الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم سراب غانم

رمَّانٌ مالحٌ

ما يحدثُ في الحقيقةِ يشبه المعجزة. أن تُثمرَ شجرةُ رُّمَّانٍ أطفالاً، ليس أمراً غيرَ شائعٍ وحسب، بل مستحيلٌ أيضاً من ناحية الخَلق والطبيعة. لكنْ عندما يتكرّر هذا الحدثُ منذ عشرات السنين إلى الآن، فإنّه يتحوّل إلى حدثٍ طبيعيٍّ جداً، ومُنتَظَر.

حدَثَ أن تفتَّحتْ على أغصان شجرةٍ ضخمةٍ أزهارُ جلّنار، وحملتْ ثماراً لها شكلُ فاكهةِ الرمّان، رأسٌ صغيرٌ مدبَّب، وجسدٌ مدوَّرٌ أحمر اللون. وعندما كبرتْ، نبتتْ على جانبيها يدان صغيرتان كحبّتَيْ فاصولياء، ثمّ قدمان استطالتا بشكلٍ تدريجيّ، حتّى أخذتِ الفاكهةُ هيئةَ الجنين، وبدأتْ تسقطُ عشراتُ الأجنّةِ في كلّ موسم.

ذكورٌ وإناثٌ يتجمّعون تحت الشجرة بأجسادهم الغضّة، يتخبّطون عشوائيّاً في تربةٍ يختلط فيها صوتُ بكائهم بصرخات البدء، ثمّ تأتي نساءُ القرية لتتلقّطَ الصغارَ وتعتني بهم.

هناك أسطورةٌ يحكيها سكّان المنطقة فيما بينهم، ويقصّها الكبار للصغار، تقول:

منذ حوالي ربع قرن، كانت هناك امرأةٌ تغسل الثياب بمياه نهرٍ على أطراف إحدى القرى الواقعة أعلى التلّ المطلّ على وادٍ سحيق، أتاها مخاضٌ مبكّر، وبمساعدة النساء اللواتي يجلسنَ حول النهر، انتهتْ من ولادةٍ كانت مستعصيةً فوضعت ولداً ميّتاً.

أمسكتِ الأمُّ الحزينةُ بيديها المرتجفتَين قطعةَ اللحم الصامتة التي خرجتْ من رحمها النازف بشدّة، حفرتْ حفرةً صغيرةً بجانب النهر، ثمّ أهالتِ التراب على جسد ابنها الضعيف، وهي تبكي حرقةَ انتظار قدومه الطويل.

وبعد مضيّ أسبوعٍ على تلك الحادثةِ الأليمة، لمحَ أهلُ القرية شتلةً صغيرةً تنمو فوق التربة بسرعةٍ غيرِ مألوفة، راحتْ تكبر يوماً بعد يومٍ من تلقاء نفسها، حتّى بلغتْ بعد شهورٍ قليلةٍ حجمَ شجرةٍ ضخمةٍ لها جذع قويٌّ وعريض، تعلو أغصانَها أوراقٌ خضراء طولانيّة، وزهورٌ حمراء جميلةٌ أخذتْ تتبرعم بين أوراقها. وحين يأتي موسمُ نضوج الرمّان، تُنجب أطفالاً كأشكالنا تماماً، يبكون ويضحكون ويأكلون ويشربون ويلعبون وينامون. إلّا أنّهم عندما يبلغون سنَّ النضج، كانت تكسو أجسادَهم طبقةُ جلدٍ خشنةٌ سمراءُ كقشور الخشب، ويعلو رؤوسَهم شعرٌ كثيفٌ أخضر، ورائحةٌ واخزة تخرج من أجسادهم تشبه رائحةَ التراب المبلول.

اعتاد أهلُ القرية هذا الاختلاف، تعايشوا معه بحبّ، كانوا سعداء جدّاً بأولادهم الجدد، لدرجة أنّ بعض النسوة امتنعن عن إنجاب الأطفال أو الزواج أصلاً. ففي كلّ عامٍ يأتيهم عشرات الأولاد من الشجرة الأمّ، وقد أصبح عددُهم يفوق عدد باقي سكّان القرية بين أطفالٍ، وفتيانٍ ونساء ورجال.

بقيَتِ القرية على هذه الحال حوالي نصف قرن تقريباً، إلى أن زارها فجأةً أناسٌ غرباء، يحملون على أكتافهم أدواتٍ كبيرةً حادّة، فؤوساً ومناشير وغيرها بحجّة استثمار خشبها للمدن البعيدة.

في البداية، اعترض أهل القرية جميعهم، واستنكروا ما جاء أولئك لأجله، فهم يعتبرون أنّ جمال قريتهم بكثافة شجرها، وأنّ اعتمادهم الأوّلَ والأخير في قوت يومهم على المحصول، وفي تجارتهم على ما تثمر هذه الأرض وتُنبت.

لجأ الغرباء إلى طريقةٍ يجبرون فيها الأهالي على الرضوخ لمطلبهم، فتفاوضوا مع كبارهم كالمختار وكلّ من له كلمةٌ مسموعةٌ يفرضها على السكّان. انتهتِ المفاوضاتُ بموافقة أولئك الكبار على قَطْع كلّ الأشجار مقابل التجارة بخشبها مناصفةً بين الطرفين، الأمر الذي زاد من حدّة ثورة الأهالي واعتراضهم، فهم الطرف الوحيد الخاسر لكلّ شيء في هذه القسمة.

لذلك، عمد الطرفان الآخران إلى أسلوب تخويفهم ودبّ الذعر فيما بينهم، حيث لجأوا إلى التهديد بإنهاء حياتهم وحياة أبنائهم إن لم يقوموا بتسليم أراضيهم. بدأ الأهالي يتشاجرون، وكثرت النزاعات والخلافات فيما بينهم، فانقسموا إلى مجموعات: مجموعة وقفت على الحياد وكأنّ الأمر لا يعنيها إطلاقاً، ومجموعة أخرى قامت بمساعدة الغرباء وكبار القرية مقابل ضمان بقائها على قيد الحياة، وإن كان الثمن هو التخلّي عن مصدر حياتها ورزقها ومجموعة قليلة بقيَتْ معترضةً على كلّ ما يجري، ولكنْ بصمت.

أمّا أبناء الشجرة.. فهؤلاء وقفوا معاً في وجه الأطراف الثلاثة بأرجُل ثابتة بقوّةٍ في التراب، غرسوا جذوعهم الصلبةَ في أرضهم، وأخذوا يسقطون واحداً تلو الآخر، ومثل الأشجار التي قُطِّعَت جذوعُها بالفؤوس كانت أجسادهم تُبتَر، هكذا بنفس الطريقة، تنزف سائلاً أحمر اللون يشبه عصير الرمّان لكنَّ طعمَه مالح.

حين جاء بعدها موسم قطف الرمّان، "قطف الأطفال الجدد"، ذهب أهالي القرية إلى تلك الشجرة الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة، بسبب بُعدها عن أعين الغرباء، وتحفُّظ أهل القرية جميعهم على سرّها.

عندما وصلوا إليها، رأوا الأجنّة قد تحوّلت إلى جثثٍ، نصفها معلّق بمشانق تتدلّى من الأغصان وتلتفّ حول أعناقهم، ونصف آخر يطفو كقطع خشب صغيرة على وجه النهر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى