الأربعاء ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

شليش النشمي

إنه ينتظر منذ عدة شهور.

المدّعي العام طالب بأقصى عقوبة دون أن يسميها، وهي تعني الإعدام. لم يستطع قل كلمة للمحقق الذي ألقى القبض عليه من بيته ملطخا بالدم ومتلبّسا بالجرم.

كان الطبيب يتفحصه ولا يعلم ما الذي كان يجيبه به.

ابنه في الزيارة، الخائف منه الخائف عليه وليس له إلا هو، يطمئنه أنه سينال تخفيفاً في العقوبة، لكن المحاكمة ستطول. يصغي ولا يرد.

السجانون ينظرون إليه بحذر، وبعد المرة الثانية من الاستفسار عن التهمة، توقفوا عن السؤال وأخذوا يعاملونه على نحوٍ خاصٍ صامت: لا يأمرونه بتنظيف الغرفة والممر مع زملائه السجناء، ولا يشددون على وقت الزيارة، وموزّع الطعام يمنحه حصة أكبر. وإذا كان نائماً وقت العدد، يتركه الشاويش بناءً على طلب من الضابط، مكتفين بالمرور عليه والتأكد من تنفسه.
محاميه ليس مكترثاً إلا بتسديد أقساط الأتعاب والرسوم القانونية ملمّحاً باستمرار إلى أنه سيحصل على تخفيف في العقوبة مكتفين بفترة الإيقاف؛ أو العكس بعقوبة مغلّظة، لأن قضيته أصبحت قضية رأي عام. ولما يراه ساكتاً لا يرد يخبره أنه سيتفاهم مع ابنه.

السجناء الكبار والصغار، زملاؤه في الغرفة والقسم، منقسمون بين كل ما سبق، يودّون لو عقدوا مراهنة على حكمه، لو كانت المراهنة في السجن قانونية.

عن نفسه، كان غارقا في مشاهد قليلة انتهت بقتل نفس وإزهاق حياة، لمن كانت تعني له أشياء كثيرة وصارت تعني شيئا واحداً ثقيلا شديد الإبهام والفزع.

شاهد روحها تفارق عينيها وعنقها بين قبضتيه، ومن خلفها عشيقها العاري مضرجاً بدمائه التي نزّت من رأسه طوال نصف الساعة وهو على أرض غرفة النوم، ولم يمت على إثر ضربه له بمزهرية من خزف صيني.

كان معلّقا في جموده بين القتل -إزهاق النفس- ولو بالحق وأشباح تفاصيل يومية تدور حوله حيثما كان، لا يعي منها شيئاً.

البرش من معدن، والفراش غارق بعرقه مثل الغطاء الذي انتزعوه بالقوة ليرسلوه للمغسلة. وجوه السجناء العتاة والعاديون تنتمي لجنس بشري آخر. واليوم يمضي في روتينه الصغار إلى الروتين الأكبر عند اقتياده لقفص الاتهام، وهناك وجوه أخرى من قضاة وشهود وشرطة.

فقط عندما يُترك وحده وينشغلون مساءً بحلقة المسلسل يُبث من التلفاز، كلُ ما كان يعيه، وهو لا يعي، كيف أزهق الروح بين قبضتيه وكيف ماتت تلك التي كانت زوجته أمّ ولده.

وظل ما يعيه هو ذاته مع خروجه من السجن بعد سنة ونصف من التداول. بشّروه في الممر الذي يصطحبونه إلى مكاتبه بحصوله على شليش النشمي.. وودّعه الزملاء والسجانون والطباخون في طريق وصوله لابنه الذي صار، منذ تلك اللحظة، أباه، وهو ينتظره أمام بوابة السجن حيث استلمه.

ابنه سلّم أمره ما بين سجن أبيه وقتله أمه لقدره الناتئ بين الناس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى