

صفحة من سِفْر النار والرماد
– كل المخيمات تتشابه في طول البلاد وعرضها وتل السلطان ليس استثناءً وأنت لا تحتاج إلى دليل.
يقولها"أبو ديس"وهو المسئول عن شئون كل مخيمات رفح ويتبدل الإشراق في وجهه إلى ظلمة وتفتر ابتسامته لذا أحاول تلطيف الموقف قليلا فأقول له :
– أعلم ذلك يا سيد"أبوديس"فأنا وُلدت في مخيم...لكن احتاج دليلا ليعرفني بالناس وأهلنا في المخيم.
– لك ذلك سأختار لك دليلا ماهرا وخبيرا بكل دقائق المخيم ,سيكون عندك قبل أن تشرب قهوتك الصباحية.
يتركني"أبو ديس"وحدي في الغرفة ويخرج، أرشف رشفة من قهوتي، أنظر إلى أوراق بسطتها بين يدي ثم استوي واقفا واخطو بضع خطوات وألقي نظرة من النافذة. الشمس تملأ بنورها الأجواء، أعلام فلسطين الخضراء ترفرف في كل مكان واللافتات والملصقات المهنئة بذكرى يوم التحرير لا تخطئها عين رغم مرور ثلاثة أيام على ذلك الاحتفال بدا وكأنه كان بالأمس. أرى أحدهم يمشي في الشارع مضطربا ساقه الصناعية تحاول مجاراة ساقه الأخرى الطبيعية دون جدوى، أبادره بالتحية:
– السلام عليكم يا بطل.. تهانينا بالنصر والتحرير.
يرد وابتسامة رضا تنير وجهه:
– وعليكم السلام يا أخي...تهانينا بالتحرير.
– لا تبتئس، لست وحدك من دفع ثمن باهظًا لتحرير أرضنا... الجميع دفع هذا الثمن.
– اعلم، ولست ساخطًا،هذا أقل القليل الذي تستحقه حرية وكرامة بلدنا، كثيرون غيري دفعوا أكثر، دفعوا أعمارهم.
مشهد الرجل العابر كان كفيلا بتغيير مزاجي، تنهيدة مسموعة، يخرجني من هذه الحالة صوت "أبو ديس" الذي ملأ أركان الغرفة وهو يقول:
– أقدم لك "اللداوي"... ذاكرة مخيم تل السلطان والخبير بأموره وأحداثه.
– أهلا وسهلا "اللداوي"... أخوك حسن الطويل.
"أبو ديس" يوجه كلامه إلى "اللداوي" بأن السيد حسن الطويل مفوض حكومة التحرير في مهمة رسمية من قبل لجنة غزة للنازحين والمهجرين داخل الوطن لإحصاء وتعداد النازحين حتى يمكن تنفيذ الخطة بعودتهم لبيوتهم ومناطقهم قبل الحرب. أتدخل وأضيف على كلام أبو ديس بأن الخطة بدأت يوم التحرير منذ سنتين وقد عاد 50% من النازحين إلى دورهم وبلداتهم بالفعل وأن الخطة مستمرة حتى يرجع أخر نازح لبلده وكل هذا ثمرة من ثمرات التحرير وزوال الاحتلال الغاصب. يبدي "اللداوي" استعداده لمرافقتي والعمل بلا كلل لإنجاز المهمة. نخرج من الغرفة، أركب واللداوي العربة، يودعنا "أبوديس"، تتجه العربة شمالًا. طوال طريق "أبو بكر" وسيل من المعلومات يتدفق من فم "اللداوي" عن مخيم تل السلطان وأنه امتداد لمخيم رفح في الشمال الغربي وكان بديلا لمخيم كندا للاجئين الذي تم ضمه للأراضي المصرية بعد تقسيم الحدود واتفاقية كامب ديفيد وأن عمر المخيم ستة وعشرين عاما وكغيره من المخيمات عانى كثيرا من الويلات التي لا تحصى،وينتظر وقت اغلاقه وعودة الجميع إلى دورهم وبلداتهم ولقد دفع النازحون ثمنا باهظًا من المجازر البشعة وكان أخرها مجزرة "مخيم السلام الكويتي" والتي تفحم فيها الأطفال والشيوخ والنساء والخيام والبيوت الصفيح لقد حول الطيارون الغزاة عديمي الأخلاق والشرف كل شيء إلى رماد. تنحرف العربة غربا في طريق"بن سينا"دقائق وتقف العربة تماما ولا يتوقف "اللداوي" عن الكلام:
– حمدا لله على السلامة سيد حسن... لقد وصلنا تل السلطان.
منذ لحظة الوصول وطوال عشرة أيام واصلين الليل بالنهار استمر العمل داخل المخيم، هناك نازحين استطاع أن يجمعهم "اللداوي" في مكان واحد ومنهم من تمت زيارته في خيمته أو في بيته الصفيح حتى أوشكت المهمة على الانتهاء. في الليلة الأخيرة رغم الارهاق والتعب الشديد إلا أنني كنت سعيدا باكتمال مهمتي ولكن لم تدم سعادتي طويلا أمام كلمات "اللداوي":
– لقد انتهينا من الجزء السهل في المهمة وبقي الجزء الأصعب!
أنظر إلى "اللداوي" وأقول مستغربا:
– ماذا تقول، وأي جزء صعب باقي...لا أفهم شيئا!!!
– الخرساء !
– الخرساء!!!
– فتاة حي الطويل، أو ناجية الطويل كما أسماها أهل المخيم.
– لا أفهم شيئا يا"لداوي"... أنا من حي الطويل ولا أعرف عما تتحدث!
– ستفهم كل شيء صباحا عندما نزورها في أطراف المخيم.
أطلب منه البقاء وشرح الموضوع ولكن يعتذر"اللداوي"بأنه منهك ولن يفدني في شيء وأن النوم يزحف على جسده كجيوش من النمل وأن الصباح رباح. أبقى يقظا مُتسهِّدًا والنوم عصي،كلام"اللداوي"عن الخرساء أو ناجية الطويل والأسئلة مطارق في رأسي. هل حقا سأقابل أحدى ناجيات الحي ومن تكون؟ أختي رضوى، محال لقد ماتت في مجزرة النصيرات،أبكي حتى تبتل وجنتي وتغرق الدموع قميصي، أُمني نفسي بأنها مازالت على قيد الحياة فكل الجثث التي تم انتشالها بعد أسابيع من وقوع المجزرة تشوهت ولم يتعرف عليها أحد. أتكون أحدى عماتي أو خالاتي أو إحدى قريباتي فعائلة الطويل جدهم واحد وأنا أعرفهم كلهم في النصيرات. طوال ليلتي جائل بين النافذة والسرير والكرسي الخشبي استجدي الفجر في البزوغ والشمس في الإشراق لتنطفئ الحرائق التي أشعلها"اللداوي"عن غير قصد. يأتي الصباح حلزون زاحف فوق حد مُوسَى. يصطحبني"اللداوي"إلى أطراف المخيم وعلى غير عادته أطبق فمه ولم يتكلم كلمة واحدة مما أصابني بالاندهاش وصرخت في وجهه:
– الآن يصيبك الخرس... تكلم يا رجل ما هي حكاية الخرساء؟
لا يرد علي "اللداوي" ولكن دموع تترقرق في عينيه، أدرك حالته وأرق له واسأله:
– ما بك يا لداوي...أنت على غير طبيعتك... ماذا حدث؟
– لقد مات هذا الصباح أيوب الصفدي أكبر معمر في المخيم قبل أن يحقق حلمه بالعودة.
– لا إله إلا الله...إنا لله وإنا إليه راجعون... هذا محزن جدا ويفطر القلب.
صمت طوال الطريق ويصبني نفس حزن اللداوي على الصفدي. نصل، نتوقف أمام بيت من الصفيح، ينادي"اللداوي"بصوت عال:
– خالة "حمدونة"... خالة "حمدونة"... خالة "حمدونة".
تمر دقائق طويلة حتى نسمع صوت أزيز الباب وهو يتحرك للخلف ببطء ثم نرى سيدة عجوز ترتدي المجدلاوي بخطوطه الأرجوانية والخضراء، وتغطي شعرها ببشنيقة، تجاعيد عشوائية هنا وهناك تغطي وجهها،لقد مر حقا من هنا الزمن وقام بعمله بإتقان.
– من ينادي على الخالة حمدونة.
– أنا يا خالة"اللداوي"ومعي مفوض الحكومة السيد حسن ولقد جاء في مهمة ويرغب في مقابلتك.
– أهلا وسهلا يا أولادي،سأخرج لكما ونجلس على هذه المصطبة أمام البيت.
نجلس، اسأل اللداوي عن الخرساء فلا يرد ويشير إلى الخالة "حمدونة" وأنا أبدي استغرابا. أخرج جهاز "اللاب توب" وابدأ في كتابة البيانات التي تذكرها "حمدونة" ذات السبعين عاما... بأن أصول عائلتها من مجدل عسقلان وأن "حمدونة" لقب عائلتها لكن اسمها هو "مجدل" وأنها ولدت في مخيم لجوء "دهمش" في يافا وأنها تنقلت في مخيمات لا تتذكر كم عددها ولا سنين عمرها التي قضتها فيها. لساعات أدون ما تقوله بلا كلل ولا ملل ولكن هناك فضول يكاد يقتلني،جئت لمعرفة حكاية الخرساء وها أنا أغرق في حكاية حمدونة...كم هي كثيرة حكايات هؤلاء الذين لا تذكرهم نشرات الأخبار سوى أرقام جامدة جافة لا روح فيها. ألتقط صورة لـ"حمدونة" كما فعلت مع جميع من سبقها ممن شملهم التعداد بكاميرا صغيرة مثبتة فوق شاشة اللاب توب. تغيب حمدونة لدقائق داخل البيت ثم تخرج معها امرأة شابة تحمل فوق رأسها صينية طعام،ظهر ثوبها التوبيت السبعاوي جميلا مشرقا،تغطي ووجهها ورأسها بالكامل لا يظهران سوى عينييها، تشير لها حمدونة بإشارة من يدها، تضع الصينية أمامنا ثم بصوت يقطر حنانا وألفة من حمدونة:-
– طعامنا متواضع..تفضلا بالهنا....
– العفو يا خالة...لقد أرهقت نفسك بهذا.
طوال فترة تناول الطعام وأنا لم أرفع عيني من على عيني الشابة الواقفة أمامنا في صمت وتحاول أن تتحاشى نظراتي كقط خائف من مفترسه، لقد رأيت الإحراج واللوم في عيني حمدونة واللداوي لكن هناك شيء في تلك العينين غير الخوف والهلع لا أعرفه ولا استطيع تفسيره،حمدونة تنقل بصرها بين المفوض والشابة ولا تتكلم واللداوي في حيرة من أمرهما. بعد الغداء، تشير حمدونة للشابة بأخذ الصينية إلى الداخل والعودة بأكواب الشاي. تعود بالشاي وتضعه أمامنا، تشير لها حمدونة بالجلوس وتقول لي:-
– الآن جاء دور ناجية حي الطويل في حكي قصتها لكن هناك مشكلة كبيرة يا حضرة المفوض!!!
– ما هي يا سيدة حمدونة؟
– إنها خرساء كما قال لك اللداوي و لم تتكلم منذ أن قابلتها أول مرة منذ ثلاث سنوات.
– إذن كيف أتواصل معها...هل تجيد القراءة والكتابة؟
– هي لا تسمع أيضا... فقط تتعامل معنا بالإشارة.
انظر إليها طويلا كأنني اطابق هيئتها في ذهني مع هيئة لشابة من الماضي، فقط هي تظهر عينيها وتغيب تفاصيل الوجه، هناك شيء يجذبني إليها،عقلي يحدثني أني أعرفها،أو ليست من عائلة الطويل أنا اعرف بنات العائلة كلهن ولو كشفت وجهها ربما تزول الحيرة. زادت حيرتي وزاد الأمر سوءًا أنها صماء فكيف سأعرف حقيقتها ومن أسأل حتى أعرف؟ أسأل الخالة "حمدونة" عما إذا كانت تعرف شيئا عنها، تجيب بأنها لا تعرف شيئا عنها سوى بعض المعلومات القليلة والتي يعرفها كل من قابلها وهي تتلخص في أنها وصلت المخيم برفقة الحاجة "صبا الجمل" والتي قالت أنهم وجدوها تحت ركام أحد بيوت عائلة الطويل بعد قصف بالصواريخ في مجزرة النصيرات وكانت الناجية الوحيدة من أهل البيت وأوصت الجميع بها خيرا هنا ولا سيما أنها صماء أو فقدت النطق من أهوال ما رأت في القصف...هذا مؤكد ولكن لم تنج الحاجة"صبا"فقد ماتت بعد أيام من وصولها المخيم فالإصابة كانت مميتة وقاتلة. ولقد تكفلت بالخرساء"حمدونة"واعتبرتها ابنتها. يضيق صدري، تضطرب ساقاي، أقف على قدمي كلديغ عند سماع هذه المعلومات وأردد:
– الطويل... مجزرة... ناجية... النصيرات... رضوى...
لا يفهم"اللداوي"هذه الحالة التي أنا عليها، ولماذا تغير مزاجي،ظهر ذلك في تغير وجهه، لكن ألملم شتات نفسي وأحاول أن استجلي الأمر دون عناء. كوب الشاي أمامي ممتلئ ولم يمس،"حمدونة"تخاف وتحاول أن تتراجع إلى بيتها فأقول لها مطمئنا:
– أنا من عائلة الطويل من النصيرات يا خالة وهذه الفتاة حتما واحدة من فتياتهن...أنا في حيرة شديدة فلم أر سوى عينيها فقط فكيف سأعرفها؟
– أنت من عائلة الطويل!
– نعم يا خالة.
– أصبح من اللازم أن ترى وجهها فلا حرج في ذلك.
– سأقوم بتصويرها ومن اللازم أن تكشف وجهها أيضا يا خالة.
تشير لها"حمدونة"أن تكشف وجهها وترفع النقاب تماما لكن الفتاة تتململ وتهز رأسها بالرفض، تعيد المحاولة معها مرة أخرى وأنا واللداوي ننتظر أن تعجل حتى ينتهي هذا الموقف الصعب والمحرج لكن الفتاة عنيدة وترفض. يستبد الشك بــي ومخارز في رأسي عن ماهية الفتاة ومن هي في عائلة الطويل أتكون رضوى أختي وما زالت على قيد الحياة ولم تمت في الغارة المشؤومة؟ أم أنها فتاة أخرى؟وهل سأستطيع أن أعرف شيئا من صماء؟ لا يخرجني من تلك الحالة سوى الفتاة تخلع النقاب وهي مطرقة للأرض ثم ترفع وجهها لأعلى ببطء. ما إن أرى وجهها حتى أقف على قدمي وأمسك ناصيتي و أصرخ :-
– مستحيل...هذا مستحيل..لا يمكن أن يحدث!!!
الفتاة تدفن رأسها في حضن حمدونة وتحتضنها وتبكي بصوت عال وتشاركها حمدونة البكاء، اللداوي لا يفهم شيئا يقلب كفيه ويقول لـي:-
– ما المستحيل حضرة المفوض؟
أتردد طويلا في البوح بما اكتشفته للتو من سر سيقلب كل شيء رأسا على عقب وتداعياته داخل المخيم في منتهى الخطورة ومعرفته تعني الموت والقتل والدم. لقد واجهت مواقف أصعب من هذا فعملي السابق إبان حرب التحرير طوفان الأقصى كفرد من"كتيبة نصيرات واحد"والعمليات التي شاركت فيها بدءًا من اقتحام كيسوفيم في السابع من أكتوبر 2023 وأسر العديد من الأسرى،وحتى الكمائن وحرب الشوارع التي شاركت زملائي فيها إلى أن من الله علينا بالنصر، لكن هذا الموقف مختلف ولا استطيع تمالك نفسي وتخونني أعصابي وتغلبني العاطفة.
– حضرة المفوض فيم شرودك؟
– لا شيء يا لداوي.
– هل عرفت الفتاة؟
سؤال مباغت من اللداوي.من المستحيل قول الحقيقة ولكن هل أقول أنني لا أعرفها وينتهي الموضوع عند ذلك واتركها تعيش مع حمدونة وهذا لن يحميها طويلا ولن يزيل من رأسي الأسئلة والأهم هل تعرف هذه الفتاة مصير أختي رضوى وما الذي حدث بالضبط في دوار عائلة الطويل ليلة القصف، أم أقول أنني أعرفها وأخذها معي والوقت سيعطيني الفرصة لأفهم وأعرف، أقطع الطريق أمام قطار التردد وأقول :-
– نعم أعرفها...إنها بنت عمي"ريما الطويل"لكنها لم تكن صماء.
الفتاة لا تفارق حضن حمدونة كطفل صغير يخاف من وحش أمامه ولا يجد سوى حضن أمه ملاذا. ترفع رأسها، تشير إليها حمدونة بالسبابة والوسطى بأنني أحد أقاربها، الفتاة ما زالت تبكي وكأنها لا تفهم شيئا وفجأة تتوقف عن البكاء وتنظر إليّ نظرات العارف بالشخص ولكن هناك جفول وخوف ورعب على وجهها بدلا من نظرات الفرحة بلم الشمل والعودة للعائلة،تردد وحيرة في عينيها أكاد اقرأ ما فيهما أتقول أنني ابن عمها وتمضي معي؟ أم تصرح بالحقيقة وتواجه مصيرًا أسودًا في المخيم؟"حمدونة"سيدة مسنة وماذا ستفعل بعد رحيلها إلى أهلها في المجدل أو إذا سبق الموت.الأمر زاد تعقيدا بزيارتي أنا عدو الأمس وما فرضه الواقع صديق اليوم فلا أحد تلجأ إليه سواي فأنا الوحيد الذي أعرف ماضيها وقصتها التي نجحت في اخفاءها سنوات بادعائها الخرس والبكم. تحسم الأمر تمد يدها إليّ في إشارة أنها تعرفني، أمد يدي وأسلم عليها،أتنفس الصعداء ويهدأ بالي.
– أسف سيدة حمدونة...سأخذ الفتاة معي إلى أهلها والأهم معالجتها حتى تعود كما كانت.
– هذا سيفطر قلبي إنها ابنتي ومؤنستي في هذا المخيم... لكن الجميع في النهاية سيعودون لبيوتهم.
– أنت سيدة حمدونة ستعودين لأهلك قريبا وكل سكان المخيم.
يتدخل اللداوي في الحوار والدموع تملأ عينيه:
– لا فائدة من تأخير أمر لا محالة واقع... الحمد لله سيعود كل واحد لأهله وبلده.
تأخذ حمدونة الفتاة من يدها وتدخل بها البيت، تغيب لدقائق ثم تعود ومعها الفتاة تحمل كيسا من القماش منفوخا بما يحتويه داخله، حمدونة تبكي والفتاة لم تنقطع دموعها ولا أحضانها لحمدونة وأنا أرقب في صمت واللداوي يمسح دموعه.
تقول لي حمدونة:
– عليك أن تقسم بالله أن تحافظ عليها وإن كرهتم بقاءها معكم عليك أن تعيدها إلي وإن مت أن تترك لها الخيار أن تفعل ما تشاء...لن أتركها قبل أن تقسم فهي ابنتي وأنا أحق بها بعدكم.
أتردد في البداية من هذا القسم ولكن أمام عناد وإصرار الخالة"حمدونة"أقول لهم:
– أقسم بالله على ما تقولين يا خالة.
تودعنا حمدونة، تركب الفتاة معنا العربة وتشق دروب المخيم في طريق العودة.
أقطع عملي وأعود إلى النصيرات مع الفتاة التي طوال الطريق التصقت بكرسي العربة والرعب من مصير مجهول بادٍ في وجهها وفي حركاتها العصبية ولكن ماذا تفعل غير الانتظار هذا ما عاشت معه منذ سنين الانتظار ولا شيء غيره. تقف العربة أمام أحد البيوت...كل البيوت جديدة ومنسقة ومصطفة على الجانبين، أنزل وأشير إليها لتنزل فتفعل أطرق الباب، ما إن يُفتح الباب حتى تسرع الفتاة بالدخول وتحتضن السيدة التي فتحت الباب وتصرخ:
– رضــ....ر ضـ...رضوى!!!
تحتضنها السيدة ويجهشان بالبكاء، أجذبهما للداخل وأغلق الباب بسرعة، بعد دقائق من البكاء الذي أثاره ذكر اسم رضوى والسيدة التي فتحت الباب ما هي إلا زبيدة الطويل أمي ورضوى نسخة مصغرة منها،يسود صمت رهيب ونظرات حيرى من أمي ونظرات عارفة متبادلة بيني وبين والفتاة. تسأل أمي في براءة ودعة:-
– من الفتاة يا حسن؟
– هذه ريما الطويل ابنة عمي؟
– ريما ابنة عمك..كيف هذا أن أعرف كل بنات العائلة وهذه ليست واحدة منهن!!!
– أمي أمام الناس وفي الحي هذه ريما ابنة عمي زين الطويل التي عادت من المخيمات هذا إن سأل أحد.
أمي تعرف أنني كنت أحد أفراد المقاومة وهناك احتياطات أمن وعليها الالتزام بما أقوله، لقد تعايشت مع هذا الأمر سنين عديدة. تقول لـي لقد ذكرت الفتاة اسم رضوى فهل تعرفها، أجيبها بأن الفتاة عاشت سرا في منزل رضوى ثمانية أشهر أثناء حرب التحرير طوفان الأقصى. الأم تلتزم الصمت لكن هذا لا يفسر ذكر اسم ابنتها الغالية الراحلة رضوى، أشعر بحيرة أمي وأنها تريد أن يبرد قلبها بأخبار عن أبنتها وأنا أيضا أريد أن أعرف مصير أختي. أخبر أمي أنني سأسأل الفتاة ولكن عليها أن تحفظ كل ما يقال في هذه الجلسة سرا ولا تبوح به لأي شخص،تعدني أمي بذلك وأنها تريد معرفة مصير ابنتها. اعتدل وأوجه كلامي لهذه الصامتة المطرقة للأرض:-
– האם את יודעת k005T15؟
ترد الفتاة في حذر:
– (כן אני יודע ).
الأم لم تفهم سؤال حسن بالعبرية ولكن رد الفتاة جعلها تصرخ في حسن وتشير إليها :-
– هل هذه الفتاة يهودية؟
– نعم يا أمي هي يهودية وسألتها عن الكود المعطى لها وأجابت بأنه هو.
– مع حكايتها وما علاقتها برضوى وكيف تعرفها؟
سأحكي لك يا أمي كل شيء ولكنك نسيت شيئا مهما أين واجب الضيافة.أنا جائع وهي لم تأكل شيئا منذ ساعات،تقوم الأم من فورها وتتركنا نتبادل الحديث وتدخل المطبخ. ساعتين وتعود بصينية فوقها طواجن المقلوبة التي أفضلها وأطباق من الخضار والأرز. نأكل معا في صمت،الجوع هو من أجبر الفتاة على الأكل ومن آن لأخر تركز بصرها على أمي، وأمي تتنازعها مشاعر شتى الكره والشفقة والحيرة والحنين لابنتها والرغبة في معرفة مصيرها لكن عليها أن تنتظر. بعد الغذاء أرجو أمي أن تصطحب ريما إلى حجرة فارغة في البيت لتستريح وأن تتركني لأنام ساعة أو ساعتين فأنا منهك وطمأنتها أن الفتاة لن تفعل شيئا فيه خطورة على أحد فلقد عاشت في مخيم تل السلطان ثلاثة سنين ورأت من المآسي ما يجعلها تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على فعل طائش وإن فعلت فأين ستذهب،لا أحد يعطيها هوية غيري أنا وأنت يا أمي والمخاطرة بالخروج للعلن محفوفة بالمخاطر. لقد ذكّرتها بكل هذا وأكثر وقلت لها اثناء إعدادك الطعام أن القتل ينتظرها في الخارج وخصوصا لو عرف أحد هويتها وإن كنت تخافين من تصرف طائش فاغلقي عليها باب الغرفة من الخارج بالقفل. تفعل أمي وتتركني أذهب لغرفتي لأنام وتبقى في الصالة يأكلها الانتظار والترقب. بعد العصر أجلس مع أمي وأبدأ في قص حكاية الفتاة الغريبة.
الفتاة قمت بأسرها منذ أكثر من ثلاث سنوات من مستوطنة"كيسوفيم"مع رفاقي اثناء طوفان الأقصى وكانت الأوامر أن نحتفظ بالأسرى في بيوتنا ويعيشون داخلها وسط المدنيين على أمل أن جيش الاحتلال لن يقصف المدنيين مع علمنا التام بأنه أمل كاذب وعدو لئيم عديم الخلق والشرف والانسانية ولكنه أخذ بالأسباب ولا يعقل أن نحتفظ بهم في معسكرات الاشتباك ونعرضهم للموت وهذا ليس من خلقنا وشيمنا ونحن نريدهم أحياء لنبادلهم بأحبتنا وأهلنا في الأسر. فأخذتها عند أختي"رضوى"لتعيش معها ولا سيما أن زوج رضوى كان معنا بشكل دائم في الميدان قبل أن يستشهد رحمه الله،كان على رضوى أن تقول للجميع أن هذه الفتاة هي ابنة عمها"ريما الطويل"هذا إن رأوها عندها وهذا مستبعد.عاشت معها ثمانية أشهر حتى قصف جيش العدو البيت وجي النصيرات كله والباقي تعرفينه يا أمي. الأم مشدوه بحديثي أيعقل أن تكون الفتاة النائمة في الغرفة المجاورة قضت مع ابنتها ثمانية أشهر وهما أعداء ! ولكن هل تعرف الفتاة مصير رضوى. أجيبها ولا سيما أن القلق استبد بها ولا تطيق الانتظار. حكت لي الفتاة عن اللحظات الأخير أثناء القصف.في الجزء الأخير من ليلة القصف تسلل جنود إسرائيليين في لباس نساء مدنيين يحملون أسلحتهم ويخفونها في امتعتهم ويظنهم الرائي نازحين وفارين من الحرب،تسللوا ودخلوا بيت أختي وحاولوا تفتيش البيت بحثا عن أسرى ولكنهم فشلوا بسبب مقاومة حراسنا المتخفين، حكت لي الفتاة وهي تبكي في تأثر شديد أنها سمعت أحد الجنود المتسللين يخاطب قائده أنهم فشلوا في دخول البيت وانكشف أمرهم وأنهم لم يصلوا إلى الأسيرة وأن عليهم أن يقصفوا البيت بالصواريخ والقنابل وأن يبيدوا الحي بالكامل وأنهم سينسحبون اثناء القصف ولا يهمهم مقتلها. حكت لي الفتاة أن رضوى أصيبت إصابة بالغة في رأسها ولفظت أنفاسها الأخيرة على حجرها قبل إصابتها وانهيار المنزل وتفقد وعيها تماما، أن رضوى تركت معها أمانة ستعيدها لأصحابها.تصرخ الأم وكأن خبر موت ابنتها وصلها للتو وتنخرط في بكاء شديد فلقد انقطع الأمل وأصبح موت ابنتها الغالية مؤكدا مع هذه الشهادة حتى أنا شاركتها البكاء وتجدد حزني على رضوى. اطلب من امي تحضر الفتاة من غرفتها.
تعود أمي والفتاة خلفها، تجلس أمامي، رغم الفترة الطويلة في مخيم تل السلطان لم تعرف الفتاة سوى بعض الكلمات العربية ولم تتفوه بها قط.أسألها بالعبرية وهي ترد وأترجم ما تقوله لأمي في ما يخص رضوى. ترجمت أن رضوى تركت مع الفتاة غرضا يخص أمي وفجأة وضعت الفتاة يديها على رقبتها وسحبت قلادة ذهبية ما إن رأتها أمي حتى غابت عن الوعي، حاولت إفاقتها وأخذتها لغرفتها،أفاقت وطلبت العقد، احتضنته وضمته لصدرها وأغرقته بدموع غزيرة لا تنقطع، أتركها لتستريح وأخرج لأكمل حديثي مع الفتاة. حتى الساعة العاشرة مساءًا لم ينقطع الحوار بيننا ولم أتركها حتى عرفت كل شيء مما صعب القرار الذي سأتخذه بشأنها. عرفت أن اسمها الحقيقي هو"ساندرا كولمان"،أبوها"جو كولمان"وأمها"لورا داونر"كانا يسكنان مدينة"موبيل"في مقاطعة"ألاباما"الأمريكية قبل أن يهاجرا لإسرائيل وأن أباها مجرم عتيد الإجرام وسجين سابق في جرائم سرقة بالإكراه وسطو مسلح وشروع في قتل وجرائم اغتصاب وأمها مدمنة مخدرات وكحوليات ولها سوابق في الاتجار بالهيروين وقضت سنين عدة في سجون الولاية ولم يجدا بدا سوى الهجرة إلى أرضنا ويبدأن من جديد. ولدت"ساندرا"في مدينة"موبيل عام 2000"وعاشت بها حتى بلغت الرابعة عشرة ثم هاجروا إلى مستوطنة"معاليه أدوميم"في الضفة الغربية ثم انتقلوا إلى مستوطنة"كيسوفيم"حيث استولوا وسرقوا مزرعة كاملة بأراضيها ومنزلا من أحد الأسر هناك ونزح أصحابها الحقيقيون في الشتات. تعمل بالتمريض في إحدى مستشفيات القدس وكانت في إجازة عند أهلها وقت اقتحامنا المستوطنة وتم أسرها. عرف أنها تعذبت كثيرا في حياتها وأنها لم تختر أي شيء في حياتها سوى التمريض لتخفف عن المرضى أما حياتها مع والديها في أمريكا لم تكن سوى عند الأقارب أو في مؤسسات الاصلاح ولم تكن لها عائلة أبدًا، لم تسلم من تحرش أصدقاء أبيها حتى أن أحدهم اغتصبها ولم تكمل عامها الثالث عشر. في معاليه أدوميم وفي كيسوفيم لم يتغير شيء فالأب يسرق ويقتل من تطاله يديه من جيرانه الفلسطينيين المتمسكين بأرضهم والأم لا تفيق من نوبات السكر والانتشاء، حياة مفككة تركت أثرها السيء على"ساندرا". أُسرت في السابع من أكتوبر وعاشت مع غرباء ولكنها قالت أن الحياة مع رضوى كانت أفضل أيام حياتها فلقد وجدت معاملة طيبة وجو عائلي مليء بالحب والدفء والحياة النظيفة الطاهرة،لقد كانت رضوى كأختها وعلمتها أشياء كثيرة عن الدين والحياة والعائلة،تأثرت بموتها ولازمها حزن شديد عليها. في مخيم تل السلطان كانت الأم الرؤوم الأم كما ينبغي أن تكون"الأم حمدونة"وثلاث سنوات من الحنان والعطف والحياة الأمنة وتعلم أسباب الحياة وكيفية العيش في سلام ولم يكن يكدرها سوى القصف بالصواريخ وأطنان القنابل التي تمزق سكان المخيم لأشلاء ولا تفرق بين طفل وشيخ وامرأة والتجويع وقتل المرضى بشح الدواء. لقد قالت لي أن أهلها لم يقدموا لها سوى حياة بائسة قذرة والموت الذي يوزعونه على الجميع في حين أن عائلة الطويل وسكان المخيم قدموا لها حياة نظيفة طاهرة قدموا لها الحياة،لذا هي في حيرة من أمرها. حتى أنها طلبت مني أن لا تعود لأهلها وإن لم استطع أن أقبلها في عائلتي فلأعيدها إلى مخيم تل السلطان فسكان التل يحبون الخرساء وسيسمحون لها أن تشاركهم حياتهم. أتذكر قسمي لحمدونة وأيضا أتذكر واجبي تجاه بلدي وأشفق عليها من مصير عودتها إلى حياتها البائسة السابقة. فماذا أفعل؟ سؤال ينهش عقلي ويزيد ضربات قلبي معه اضطرابًا والإجابات كلها تتخفى مني خلف آلاف جدران الخوف والشفقة والواجب المقدس والإنسانية والوفاء بالقسم، يهدني التفكير ويشل عقلي، تخونني حواسي، تتخلى عني اجهزة جسمي،اشعر بثقل يجثم على جسدي، شيئا فشيئا يخفت النور من حولي ثم تظلم الدنيا تمامًا.
تمت