ذهبت.
ربما لا أعيش طويلًا، ربما سيسقط الصاروخ التالي فوق رأسي، وسينتهي كل شيءٍ في لحظة...
لكنني حتى تلك اللحظة، سأظل هنا، في المستشفى، بين الحياة والموت.
أحارب ليس من أجل النصر، بل من أجل الكرامة...
من أجل أن لا تموت الحقيقة.
غزة لن تنكسر،غزة ليست بحاجة إلى الشفقة،
بل إلى أن يسمعها العالم.
أن يسمعوا صرخة الجريح، ووصية الشهيد، وهمس الطبيب الذي لم يعد يملك سوى الكلمات.
وها أنا أكتب... ولن أتوقف.
لأننا في زمنٍ تُقصف فيه الحقيقة،
صرنا نُمارس المقاومة... على طريقتنا.