

خمسة أطراف
في تلك اللّحظة عندما فتح عينيه ساوره شعور غريب بأنّ كامل جسمه مبلّل، بل إنّ بَنانه المجعّد كان يوحي للذّهن أنّه قد تمّ تخليله لأيّام وربّما شهور داخل دِنان كبيرة من الخلّ والملح، حتّى أنّه قد دسّ إبهامه في فمه يتذوّقه ولم يفهم حينها لما يفعل ذلك. رفع ناظريه للسّماء فأدرك أنّ المطر لم يزر هذه البقاع منذ أمد، وقال حينها في خلده إمّا أن أكون قد غرقت في دموع إحدى النّساء اللّواتي سمعتهنّ بالأمس يبكين؛ وإمّا أنّني غارق في الدّماء. ولم تتلطّف الشّمس بأن ترسل ضوءَها الكشّاف حتّى يتبيّن لون محيطه إن كان أحمر فعلا، كانت الشّمس هناك في السّماء حتما؛ في زاوية ما يحاول شعاعها أن يتسلّل من بين الغازات وأعمدة الدّخان والألوان القاتمة، لكن عبثا؛ المشهد كان رماديّا ضبابيّا، والطّريقة الوحيدة ليفكّ خالد لغز حالته وحلّته هذه كانت أفظع شيء قد يقوم به شخص ما خلال الحرب؛ التّذكّر؛ أن يتذكّر ما مرّ به صبيحة اليوم ليفهم حالته هذه.
صبيحة اليوم كان رجلا طبيعيّا، استيقظ وجلس رفقة وحيدته خولة ذات السّنوات الاثنتي عشرة، البنات يكبرن بسرعة والبنات اللّواتي ينشأن تحت الأحمال الثّقيلة يكبرن أسرع؛ دائما ما تردّد النّسوة هنا هذا القول. كانت خولة الأنثى الوحيدة في البيت ومثلها كان والدها خالد الرّجل الوحيد، توفيّت زوجته قبل ثلاث سنوات، والموت في هذا الجزء من العالم لم يكن أمرا جللا، إذ كان الأهالي مضيافين، لا يوجد بيت هنا لم يدخله ولا يوجد شخص لا يعرف أمارات قدومه، أحيانا يكون لبِقا فيدقّ الباب ويمهل ساكني البيت تنظيم أمورهم، وأحيانا أخرى يكون فظّا فيكسر النّافذة ويدخل، أو يهدم المنزل برمّته على رؤوس أهله.
وكانت خولة غزالة تنشر الحياة في غابة معزولة؛ بحركاتها الخفيفة في أرجاء البيت، لدرجة أنّك ستدقّق النّظر لتتأكّد هل هذه الفتاة حقّا تدوس الأرض عندما تمشي؛ أم أنّها تنطّ أو ربّما هي تطفو. وحسب ما يتذكرّه خالد، اليوم يوم الإثنين، وعندما استيقظ كانت جدران البيت تعبق برائحة الفطير، إنّ النّساء هنا يتعلّمن أشياء عجيبة فيما يتعلّق بالطّعام؛ كيف تصنع الخبز الأبيض من دقيق أسمر؛ أو كيف تُقنع معدتك التي لم يزرها أكل منذ ثلاثة أيّام أنّها متخمة؛ أيديهنّ كانت ماهرة في تحويل ماهية الأشياء كمّا ونوعا.
وبعد أن اغتسل خالد وقف للحظة على عتبة المطبخ وهو يتأمّل خولة التي قد أعدّت المائدة، بينما كانت رائحة الفطير تحتويه كلّما أخذ شهيقا؛ دنا من ابنته خولة ليفعل شيئا ما لا يتذكّره الآن، على الأغلب كان عناقا، لكن حدث شيء ما؛ سمع الكثير عنه ورآه كثيرا لكنّها كانت أوّل مرّة يعيشه، كأن توضع داخل بالون منفوخ ثمّ يفجرّه أحدهم وأنت هناك بداخله، كانت تلك الدّقيقة أو ربّما الثّانية أشبه بلحظة اليقين التي يتحدّث عنها النّسّاك ويعجزون عن وصفها، يحدث فيها الكثير لكن تعجز بالمقابل كلّ المعاجم عن التّعبير عنها. لكن الآن عندما فتح عينيه ورأى التّفاصيل التي حوله أدرك أنّ كلّ ما في الأمر هو صاروخ، صاروخ أطلقه شخص ما وهو يرتشف فنجان قهوته الصّباحيّة، أو ربّما أثناء حديثه مع زوجته عبر الهاتف. وذلك الصّاروخ صنع هذه التّفاصيل التي يمكن التّعبير عنها بقول "لا شيء هنا"، فقط مكان دون أيّ معالم واضحة، ولأنّ الكثير من الأماكن هنا صارت دون معالم واضحة، فهذه البقعة إذن لم تعد مكانا مميّزا، لكنّ السّؤال الذي طرحه المكان: إن كنتَ أنتَ يا سيّد خالد حيّا الآن؛ وهذا الرّماد والحطام هو بيتك؛ فمن أين جاءت هذه الدّماء التي تغطّي جسمك؟
تأكّد خالد من أنّها دماء إذ بدأت التّكبّد على ثيابه، وقد قال في خلده مرّة ثانية بينما كان يقف على قدميه؛ يبدو أنّ الأطباء كاذبون؛ يقولون إنّ الجسم يحتوي على ستّة لترات من الدّماء لكن أظنّ الكميّة أكبر من ذلك، إلّا إن كانت بعض الدّماء تتبخّر بمجرّد خروجها من أجسادنا.
وقف خالد وعندما يقف رجل في مثل هذا المكان والزّمان؛ فهو لن يقف حتما ليطلق صرخة أو رثاء أو استغاثة لأحدهم، قد يفكّر شخص آخر بعيد عن هذا المكان في ذلك، لكن خالد كان هنا في الوسط دون أريكة أو تلفاز يشاهد عليه هذا المشهد؛ كان هو المشهد في حدّ ذاته، والشّيء الجدير بفعله الآن هو أن يُحيل ذراعيه مجرفة ويبدأ البحث عن شيء يمكن أن يشير إليه ويقول هذه ابنتي.
ولم يكن الأمر صعبا، إذ أنّ الآباء يعرفون جيّدا أيادي بناتهنّ، ملمسها وشكلها وكأنّ هناك رابطة مقدّسة بين يد الأب وابنته. كانت هناك؛ ذراع قصيرة مرفوعة تقول أنا هنا، كانت ذراع خولة أشبه بعود ثقاب محترق، وضعها أرضا وبدأ الحفر أكثر فوجد قدَما؛ ثمّ قدما أخرى؛ وذراعا ثانية؛ ثمّ جلس قليلا ليتنفّس، أخذ نفسا عميقا وجهّز نفسه للمستوى الأصعب الآن؛ إنّه الرّأس؛ الرّأس يحوي العينين، والعين انعكاس الرّوح. سيكون الأمر ثقيلا أن تجد رأس ابنتك تحت كومة من الحجارة؛ بدل أن تراه ليلا قبل النّوم هناك فوق وسادة دافئة. وباشر البحث وظهر شيء ما؛ كانت ذراعا؛ ذراع ثالثة؛ وأغمض خالد عينيه وحاول أن يصحّح ذاكرته، هل كان لابنته ثلاثة أذرع؟ أم أنّه لم يكن هو وابنته فقط هناك؟
انتصب كسارية علم وأرسل نظره في الجهات الأربع، ربّما هناك من يبحث هو الآخر عن ذراع، ربّما من قوة الانفجار طارت ذراع شخص ما ووصلت إلى هنا، لكنّه لم يرى شيئا، وضع الذّراع الثّالثة أرضا وواصل البحث، قلّب كلّ حطام البيت ولم يجد رأسا، رأس صغيرة بحجم يقطينة غير ناضجة، لم يجدها ولم يجد أيّ شيء يشبهها حجما أو شكلا. جلس القرفصاء ونظر إلى الرّسم الذي صنعه، ذراعان وقدمان، لم يكن هناك رأس ومن الغباء أن تبحث عن بقيّة الجسد، وابتسم ابتسامة خفيفة؛ تذّكر كيف كان يرسم الأشخاص في طفولته، يرسم فقط دائرة تمثّل الرّأس، مع خطوط تمثّل الذّراعين والقدمين. نظر إلى الذّراع الثّالثة، حملها ثمّ وضعها مكان الرّأس المفقودة، وفكّر في أنّ هناك شخصا آخر في مكان ما يضع رأس خولة مكان ذراع ابنته أو وولده، ثمّ قال: لا يهم، المهمّ أنّني وجدت ما يمكن أن أملأ به قبرا. احتضن الأطراف الخمسة وبدأ المسير نحو مكان ما. لكنّ فكرة أخرى قاطعته؛ حكّ عقله سؤال عميق: ماذا ستكتب على شاهد القبر؟ هل ستكتب اسم خولة؟ أم هنا ترقد أطراف ابنتي خولة؟ لكن هناك ذراع إضافيّة لشخص ما؛ إذن لأكون عادلا سأكتب فقط: هنا ترقد خمسة أطراف.