السبت ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥

زبيبة – الجدّة ماكِدّا

روايةٌ تشتبكُ مع الموروث العربيّ الجاهليّ وتنتصرُ للأنوثة والأمل

يعودُ الأديبُ الدكتورُ خالد عبد الرؤوف الجبر إلى التاريخِ، ليعيدَ تخييلَ سيرة (زبيبة)، والدة عنترة بن شدّاد، من خلالِ روايتِهِ الجديدة "زبيبة – الجدّة ماكدّا"، عبر سرد ذاتيّ تتكلّم فيه المرأة التي طُمست سيرتُها، ونُسجت حولها الأساطير بوصفها هامشًا في سيرة ابنها الفارس الشّاعر.

تنهض الرّواية على فرضيّة سرديّة تمنح زبيبة صوتها، لا بوصفها مرويًّا عنها، بل راويةً لحياتها، تُمسك بالخيط السّرديّ من أوّله، وتعيد ترتيب وقائع الاغتراب والعبوديّة والنّجاة والولادة.

تُفتتح الرّواية، وقد صدرت حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون"، في عمّان، بمقدّمة إيهاميّة تنبني على مخطوط يكتشفه الناقد د. إحسان عبّاس (رحمه الله) صُدفة، عبر حواريّة مع دليله السّياحيّ "رَيحانة"؛ الحفيدة الأخيرة لزبيبة. غير أن السّرد الأساسيّ يجري بلسان زبيبة نفسها، في حَكْي متدفّق، واعٍ، يتنقّل بين الذّاكرة والحدث، بين الحبشة والجزيرة العربيّة، بين الطُّفولة والرِّقّ، بين الوجع الشّخصيّ والتّحوّل الثّقافيّ.

يمثّل صوت زبيبة، في بنيته العميقة، فعل مقاومة سرديّة يُمكّن الضّحيّة من الحَكْي من الدّاخل، ويقلب معادلة السّرد التّقليديّ، حيث لا يُعاد تمثيلها بوصفها تابعة لبطولة عنترة، إنّما باعتبارها نواة لحكاية أخرى، سابقة عليه، وموازية له. يتشكّل النّصّ من طبقات صوتيّة وتاريخيّة ولغويّة، وتُبنى الشّخصيّة عبر مونولوغات داخليّة، ونبرة حادّة تصنع التّوازن بين الكتمان والإفصاح.

تشتبك الرّواية مع الموروث العربيّ الجاهليّ من جهة، والمخيال الحبشيّ من جهة أُخرى، وتتناول موضوعات الهويّة، والأنوثة، والعبوديّة، والدّم، وقسوة الاستلاب، واستبقاء الأمل، من خلال بناءٍ لغويّ مشدود، فصيح، يتحرّك بين الإيقاع الملحميّ والاعتراف الحميم.

في زبيبة – الجدّة ماكدّا، لا نسمع صدى التّاريخ الرّسميّ، بل نسمع الكلمة التي لم تُقَل، ونرى الوجه الذي طُمِس ولم يُنقل. إنّها رواية تكتب ما رفضتْه تَعالياتُ المجد الواهم، وتُفكِّك السّرد البطوليّ من حيث لم يُكتب أصلًا.

وقد جاءت الروايةُ في ستينَ جزءًا، حملَ كل جزءٍ منها عنوانًا خاصًا، متكئةً على لغة تصويرية، ذات بعد شاعري، من أجواء الرواية نقرأ مقتطفًا من جزئها الأول (ظِلٌّ وجَمرة):

"كانت السّماء تمطر برفق، ثمّ يتوقّف هطلُها، كأنّها تَنْشِج على حافةِ الذِّكرى. وقفتُ حافية القدمين على تلّة عالية في طرف قريتنا أَمْكِسُوم، أُشرف منها على السّهول الغارقة في الضّباب، وأتطلّع نحو الطّريق المُوحلة الطّويلة الّتي لا تُفضي إلى شيء… سوى الانتظار.

كثافة الضّباب تحجب الطّريق عن عينيّ، تمامًا كالغشاوة الّتي تُغلّف قلبي، تصاحبني بلا فِراقٍ في صحوي والمنام، وتطوّقني بحجابٍ من أسًى شفيفٍ كلّما ظننتُ أنّها انقشعت.

ضفيرتي الطّويلة تتدلّى على كتفي اليمنى ثقيلة، تشدّني إلى الأرض؛ كما لو أرادت أن تنغرس في التّراب مثل وتدٍ يتعطّش للدّقّ… أُحسُّ بقَيدٍ لا يريد أن يفلتني، ولا أعرف كيف أفلته.

سواري النّحاسيّ يُقيّد معصمي بذكراه. أتحسّسه مداعبةً لأتأكّد من وجودي: أما زلتِ أنتِ، يا ماكِدّا؟ وكلّما لمستُه، ثارت هواجس الأسئلة فيّ كدخانٍ بلا نار: أما زالت فيه بقيّةٌ من ذكرياتِ أصابعه؟ أما زال قلبه يحسّ بهذه الرّعشة اللّذيذة تسري تحتَ جلدي؟

سأعود قبل أن يسقط المطر القادم. هكذا قال أَليمايُو وهو يضمّني في وداعٍ سريع، يخبّئ ابتسامته في عنقي كمن يدفن السّرّ في التّراب.

ركب النّهر مع التّجّار نحو الأدغال، يحمل حَرْبَتَه، وصُرَر الذُّرة، والحبالَ، وقطيعًا من الأمل. قال إنّه سيعود محمّلًا بجلود الفهود، وأقمشةٍ ملوّنة، ومهرٍ يليق بامرأة تنتظر.

لم يكن بيننا سوى وعدٍ وابتسامة. لكنّه اقترب منّي كما يلفُّ الضّباب بتلات الورد في السّهل الممتدّ الرّيّان بالخُضرة النّاعسة؛ لمسةٌ هيّنة تكاد لا تُرى، لكنها تركت على جلدي أثرًا لا يمَّحي.

كان ذلك في الزّريبة المتهالكة خلف البيت، حين مرّت أنامله على خاصرتي اليُسْرى في صمتٍ عميق، كأنّه يتلو صلاةً خفيّة بأطراف أصابعه، ثم انسحب بهدوءٍ كالماء إذا خَجِل… لكنه لم ينسحب من دمي.

لم تغادرني لمستُه، ولا وعدُه، ولا تلك الابتسامة التي اختبأت في عنقي، ومضى يخطُو ولا يلبثُ يتلفّتُ بعينين مُفْعَمَتَين بالبريق.

شهقتُ حين تذكّرتُ، كما شهقتُ يومها… حين تفتّحت فيَّ نافذةٌ لا أعرف كيف أُغلِقها.

أما زال يذكرُ اتّقادَ الجمرِ في جسدي الأسمر؟ هل تُذكّره أصابعه بماكِدّا، كما تذكرُه روحي؟".

الدكتور الجبر نفسه أكاديميّ وناقد ومُبدع أردنيّ من أصل فلسطينيّ، وُلد في مدينة قلقيلية عام 1964. حصل على درجة الدّكتوراة في النّقد والبلاغة من الجامعة الأردنيّة عام 2002 بامتياز، وكان الأوّل على فوج الخرّيجين. تخرّج في مراحل دراسته الجامعية الثّلاث بمعدّلات متميّزة، ممّا هيّأه لمسيرة أكاديميّة حافلة.

توزّعت خبرات الدّكتور الجبر بين التّدريس الجامعيّ، والعمل البحثيّ، والبرامج الإعلاميّة الثّقافيّة، وقد شغل مناصب أكاديميّة متقدّمة، منها: عميد كلّيّة الآداب والعلوم بجامعة العلوم الإسلاميّة، ورئيس قسم اللّغة العربيّة بجامعة البترا، وأستاذ زائر في جامعة قطر، بالإضافة إلى عمله الحاليّ خبيرًا لغويًّا في معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة، وكانت له مشاركات فاعلة في الصّناعة الثّقافيّة في الأردنّ، ولجان تحكيم الجوائز مجال الأدب والنّقد العربيّين وكتابة الدّراما التّلفزيونيّة والإذاعيّة.
إلى جانب عمله الأكاديميّ، برز الجبر بصفته إعلاميًّا مثقّفًا أعدّ وقدّم عددًا من البرامج الإذاعيّة والتّلفزيونيّة في مجال الأدب والفكر والثّقافة، منها: فِكر وحضارة، ومجالس الأدب مع ناصر الدّين الأسد (رحمه الله)، حوارات ثقافيّة، أقلام واعدة. كما عُرف بجهوده في الكتابة الإبداعيّة والنّقدية، وله أربعة دواوين شعرية، وعدد وافر من الكُتب المحقَّقة والدّراسات المحكّمة المنشورة في حقول: النّقد النّظريّ والتّطبيقيّ، والشِّعر العربيّ القديم والمعاصر، وينحو في مقالاته المطوّلة لمعالجة قضايا إشكاليّة في الفكر العربيّ الكلاسيكيّ والفلسفة.

تميّز في مجالات التّناص، والتّلقّي، والنّقد والبلاغة الكلاسيكيّين، وكان له إسهام فاعل في تطوير مناهج اللّغة العربيّة وأساليب تدريسها، إضافة إلى إشرافه على رسائل جامعيّة عديدة ومشاركته في مؤتمرات علميّة محكّمة في العالم العربيّ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى