

شبكة طرح
بزغ نصفُ قرصِ الشمسِ الذهبي، تتخللُ إشعاعاتُهُ الحمراءُ ظلمةَ الليلِ المخيِّمِ على البيوتِ المُهدَّمة.
تسللَ عابدٌ من الفراش. حانَ وقتُ الذهابِ إلى الشاطئ.
خطا بخُفوتٍ حتى لا يُوقظَ أطفالَه، بين خِيَمِ المُخيَّم.
جثا على الزورقِ الصغيرِ المُتهالك...
يومٌ آخر...
بين خُطى يغشاها الخوفُ من ضربِ الرصاصِ والاعتقال.
خَطَرُ أن يقعَ الزورقُ تحت يدِ الاحتلال حتى يصدأ أو يُسرَقَ منه الموتورُ أو الشبك!
سلطاتُ الاحتلالِ لا تتركُ سوى بضعِ أميالٍ لصيدِ الأسماك.
وإلّا وجدتَ سفنَ البحريةِ تُحيطُكَ من جميعِ الاتجاهات.
ساعاتٌ تحتَ الشمسِ الحارقة، وهم تحتَ رحمةِ الاحتمالات،
وأسوأُها على الإطلاق... الرجوعُ بلا أسماك!
ألقى بالشبكة، عيناهُ ممتدتانِ على الزُرقةِ اللامتناهيةِ للبحرِ وسفنِ الاحتلال.
قام زملاؤهُ معه بسحبِ الشبكة، يقومون بعدها بتفريزِ السمكِ وتنظيفهِ ووضعهِ بالثلج.
سمكُ الكنعد "غزال"، وبربوني "سلطان إبراهيم"، وجبردين، والسردين.
ألقى نظرةً طويلةً على الزُرقةِ الممتدة، لعلها تكون النظرةَ الأخيرة...
في المخيَّم، جلسَ محمد، ابنُهُ ذو الثلاثة أعوام، يمسكُ بقطعةِ أنبوبٍ بيده.
يضعها في علبةِ صفيحِ طعامٍ "مليئةٍ بالماءِ والصابون"، ينفخُ فيها، فتخرجُ فُقاعاتٌ من الصابون.
يتأملُ إخوتَهُ الصغارَ ألوانَ "قوسِ قُزَح" على الفقاعات، قتلًا للملل.
أمضى عابدٌ طوالَ النهارِ في طابورِ المياه، ولم يرجعْ بسطلِ ماءٍ.
حتى طفلُهُ الرضيعُ يصرخُ من الألم، لا توجد حفاضات، يستخدمون الأكياسَ البلاستيكية.
تتنزَّلُ عليهم أوراقٌ من طائراتِ الاحتلال:
"أعطونا معلوماتٍ عن حماس نُؤمِّنكم... زوِّدونا بمعلوماتٍ عن حماس نُعطِكُم ما تريدون!"
ينظرُ للسماء، تلك الزُرقةُ الممتدةُ الأخرى، لا وربَّ السماء!
في ظلِّ نَفادِ الغاز، وغيابِ الزراعة، وشُحِّ اللحومِ والدجاج،
أضحى الصبرُ على الجوعِ الملاذَ الأخير...
بعد تهديداتٍ متعددةٍ بقصفِ المخيم،
قام عابدٌ وأسرتهُ المكوَّنةُ من خمسةِ أفرادٍ بالرحيلِ من المخيمِ إلى مكانٍ آخرَ جنبَ المشفى، أكثرَ أمانًا.
حملَ بواقي عفشهِ على التروسيكل، ترك السيارةَ ولا يعلمُ مصيرَها بسببِ عدمِ توفرِ البنزين.
رحلةٌ شاقَّة، من رحيلٍ إلى رحيل، حتى همست له زوجتُه "سالي":
"عابد، أخوي تَحدَّث مع صحفيٍّ مصريٍّ مهتمٍّ بالقضية، قال إنه من الممكن ترحيلنا لمصر."
ردَّ عليها عابد:
"أنا لا أَقدرُ على الحديث... لن أُغادر... لن أتركَ بلدَ أجدادي."
حطَّ رحالهم في المخيم، كاد الجوعُ أن يفتكَ بهم، لولا أن النساءَ طبخن القليلَ من العدس.
نظرَ عابدٌ إلى أطفالِه الذين ضَعُفوا من قلةِ التغذية.
عليه أن يُعاودَ الصيد، لكن البحرَ بعيدٌ بعدةِ كيلومترات...
عليه أن يُعاودَ الصيد...
رجع إلى الشاطئ، لكن هذه المرّة لم يكنِ الزورقُ في انتظاره، ولا أيُّ زورقٍ.
لا يملكُ سوى شبكةِ طَرح...
يعتمدُ على شاطئِ غزةَ العديدُ من الرجالِ بشبكِ الطرح.
تم القضاءُ على كلِّ الزوارق. ماتَ من مات، ونزحَ من نزح، أُصيبَ العديد، وتاه الكثيرُ في رياحِ الحرب.
يلقي عابدٌ نظرةً على الرمالِ المُنتصفةِ بين البحرِ واليابسة،
فيتقاطعُ مع محمد، ذو الخمسةَ عشرَ عامًا، الذي انقطعَ عن التعليمِ بسببِ الحرب،
ويصطادُ اضطرارًا، حتى لا تموتَ عائلتُه من الجوع.
يلقي عابدٌ الشبكة، في كلّ مرةٍ يشعرُ أن روحَه هي التي تذهبُ ما وراءَ البحر.
تمتمَ، عيناها إلى الزرقةِ اللامعةِ تحت الشمس، شعر أنها المرةُ الأخيرة.
تغدّى مع أطفالِه ببضعِ سمكات.
يومٌ آخر، تلقّى فيه خبرَ وفاةِ زوجِ أختِه، ثم صديقِه، ثم عائلةِ جارِه، ثم خبرَ وفاةِ أمّ وأخوةِ سالي، التي جعلها تنهارُ تمامًا.
أسندت رأسَها على عامودِ الخيمة، عيناها متخمتانِ بالدموعِ والحُمرة.
"ارحل يا عابد، ارحل من أجلِ الأطفال!
أريد أن أرى أولادي يكبرون، لا أريد أن أَنتشلهم من تحتِ الأنقاض، أو أُلمْلم أشلاءهم!"
خرجَ عابدٌ من الخيمة، امتدَّت عيناه إلى زرقةِ السماءِ في رجاءٍ أخير...
.
نيرانُ الاحتلالِ اشتعلت في المخيم.
كان عابدٌ يسألُ عن مساعداتِ الإغاثة في الخارج، حين عَلِمَ بخبرِ الحريق.
هرعَ إلى المخيم، وجدَ جثثَ الأطفالِ والكبارِ ملتفَّةً في البياضِ جنبَ بعضها، دماءٌ ملتصقةٌ بالأرض.
أكياسٌ بيضاءُ تحملُ أشخاصًا بصفاتٍ وذاكرةٍ وملامحَ مختلفة، لكن لا تستطيعُ تمييزَ بعضِها من بعض.
رائحةُ الدماءِ والرمادِ تمتزجُ ببعضِها، كطعمِ البارودِ القاتلِ في الفم.
تسمَّر في مكانهِ، وتسمَّرت حواسُّه كشجرةٍ عمرُها مئةُ عامٍ أو يزيد.
تحجَّرت الدموعُ في عينيهِ.
حملَ قدمَيه المخدَّرتين إلى جهةٍ لا يعلمُ غيرَها.
تسلَّلَ بُوخزِ الرملِ لقدميهِ، فشعرَ فيهما ببعضِ الحياة.
لم يُلقِ بالًا بمن حوله، كانت الشمسُ آيلةً للغروب، وقد انفضَّ الناسُ إلا قليلًا.
أرخى شبكتَه على الرمال، سحبها، وعيناه لا تُفارقُ الزرقةَ الممتدةَ أمامه.
رَمى بشبكتِه وأردف:
"كيف أَطلَع من غزة؟
يطلع السمك من الماء... ولا أطلع من غزة!"