الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عمران إلياس بن عمر

سَّرْجين النصر

فاطمة، فتاة نحيلة الجسد تبلغ من العمر تسع سنوات، تجلس القرفصاء حزينة منتظرة والديها في السقيفة حتى ينهيا اجتماعهما الليلي الطارئ مع أبناء أعمامها. فجأة، تخرج الأم وقد شمّرت عن ساعديها، وعصّبت رأسها لتخبز الرغيف للثوار، كي تعد ما يلزمهم طيلة أيام دون كلل أو ملل.

كانت كلما علت أصوات البنادق والقذائف من الجبال القريبة من قريتهم ترتعش الفتاة خوفا، تسحب خصلات شعرها المتجعد للخلف، ثم تحاول بصعوبة استنشاق الهواء بأنفها المسدود. لقد كانت في حالة مُزرية. كانت أمها تنادي عليها دوما إذا ما تأخرت عن تنفيذ طلبها بكلمة جزائرية (سرهودة) وتعني بلهاء أو الفتاة المسترجلة.

بعد لحظات، انفتح الباب، وخرجت أمها تضرب كفيها وتندب على حظها العاثر: يا إلهي، سيموتون ونموت بعدهم. يا رب، ما فعلنا لهؤلاء الفرنسيين! يا رب كن مع الثوار الأبطال، والرجال الأحرار.

راحت الأم تذهب وتعود متأسفة لحال الثوار. لقد كانوا يحاولون نقل السلاح عبر الوادي، لكن كتيبة فرنسية حطت بخيامها ومنعت المجاهدين وحتى عامة الناس من المرور، وباتوا في موقف لا يحسدون عليه.

وقفت البنت المسكينة شاردة، ثم توجهت إلى أمها وأخذت تشُدّها من ثوبها محاولة إخبارها بأن الجوع فتك بها.

انتبهت لها الأم وألقت عليها سخطها: " كلنا جوعى يا بنيتي. الثوار هم من يلزمهم الأكل أكثر منا الآن. اليوم إن لم ننقل إليهم السلاح فسيهلكون ".

أردفت بغضب وغيظ وهي تأمر ابنتها: " هيا انهضي، ونظفي زريبة الخراف. قومي بشيء مفيد ".

انطلقت المسكينة على مضض، رغم أن جسدها خارت قواه من تعب النهار، حيث كانت تحمل المجرفة وتذرف دموعاً غزيرة. خافت خسارة خرافها فقد كانت أنيستها الوحيدة. قضت طول الليل تنقل السَّرْجين للخارج حتى تنقله للحقل في اليوم الموالي، لكن قطع عملها همس أبناء عمها.

قالوا بخيبة: " لا يوجد طريق آخر لنقل السلاح والمؤونة إلا طريق الوادي، وإن لم ننقل ذلك غدا فسيموت الثوار إما جوعا، وإما بهجوم الفرنسيين عليهم ".

سمعت البنت الحديث بأكمله، فتملكها الذعر على وطنها. في تلك الليلة، نامت البنت في الزريبة، تنظر لخرافها بكل أسى.

بعد بزوغ الشمس، سمعت البنت صوت أمها في المطبخ وهي تحضر شيئا. خرجت إليها بعد أن نظفت نفسها، وعدلت شعرها الذي كساه الغبار. اقتربت من باب المطبخ شيئا فشيئا ثم صاحت: "ما الذي تفعلينه يا أمي؟".

رمقتها الأم بنظرات الريبة، ثم نهرتها عن التسكع والحرص على مساعدتها. دخلت الفتاة مسرعة وأخذت من يد أمها السينية وراحت تعجن. لقد كانت أمينة أسرار أمها، إلا أنها ورغم صغر سنها تفهم بأن أمها وجميع أفراد عائلتها يعيشون تحت ضغط أعصابهم.

ها قد أتى اليوم الموعود، اليوم انطلق أبناء العم والأب نحو الوادي ليستطلعو مسالكه. جلست الأم إلى جانب ابنتها تدعو الله أن يعينهم على إيجاد مخرج، أما فاطمة فكانت تضع يديها بحذر فوق المؤونة والبنادق. بعد ساعة، رأت الأم زوجها وأبناء أخيه عائدين وعلى ملامحهم تعابير الخيبة.

بعد أخذهم قسطا من الراحة، أكدوا بأنه لا توجد طريقة للعبور أبدا، فالجنود الفرنسيون منتشرين على طول الوادي. ساد الحزن والتوتر ثم تفرق الجميع ولم تبق إلا الفتاة لوحدها.

بعد لحظات، أخذت الوالدة تصرخ ثم نادت زوجها. لقد اختفت ابنتها ولم تعثر عليها. انتشر الجميع يبحثون عن البنت الصغيرة. انتبهت الأم بأن عربة السَّرْجين قد اختفت والمؤونة كذلك، وتفاقم الأمر سوءًا حين عثرت على بعض السرجين ملقيا في اتجاه مسلك الوادي.

ازدادت الأم خوفا وبعد دقائق، سمع الجميع صوت البنادق والرصاص يعلو من جهة الوادي، واستمر الأمر حتى منتصف الليل. انهارت الوالدة على ركبتيها وأخذت تندب وتنحب رافعة كلتا يديها للسماء: " ويلي على ابنتي؟ ويلي... ".

بعد مدة اشتد الليل ظلاما، وفقد الجميع الأمل في عودة البنت، لكن ما إن ظهرت أول خيوط الشمس، ظهرت الفتاة رفقة أبناء عمها تنادي باسم أمها، أما الثوار فكانوا يهتفون ويرمونها عاليا. أسرعت الأم وأخذت ابنتها بين أحضانها ثم زغردت زغرودة انتصار الثوار.

عندما حل منتصف النهار، افترشت العائلة بساطا وجلسوا يتحاورون، أين طلب الوالد من ابنته أن تسرد عليهم ما حدث معها.

جمعت البنت شعرها وعقدته ثم راحت تهز يديها قائلة:

"لم أتحمل فقدان أبناء عمي وأبناء بلدنا الجزائر الحبيبة، وفقدان خرافي التي كانت جندي الصامت".

ضحكت العائلة على براءة الفتاة ثم أنصتوا إليها مجددا. قالت بأنها حملت عربة السرجين والمؤونة والبنادق ثم انطلقت نحو الوادي. عندما وصلت، تم قطع طريقها من قبل الجنود ثم خاطبها رئيس الثكنة بمساعدة مترجم قائلا:

"ما الذي تفعلينه هنا يا فتاة؟ هيا ابتعدي".

رفضت البنت متراجعة قائلة: "أنا ذاهبة لرمي السرجين في الوادي".

نهرها الجندي مادا يده نحوها لكنها ضربتها ورفضت حتى أن يلمسها. تقدم أحد الجنود لتفتيش العربة لكن المجاهدة الصغيرة أخذت ملء كفها من السَّرْجين ثم قربته من ملابس رئيس الجنود، وهي تصيح:

"لا يوجد شيء سوى فضلات نتنة". انزوى الفرنسي اشمئزازًا من الموقف مخاطبا الجندي المساعد: "ععععق، أبعد الفتاة، وهذا الشيء العفن عني!. دعها تمر حالا".

دفعت فاطمة عربة السرجين بكل قوتها، مبتعدةً والابتسامة تعلو وجهها.

ساد الصمت للحظات، ثم تساءلت الأم: "وما الذي حدث بعدها؟ وكيف نقلت البنادق والمؤونة؟".

نطق أحد الثوار: "ما فعلته هذه الطفلة الشجاعة، والمجاهدة الصغيرة، لا يخطر ببال أحد. لقد نقلت البنادق والمؤونة في عمق السَّرْجين وتمكنت من خداع الفرنسيين".

أردفت فاطمة: "في إحدى الأيام وبينما كنت أرعى خرافي، رأيت أرنبة تخبئ صغارها في حفرة داخل الأرض، وذلك لحمايتهم من خطر الثعالب والذئاب".

نظرت الأم لابنتها بأعين الفخر ثم قالت: الصَّمْلَة تغلب السيف، وفاطمة هزمتهم بحيلة بدوية وأداة منسية.

ضحك الجميع ضحكةً طويلةً، ثم تطايرت أوراق الخريف لسنوات، حتى سقطت إحداها بجانب الجدة فاطمة المجاهدة العظيمة، تجدد ذكراها العطرة، وموقفها البطولي من أجل حرية أبناء شعبها الجزائري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى