

صبرا: ظل بيت وميلاد مقاومة
المقاومة هي روح الإنسان ونبض حياته تولد من وجعه ورفضه للظلم والقهر إنها خالدة لا الزمن يطفئها ولا الجبروت ينهيها
خطت بثوبها الجلجلي الجديد المطرز بالأحمر نحو البهو الذي يجلس فيه جدها مع أبنائه وضيوفه، أطلت بعينين تسطع كنور الشمس عندما يخترق أغصان الزيتون وجدائل شعرها منسدلة كأنهار من الحرير، نادت بفخر لا يخلو من غنج البنات
– جدي أنظر إلي لقد لبست فستان العيد تبسم الشيخ ضاحكا لرؤيتها وتبعه الحضور مرحبين بالحفيدة الغالية، قام إليها ونزل عندها ليقبل جبينها ويداها الصغيرتان ثم أخرج من عباءته قرشا ذهبيا وضعه بيمناها وهو يهمس
– عيدك مبارك يا ريحانة قلبي ما أنضر حناءك وما أبهى ثوبك يا صبرا حملها بين ذراعيه وعاد إلى مجلسه ينطق بما يشبه الاعتذار
– كل خلفتي ذكور وقد رزقني بها الله لتؤنس قلبي العجوز كان المختار رجلا شريفا ذا حسب ونسب وقورا ومهابا يعلو وجهه الأسمر نور وبهاء وتزيده لحيته البيضاء وقارا وإجلاء، يحترمه الجميع بدءا من أبنائه وأحفاده إلى كل أفراد الضيعة الذين يعتبرونه كبيرهم ومركز الحل والعقد لكل أمورهم، بابه مفتوح لم يوصد في وجه أحدهم يوما أيا كان وكيفما كان.
بيته تحفة نادرة ورثها عن أجداده إنه قصر بديع من طابقين، الأول عبارة عن أبهاء متقابلة فسيحة ورحبة مفروشة بأثاث وأرابيسك عربي فخم وزرابي يدوية بشتى الألوان ومكتبة قيمة تحوي كتبا ومجلدات نفيسة تزيده عراقة وأصالة
قرب الباب يتواجد مطبخ هائل ببابين أحدهما يطل على البستان الممتد على طول الأراضي المنبسطة وفيه من أشجار الزيتون ما لا نهاية له وكذلك من قطعان الماشية ما يحد مغيب الشمس، والآخر يقع داخل البيت وبين كل هذا وذاك انطلقت باحة فسيحة من الرخام في قلبها نافورة ينبعث منها صوت خرير مياه عذبة كصفو الحياة أحاطت بها عريشات الياسمين والجوري ومسك الليل تنثر في كل الأرجاء أزهارها الزاهية العبقة وزادت زقزقة العصافير المكان بهجة وسحرا. أما الطابق الثاني فقد ضم العديد من الغرف والردهات الواسعة والمفروشة يسكنها المختار وأبنائه وأحفاده وكل من أطال المقام عندهم من الضيوف، وما أكثر ضيوف المختار.
دخل العم صالح يسبقه عكازه ينادي بصوته القوي المألوف
– يا أهل البيت مبارك عيدكم تهلل وجه المختار برؤية رفيق دربه وكاتم أسراره فهب إليه معانقا ومرحبا
كلما جاء العم صالح إلا وخلى به المختار خارجا فلا يعرف أحد إلى أين يذهبان ولا متى يرجعان، لكن هذه المرة لم يطل اختفائهما فلقد عادا بسرعة بغية الاحتفال بالعيد مع الأهل والأحباب ذبحت الذبائح وأنزلت الموائد وأطعم الطعام أكل الصغير والكبير، فقام المختار في الناس كالمعتاد في مثل هذه المناسبات يصلح بين المتخاصمين ويعدل بين المتنازعين يعظ هذا وينصح الآخر، وبينما الكل يسمع وينصت ظهر ذلك الغريب البغيض المنبوذ مرة أخرى، صاح مخاطبا المختار بلهجة وافرة الوقاحة
– جئت لأبارك عيدك وأجدد الطلب عم الصمت بالبيت واكفهر وجه صاحبه وظهر على سنحته الحنق والغضب، لاحظ الحضور ذلك فقاموا جميعا يلفحون القادم بنظرات من الكره والغيظ وقبل أن يحتدم الأمر أجاب الشيخ بصوت جالب للهدوء
– اذهب إلى حال سبيلك لقد قلت لك أكثر من مرة بيتي ليس للبيع
– سأضاعف السعر اطلب ما تشاء أريد هذا القصر بأي ثمن رد المارق بلهجة أكثر استفزازا هم إليه ابن المختار ممتعضا وسحبه من رأسه بقوة وتبعه أخوته وشباب الضيعة يركلونه وهم يسبون ويشتمون حتى ألقوه ذليلا خارج البيت نهض وعينيه تتقد شرا ثم ولى يلعن ويتوعد
– إنه بيتي أنا، سآخذه رغما عنكم ستندمون جميعا عاد الاحتفال بعدها كما كان وضربت النساء الدف وغنين وانشدن
علا لا ولا لا
شمس الضحى ميالة
عيني يا لا لا شوقي يا لا لا
ارقصي يا صبرا على لا لا علا لا
ولا شمس العشي ميالة
رقص غنى ودبك الجميع رجالا نساء وأطفالا حتى أم صبرا الحامل تمايلت فرحا بالعيد، أما صبرا فقد ركضت ولعبت مع أقرانها ورقصت حتى نامت.
سكن الليل وهدأ واللجين براق في كبد السماء يلقي نوره على باحة القصر التي لطخت جدرانها الدماء، كان المنظر واضحا وجليا الجثث المذبوحة ملقاة ومرمية حول النافورة وقد أخذت دمائها المسفوكة تسيل على شكل أخاديد فشكلت قربها بركة كبيرة انعكس عليها ضوء القمر كما انعكس على مائها، والسفاحين يخرجون ويدخلون ويقفزون في كل مكان من البيت حاملين سكاكينهم وهي تقطر دما كشياطين الغسق الماردة
تسمر جسد الطفلة وهي تطل من فوق وتشاهد تلك المجزرة، لقد ذبح جدها أمها أبوها وكل أهلها، جحظت عيناها حتى كادتا تقتلعان من مكانهما وفغر فمها الصغير على آخره تجمدت يديها ورجليها وتصلبتا والتصق جسدها بالشرفة كتمثال فولاذي قديم، الناظر إليها لا يشك للحظة أن روحها قد زهقت من هول الفاجعة.
ظهر المجرم مختالا سعيدا وراضيا يعض على غليونه ويقلب الجثث برجليه ليتأكد أن كل سكان البيت قد نحروا ولم يتبق منهم أحد صاح يخاطب أحد الذباحين منفعلا
– أين الطفلة أين حفيدة المختار كان من السهل عليهم إيجادها فحملوها وألقوا بها فوق الجثث
– اسحبوهم بسرعة وألقوهم بحفرة بعيدة، أحرقوا أمتعتهم لا أريد أثرهم ببيتي صرخ الغاشم آمرا
مضت العربة تحمل الجثث وصبرا مرمية بينهم، لحية المختار المبتلة بالدماء فوق وجهها ويدها ملقاة على بطن أمها، كبكب الموتى في الحفرة وبعد أن نفذ القتلة مهمتهم ولوا مدبرين.
لقد أحست صبرا بكل شيء وعاشت كل التفاصيل لكنها لم تفهم لماذا ولا كيف حدث كل هذا، ما كان يحسه قلبها الصغير أكبر من الخوف والفزع والألم والجزع، وأعظم من عتمة الظلمة الموحشة ومن برودة الحفرة المقفرة وأفظع من الردى، نعم فهو ليس ذلك الموت الذي لطالما تحدث عنه جدها ففي فؤاد تلك الطفلة المغتصب لا ملائكة ترفرف ولا أرواح تحلق ولا جنان تفتح.
مضت ساعات من الفناء، التهم فيها البرد وجه صبرا الصغير وهي عاجزة أن تغمض عينيها أو تحرك أحد أعضاء جسمها ورغم أن دقات قلبها بدأت تتباطأ فقد استطاعت أن تسمع الخطى القادمة والصوت المكلوم قعد العم صالح عند الحفرة يرثي أحبابه ويناديهم ولا مجيب لكن الأنين المكتوم جعله ينبعث مندفعا في أمل خفي يتفقد الجثث يتحسسها كل على حدة، وعندما وصل إلى صبرا حملها على كتفه وردم التراب على الشهداء ومضى مرت شهور عديدة وصبرا على حالها تطالع السقف المظلم بشرود كدمية بالية، يأتيها العم صالح كل ليلة ليطعمها ويطمئن على حالها ويواسيها وفي إحدى الليالي عاد كالمعتاد يتحسس فراشها لكنه لم يجدها فراح يلوح بعكازه هنا وهناك وما دله عليها سوى طنين السيوف والسكاكين
فهمس مبتسما كمن يخاطب نفسه
– هناك الكثير منها وكذلك البندقيات والبارود، اشتراها جدك للشروع في المقاومة لكنه استشهد قبل ذلك ولن يحول بيني وبين تحقيق مبتغاه إلا الموت
فهمت الآن صبرا أين كان يختفي جدها كلما زاره العم صالح وعرفت أنها تعيش في قبو البيت السري.
رغم أن العم صالح عجوز ضرير إلا أنه يعلم الكثير ويفعل الكثير وقد كان الوقت طويلا وكافيا لتتعلم منه الكثير، ولكم انفطر قلبها وزاد من حزنها حينما علمت أن كل مساكن أهل ضيعتها قد تم الاستيلاء عليها فقتلوا وطردوا وهجروا.
مرت سنوات كبرت صبرا وهي تتجول في بيتها سرا كالشبح تمر بين جدرانه كالطيف وتتقفى خطى وافديه كالظل، حفظت عن ظهر قلب عاداتهم وطبائعهم وأتقنت لغتهم فلم يكن يشعر بها أحد في حين كانت تراهم من حيث لا يرونها وتتربص لهم من حيث لا يدرون
وفي إحدى الليالي المقمرة بينما هم في غمرة يحتفلون بعيد لهم، يمرحون يرقصون ويشربون كان هو يتبجح ويترنح مختالا بين أهله وضيوفه يعبث بغليونه متباهيا بما نهبت يداه، وقفت صبرا بين الجدران وجسدها النحيل يتلحف سكاكينها الحادة تراقبهم بعينين محترقتين يتصاعد منها دخان الكره ويسطع شرر الغضب.
ولما غط السكارى في نوم عميق بعد حفلهم الصاخب أجهزت عليهم جميعا إلا الطاغية المعتدي، سحبت ذبائحها إلى النافورة وعادت إليه وهو فاقد الوعي فربطته ثم جرته إلى الباحة بجانب أهله ولما استفاق رأى جيدا جثثهم مطروحة كالأكباش وحينما رفع بصره إليها اسود وجهه وغشيه الذعر والهلع تمتم وشفتاه ترتعشان
– الأوغاد لم يقتلوهم جميعا
اقتربت منه بهدوء فراح يتوسل ويتضرع بصوت ذليل مهين وخاضع
– أتوسل إليك أبق على حياتي وخذي كل شيء ابتسمت صبرا ابتسامة أليمة معذبة ثم استدارت خلفه فنحرته وألقته يخرخر كالشات بدى القمر ساطعا في جوف السماء عندما دخل عليها العم صالح يصدح بلهجة الانتصار
– بوركت يا ابنة أخي سلمت يداك يا صبرا
إن السنين المظلمة والخرساء التي قضاها الاثنان مع بعضهما جعلتهما يتكلمان دون صوت ويبصران دون نور ويتفاهمان دون تعبير أو حوار أخذ الجثث وألقاها بعيدا وأحرقت هي جميع أغراضهم ونظفت البيت وعادت بعدها لتنام بالقبو
لكم أغرى بيت المختار الجميل المارين والوافدين، فكلما عادوا عادت صبرا لتطهر بيتها من كل دنس أو درن، حتى أضحت بالنسبة لهم كابوسا مخيفا وعدوا ماكرا يبحثون عنه لكنهم لا يعرفون له طريقا، فبات البيت خاليا فلا يجرؤ أحد على الاقتراب
استلقت صبرا قرب النافورة تسمع خرير مياهها العذبة، وتطالع بنظرها الحزين نجوم السماء المتلألئة وتستنشق عطر مسك الليل الفواح بينما تفكر في الماضي البعيد حين كان هذا البيت مليئا بالحياة وكيف كان أهل الضيعة يلتفون حول جدها فدمعت مقلتاها من أثر الحنين، وفي عمق الذكرى دوى صوت مجلجل هز الأرض من تحتها فقامت تنصت وكلما اقترب تهلل محياها وأضاءت أشجار الزيتون عينيها من جديد فخرجت إليهم ترقص في تمايل وتشدو
علا لا ولا لا شمس الضحى ميالة
عيني يا لا لا شوقي يا لا لا
ارقصي يا صبرًا على لا لا
سكت كل شيء في لحظة، ولم يسمع إلا صوت تلك الرصاصة الغادرة التي أردت ذلك الجسم النحيل صريعًا شهيدًا، باسما محفوفًا محلقًا إلى السماء، يزفه سيل صفوف المقاومة القادمة