السبت ١٣ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم أديب كمال الدين

سؤال مسدود

 

(1)

كيف متَّ
أنتَ الذي كانت الحياةُ كأسكَ المفضّل
والقمرُ نديمكَ الأبيض
والشمسُ بهجتكَ الخضراء
والضحكةُ المجلجلةُ غيمتكَ الصافية
والنساءُ صندوق بريدكَ المليء بالطيورِ والقُبل؟
 
(2)
 
كيف متَّ
أنتَ الذي اقترحتَ للعيدِ فجراً وأرجوحة،
وللفراتِ عنوانه السعيد،
وللرفقةِ دمعةً وضحكة،
أعني حرفاً ونقطة.
وللعذابِ المغلّفِ بصوتِ الكمان
اقترحتَ سذاجةَ الأغنيةِ التي بادلتَها
بُعداً بقُرب
ولحناً بدم؟
 
(3)
 
كيف متَّ؟
بأيّ ليلٍ بهيمٍ سقطتَ كنجمةٍ تائهة؟
وبأيّ لحنٍ سحريّ
رقصتَ عارياً كالسكّين وسط الظلام
مفجوعاً كنبيٍّ طردهُ ربّه
بعدما خانه أقربُ الناسِ إليه؟
 
(4)
 
كيف متَّ،
يا فراتَ الروح
وسينما الطفولة
ومقهى الحلم،
لاذعاً مثل كأس عرقٍ مغشوش
في شمسِ آب؟
كيف متَّ، إذن،
وتركتَ جثّتكَ مرتعاً للطيورِ والكلاب؟ 
الرقصة
 
أزلتُ عن قصيدتي الهوامش
ثم أزلتُ الفوارز وعلاماتِ الاستفهام
والتعجب والارتباك.
ثم صرتُ شجاعاً أكثر
فأزلتُ المعنى عن قصيدتي
بعد أن أزلتُ النقاطَ عن الحروف بالطبع.
حينها
بدأتْ حروفي تتماسك
لتشكّل دائرةً تحيطُ بي
وأنا في وسطها.
وبدأت الحروفُ عاريةً تماماً
ترقصُ وترقصُ وترقص
رقصةً وحشيّة
وأنا لا أعرف مَن أنا:
أأنا المصلوب في أورشليم الذي وشى به يهوذا؟
أم أنا المصلوب على جسرِ الكوفة
لسنين عدداً؟
أم أنا طوطمٌ أفريقي
خُلِقَ ليبتهجَ بقرعِ الطبول؟
أم أنا مجرد حرف ضال،
حرف خارج عن القطيع
حرف ممسوس
أمسكَ الشمسَ بيده
والقمرَ بشماله،
فكرهته الحروفُ جميعاً
وقررتْ أن تعاقبه بالسجنِ المؤبّد
عبر رقصها الوحشيّ المؤبّد
حول صليبه العجيب؟ 
 
 
المطربة الكونيّة
 
(1)
 
لأربعين عاماً
كنتُ أشكو لواعج روحي
وارتباكها الأزليّ
إلى أغنياتكِ المزهرةِ بالشوقِ والأنين
إلى صوتكِ الذي تحفُّ به
ملائكةٌ من الدمعِ والياسمين
إلى نيلكِ وشمسِ أصيله الغامضة.
 
(2)
 
لأربعين عاماً
كنتُ أشكو إليك
- دون أن أدري أو أدري-
حبيباتي الجاحداتِ والساذجاتِ والخائنات
وسنواتي التي أنفقتُها
بكرمٍ حاتميّ
على حروبِ الطغاة،
أعني على الموت
وظلماته وشموسه الساطعات.
 
(3)
 
لأربعين عاماً
كنتُ أراقصُ صوتَك
حتّى صرتُ ساحراً من الحرف
ثم صرتُ حرفاً من السحر.
أعني صرتُ نقطةً من الشوق
ثم صرتُ منارةَ شوق.
واكتملتْ طلاسمي ورسالتي
حين تبعتُ أثرَ صوتك
من صبا إلى صبا
ومن شبابٍ إلى شباب
ومن لوعةٍ إلى لوعة
ومن هوى إلى هوى
ومن شبّاكٍ إلى شبّاك
ومن رصيفٍ إلى رصيف
ومن شظيّةِ وطنٍ إلى دخان وطن.
 
(4)
 
حين أخبروني أنكِ قد متِّ
بكيتُ عليكِ بدمعتين
ثم تركتُ سريرَ الحزنِ خفيفاً
لأتبع أثرَ صوتكِ من جديد،
صوتكِ الذي تحفُّ به ملائكةُ الضائعين،
إلى المنافي السحيقة:
حيث تنعدمُ الأسئلةُ والأجوبة،
حيث يلعبُ الغيمُ والبحر
والجسدُ والذهب
لعبةَ الصواعق والعبثِ والزلزلة
كلّ يوم.
إلى المنافي السعيدة
حيث الموت الذي لا يعرفُه أحد
ولا يسألُ عنه أحد،
أعني إلى المنافي السعيدةِ التي ترى الموت
لوحةً معلّقةً فوق جدارٍ قديم! 
 
اليد
 
في الطفولة
فتحتُ يدَ الحرف
كي أجدَ قلمَ حبرٍ أخضر
فوجدتُ وردةَ دفلى ذابلة.
وفتحتُ يدَ النقطة
فوجدتُ دمعةَ عيدٍ قتيل.
وفي الحرب
فتحتُ يدَ الحرف
كي أجدَ طائرَ سلامٍ
يرفرفُ فوق روحي التي أربكها
مشهدُ الدم،
فوجدتُ حفنةَ رمادٍ
وقصيدة حبّ مزّقتها الطلقات.
وفتحتُ يدَ النقطة
فوجدتُ دمعةَ أمٍّ بكتْ ابنها القتيل.
وفي المنفى
فتحتُ يدَ الحرف
فوجدتُ باباً
قادني إلى أربعين باباً
وخلف كلّ باب
جسد عارٍ شهيّ ومُهان.
وفتحتُ يدَ النقطة
فوجدتُ نفسي
أكتبُ قصيدتي التي لا تكفّ
عن الاحتفاءِ بالبحرِ والحبِّ والشمس
رغم العواصفِ والصواعق
وأشلاءِ السفنِ التي سدّتْ عليَّ الأفق
من السرّةِ حتّى العنق. 
 
حوار
 
(1)
 
حين طرقتُ بوابةَ مقصورةِ الطيّار
قالَ الطيّارُ بهدوء:
ماذا تريد؟
هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمحاذير
وستستمرُ دونما توقّف.
ولكنْ كيفَ دخلتَ هنا؟
قلتُ بصوتٍ مرتبكٍ: بالصدفة!
قال: إنْ أردتَ أن تتكيّف
مع مأساتكَ الطائرة،
فتذكّرْ أننا يوماً ما
سنسقطُ في البحر
أنا وأنتَ والطائرة!
بالأدق:
أنتَ والطائرة!
بالأدق:
أنتَ فقط!
 
(2)
 
ثمّ قالَ الطيّار
بعد أنْ تأمّل مشهدَ النجوم
الذي كان يتّسعُ ويتّسع:
هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمتاعب.
لا تحزنْ إنْ وجدتَ
معطفكَ يحترقُ دونما سبب،
ولا ترتبكْ
إنْ سرقوا جوازَ سفركَ أو نقودك
أو نبضكَ أو حتّى اسمك،
ولا تبكِ إنْ أخبروك
بأنّ المدينةَ التي حلمتَ بها
طوال عمرك
قد غرقتْ واختفتْ منذ طوفان نوح
أو أنّ المرأةَ التي تُحبّ وتعشق
أضحتْ هباءً منثوراً
أو أنّ هذه الطائرة التي لا تكفّ
عن الطيران
منذ مليون عام
ستسقطُ عمّا قريب
وسط المحيط.
 
(3)
 
الآن
أجلسْ في مكانك:
الكرسي الأخير على اليمين.
ولأنّ رحلتنا أبديّة
حاولْ أن تغنّي
إنْ كنتَ تستطيع الغناء
أو أنْ تصلّي
إن كنتَ تستطيع الصلاة
أو تتكلّم مع النافذة
حيث الليلُ يتّسعُ ويتّسع
ومشهدُ النجومِ يتّسعُ ويتّسع.
وإذا كنتَ محظوظاً بما يكفي
فحاولْ أن تنام! 
ما اسمكَ أيها الحرف؟
 
ما اسمك؟
قلتُ للحرفِ في مساءٍ شديد الظلام.
قالَ: بعد هذي السنين الطوال
والانتقال العجيب
من منفى إلى آخر
ومن شظيّةٍ إلى آخرى
بل من زلزلةٍ إلى أخرى،
وأنتَ لا تعرفني؟
قلتُ، كَمَن يتصنّعُ الهدوء،
لا.
قال: كيف؟
ألم تكتب المئات من القصائد
لتصف الحرفَ وعرشه
وأساطيره وشموسه وفراته؟
ألستَ الذي يُدعى بالحروفيّ
أو ملك الحروف
أو النقطويّ أو الطلسميّ؟
قلتُ: لا أدري.
قال: إذنْ خذْها منّي،
يا شبيهي المُعذّب بالموتِ والارتباك،
أنا الحاء
حلمكَ الباذخ بالحُبّ
أيها المحروم حدّ اللعنة،
حلمكَ المتشظّي بالحرّية
أيها المنفيّ إلى الأبد،
وأنا الباء بسملتك
أعني جمرتكَ التي لم تزلْ
شوكةً في قلبك،
وأنا النون: بئركَ الأولى
وعنوانكَ المستحيل،
وأنا السين:
طفولتكَ التي ضيّعتَها باكياً
مع دشداشتك اليتيمة
ودراهمك السبع على بابِ بغداد
ومحراب بابل.
قلتُ: وماذا بعد؟
قال: أنا الألف:
جرحكَ الممهور بالدمِ والندم
وأنا النقطة:
نبضكَ الذي يولدُ كلّ يوم
في ثوبٍ جديد
ورقصٍ جديد
وعري جديد
وموتٍ جديد
حيّرَ الأوّلين والآخِرين! 

 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى