الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمود مقدادي

روحٌ وَجَسَدٌ.. يَفْتَرِقانِ

سامحني يا هذا الجسد، فلقد أنهكتُكَ معي طيلة حياتي المُثَقَّلَةِ بالنِّضال. وكم من فرصة واتتني لإراحتك، وجعلك تُقبِلُ على الحياة بكُلِّ ملَذّاتِها، فأبَيْتُ إلّا الاعتصام أكثر بِدِيني ووطني. وها نحنُ قد بلغنا النّهاية، دون أنْ أمنحك لحظة واحدة تَسْعَدُ بها في هذه الحياة. وفوق هذا،سأغادر وحيدًا صوب الجَنَّة، وأتركك هنا، لقمة سائغة لأيدي أولئك الجبناء، وفي الآن ذاته، شاهدًا على معاناة وكفاح شعبنا الفلسطيني الجريح.

أيا هذا الجسد. هل أنت غاضب مني؟ أتؤلمك هذه الذِّراع المبتورة؟ أرجوك لا تفعل. لا تدعني أرحل، وفي قلبي وَخْزُ عدمِ رِضاك عنّي. ألا يكفيك ما سَتَبُثُّه في نفوس الشُّرفاء من أمل؟! ألا يُعَزّيك أنّ أقوامًا من غير أبناء جلدتنا، سيعلمون بسببنا وجهة الحق، ويُناصرون قضيتنا، بعدما قضوا ردحًا طويلًا من الزمن، مُضَلَّلين بوسائل إعلامهم المُتحيِّز؟ أعلمُ أنّني قد بالغتُ بالقسوة عليك، لكنَّكَ تدري، أنّي ما أردتُ إلّا رضاء الله، والإبقاء على حقِّ وطنِنا ساطعًا، ولو تآمرتْ علينا كل قوى العالم الغاشمة.

أيُّها الجسد المُتْعب، لقد آنَ لك أنْ تخلُدَ للراحة، ها أنا أستشعرُ قُربَ ملائكة الرّحمة. وكأنّ الله يُكرِمُني بِنَسَماتٍ من الجنَّة، تُواسينا في لحظاتنا الأخيرة هذه. عَلَّها تشملُ جميع أهل غَزَّة، فَتَزِفُّ لهم البشرى بأنّهم هم الفائزون. حتّى وأنا على حافّة الموت، لا أنْفَكُّ أفكر بهم، وينهشني الذّنبُ اتِّجاههم. أتُراني أخطأتُ فيما فعلتُ. أكنتُ أنا السّبب المباشر، في تدمير حياتهم، وإحالتها جحيمًا، بعدما كانوا كغيرهم من شعوب العالم، يعيشون حياتهم طبيعِيًّا، ويأتيهم رزقهم كل يوم؟!

ساعدني أيُّها الجسد، فليس غيرك هنا أُحدّثه، وأَبُثُّ إليه آهات الوداع. حزينٌ على نفسي وعائلتي. حزينٌ على رفاق السّلاح، يُجاهدون في سبيل الله وهم لا يجدون ما يأكلون، جوعٌ وَعَطَشٌ وبردٌ يُفاقمُ أوجاعهم. حزينٌ على غزّة وأهلِها، وها قد باتوا يرون الموت أجمل من الحياة. حتّى أنّني حزينٌ على إخوتي من أبناء العالم الإسلامي والعربي، فأنا أعلم أنّ الشّرفاء فيهم كُثُرٌ، وهم يَتَمَزَّقون عجزًا وقهرًا على ما لحق بإخوانهم في غزّة. يَوَدّون لو يُناصروننا بأرواحهم، فلا يجدون سبيلًا. تَضيق بهم أنفسهم، وتضيق عليهم الأرضُ بما رَحُبت. الله وحده يعلم بما يعتصر قلوبهم، وبِما يُعايِشون من هَمٍّ في قرارة أنفسهم. طموحاتهم باتوا يرونها تفاهاتٍ. بل إنّهم صاروا يخجلون من قولِ أنّ كَدَرًا أصابهم، اسْتِحْياءً من أطفال ونساء ورجال غزّة. هؤلاء، أحزنُ وَآسَفُ لأجلهم، لِتَيَقُّني أنَّهم يَحْيونَ معاناةً تكادُ تُقارِبُ معاناة الغَزِّيِّين. فعلى الرغم منْ أنَّهم فعليًّا ما بيدهم حيلة، إلّا أنّهم يشعرون بِذَنْبٍ مستمر. يرون أنّ حياتهم الهادئة، خطيئة يستحقون العقاب عليها. أكثرهم فقراء، وبالكاد يُحَصِّلون قوتَ يومهم، ومع هذا، غدوا فجأة يعتبرون أنفسهم يعيشون في بَذَخٍ وثراءٍ فاحشٍ. طعامهم القليل، صار تبذيرًا، إسرافًا سيحرمهم من دخول الجنَّة. نعم أيُّها الجسد، لا تَحْسَبَنَّ الأمّة بأكملها استَغْنَتْ عنّا، فهؤلاء الأحرار موجودون وبكثرة. هم ذئابٌ، وذئابٌ ليست بنائمة، وإنّما مُقَيَّدَةٌ، وتبحثُ عن سبيل لكسرِ قيودها! هل حصل ورأيتَ أسمى من هكذا مشاعرٍ؟! أرجوك أجبني يا هذا الجسد، هل أنا أذْنَبتُ بِحَقِّ هؤلاء الذين يكادون يَيْأسون من دخول الجَنَّةِ، ليس قُنوطًا من رحمة الله، بل إجلالًا وخَجَلًا مِنّا ومن غزّة؟ أأنا من سَخَّفْتُ أحلامهم، وَتَفَّهْتُ طموحاتهم، وجعلتُ من مشاكلهم الحياتيّة وهمومهم اليوميّة، أمورًا سطحيّة، عليهم عدم إعطائها أهميّة تُذكر؟ يا ويلي، كم أشعر بالرّعب الآن! يبدو أنّ الكثير من الأموات والأحياء على حدٍّ سواء، ينتظرون القِصاص مِنّي.. يا وَيْلي.

هَوِّني عليكِ أيُّتها الرّوح الطَّيِّبَةِ. هَوِّني عليكِ واهْدأي. لا تَدَعي يقينك وأملك بالله يَتَزعْزَعان بعدما حَقَّقَ لكِ ما صَبئتِ إليه طيلة سِنِيِّ حياتنا. ها أنتِ على بُعْدِ وقت قصير من لقاء ربٍّ رحيمٍ، وَرُسُلٍ وأنبياء كريمين، وَمَنْ سبقوكِ مِنْ شهداء غزّة، بِمُجاهِديها وأطفالها ورجالها ونسائها. سيكونون فرحين باستقبالِك. إيّاكِ وأنْ يحيد بِكِ الظَّنُّ، فَتَتَوَهَّمي أنّهم لا يطيقون صبرًا لتقريعِكِ ومعاقبتَكِ. أنتِ في النّهاية نَفَّذتي مشيئة الله المُقَدَّرَةِ منذ الأزل، وَنِيَّتُكِ كانت خالصةً لهُ، لا تبغي مالًا ولا رياءً. لقد أحْيَيْتِ الأمل في الأنفس، وأرجعتي فلسطينًا لصدارة قضايا العالم، بعدما قَضَتْ قوى الظُّلْمِ عقودًا عديدة لِدَثْرِها. لا بُدَّ أنّ جميع أطفال العالم يسألونَ الآن "ما هي فلسطينٌ؟". يبحثون في قضيّتنا، وَيَتَرَعْرَعون على إدراك أنّنا أصحاب الحقِّ، وأنّ أعداءنا ما هم سوى حفنة من مجرمين، استغلّوا أموالهم ونفوذهم للتآمر على أهلِ هذا البلد الطَّيِّبِ، وتجنيد ضِعافِ الأنفس من أبناء جِلْدَتِنا، لتحقيق مآربهم، وَقَلْبِ الحقِّ باطِلًا، والباطلِ حَقًّا.

يا هذه الرّوح الطَّيّبة، ما بالكِ تسألينَني السَّماح، وأنتِ من عاوَنتينَني على التَّشَرُّفِ، حتى آخر نَفَسٍ، بطاعة الله تعالى، والذَّوْدِ عن الإسلام، ونصرة المستضعفين؟! ها قد رأيتُ كثيرًا مِنْ مَنْ آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وَتَقَلَّبوا في مَلَذّات الحيّاة وَتَرَفِها، يَظُنّون أنَّ أرواحَهم هانئة، وأجسادهم فَرِحةً، دون إدراكهم أنّ تلك الأرواح والأجساد، ترجوهم النّظر لغزّة وأهلها، واتِّباع نهجهم، حيثُ النّعيم الحقيقيّ يمتَدُّ لِما لا نهاية، وليس بضع سنينٍ، كأنّنا لم نحيا منها شيئًا، ساعة يباغتنا الموت.

ألم تعلمي أيُّتها الرّوح الطَّيِّبة، أنّني حمدتُ الله ليلَ نهارٍ، بأنْ اصطَفاني لأكون الجسد الذي ستسكنه روحٌ، لن ولم تخضع إلّا لله. وستسير، وقد سارتْ، على نهجِ رسول الله وصحابته، بمحاربة أعداء الدّين، وإن كانوا أكثر عُدَّةٍ وعتادٍ؟! يالَحَجْمِ خَجَلي، ويالَعظيم تواضعِكِ يا هذه الرّوح النَّقيَّةِ! بعد كلِّ ما قدَّمْتيه وبذلتيه، تخافين أنْ يخيب مسعاكِ! تَكَلَّمْتِ بدايةً، فَواسَيْتيني. ثمَّ سمعْتُكِ تُبدينَ مخاوفًا هَجَسْتُها مستقرَّةً في قرارتك أكثر من حديثِكِ الأوَّل. أكنتِ إذًا تُهَوِّنينَ عَلَيَّ بدايةً، حتّى إذا رَكَنْتِ إليَّ، رُحْتِ تَجيشينَ دون مواربة بما يختلج في قريحتك؟! ألا ترين أيَّتُها الرّوح الطّيّبة، أنَّكِ تُحَمِّلين ذاتك فوق طاقتها، حتّى وأنتِ على وشك قطف ثمار صبرك وإحسانك وجهادك؟ ماذا ستقول باقي الأرواح إنْ سمعَتْكِ؟ تلك الأرواح التائهة والهائمة كما البهائم، في الملذّات والشّهوات. أرجوكِ يا هذه الرّوح المُصطفاةِ، لا تُجهدي نَفْسَكِ أكثر. فأنتِ من آنَ لكِ الأوان أنْ ترتاحي. أما أنا، فَعَلَيَّ إكمال مهمَّتي حتّى بعدما تُغادرينَني. صورةُ جُثماني ستصل للعالم أجمع. هؤلاء الصّهاينة الجبناء، ومن دون أنْ يشعروا، سيجعلون من هيئة جثماني أيقونة عالميّة للمقاومة والبسالة. سيكون بِوِدِّهِم لو صَوَّروني بين أرتالٍ من المال، وأطنانٍ من الطّعام. ولو أرادوا استغفال النّاس أكثر، لأحاطوني بالجواري. ادِّعاءً وزورًا وَبُهتانًا بأنّي تَركتُ الغَزِّيّين لمصيرهم المحتوم، وَلُذْتُ بملاذٍ آمنٍ. ولكنْ مهما بلغ مكرهم، فالله خيرُ الماكرين. بأيديهم، سيرسلون مشهد جثماني للعالم أجمع. سَيُثْبِتون هم بأنفسهم أنّنا لم نجزع من الموت، ولم نختبئ. بل كُنّا في طليعة المجاهدين. لا فرقَ بيننا وبين أصغر مجاهدٍ فينا. ستَحدثُ مقارناتٍ كثيرةٍ، ما بين قائدٍ يسيرُ بين النّار والقذائف، وما بين من يَصِفونَه برئيسٍ للوزراء، يُبقي على حياة ابنه آمنة في بلاد بعيدة، فيما يُرسِلُ أبناء جلدته للموت. نعم أيُّتها الرّوح الطَّيّبة، مهمّتي لم تنتهي بعد.

سأُطمئن أهلكِ أوّلًا، بأنّكِ قضيتِ نَحْبَكِ مُقبِلَةً غير مُدبِرةٍ. كما سأقول لجميعِ الفلسطينيّين دون استثناء، أنّ عدُوَّنا لنْ يُهْزَمَ إلّا بجهادِنا في سبيل الله، وأنّنا مهما سلكنا من دروبٍ بعيدة عن الاعتصامِ بالله، فَلَنْ تزيدَنا إلّا وبالًا وَخُسرانًا. هَيَّا أيَّتُها الرّوح الطَّيّبة، لقد آن الأوان. ساعديني بِحَملِ هذه العصا التي أتَّكئُ عليها، وَلْنَرمِها بعيدًا. عَلَّها تَصِلُ أبناء أُمَّتِنا الإسلامِيَّة، فَتوقِظُهم، أنَّ العدوَّ وإنْ حاربنا بأحدث الأسلحة، فإنّنا على استعداد لِمُقارَعته بِجَسَدٍ مَدْمِيٍّ، وَعَصا.

وداعًا أيَّتُها الرّوح الطَّيِّبة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى