

صوتٌ مِن خَلفِ الجِدار
الله أكبر...
ما أجملهما من كلمتين عندما تحيا بهما وتموت بهما.
الله أكبر...
كلمتان اعتادت ريما أن تغفو وهي ترددهما كلما اتكأت وأخذت مضجعها في هذا المكان الموحش، لكن غفوة هذه الليلة غير كل الليالي، إنها الليلة الأخيرة..
أغمضت ريما عينيها ولكن أنى لها أن تنام، لقد كانت مشاعرها تجول بها فلا تدع للنوم مطرحاً، حتماً... فهي الليلة الأخيرة...
أغمضت عينيها قليلاً وهي تتخيل كلمة الله أكبر تصدح في أجواء هذا المكان المقيت ثم جالت بشريط ذكرياتها، إلى حياتها قبل المعتقل...حياةً تبدو أنها حياة شخص آخر أو من عالم آخر حياة لا تمت إلى "شبه الحياة" هذه بصلة.
مرت بشريط ذكرياتها بكل اللحظات السعيدة التي عاشتها بأمها، بأبيها، بالليالي التي كانت تقضيها على سطح المنزل وهي تراقب النجوم مع ابنة عمها، باليوم الذي ارتدت فيه الحجاب وخرجت في أنحاء القرية تدور في الأزقة حتى يراها كل أهل القرية وهي صبية ترتدي الحجاب..
بيوم ختم القرآن وقد أقام لها والدها مأدبة ذبح فيها ذبيحتين وحضرت أمها الكثير من الطعام لإطعام أهل القرية جميعاً على شرف "ابنتنا حافظة القرآن".
ثم تخيلت في وسط هذه المأدبة أمها وهي تجلس في زاوية بيتهم المتواضع وتبكي بصوت يسمع الجيران حزناً على ابنتها حافظة القرآن.
ربما كان الحب الذي غمرها به أبواها هو مصدر القوة التي كانت تحملها في قلبها رغم كل ماتعانيه.
لن تنسى ريما أول مرة دخلت فيها الغرفة الانفرادية...كان الظلام فيها دامساً والرائحة كريهة، دفعها السجان إلى داخلها وأغلق باب الغرفة لم تكن حينها تعلم أن أسوء من غرفة صغيرة مكتظة بعشرات النساء هو غرفة تبقى فيها لوحدها دون أن تدرك كم من الوقت بقيت فيها ولم يكن يدلها غير جوعها وعطشها الشديدين على أنها بقيت أياماً.
في تلك الغرفة الموحشة كانت تقاوم بشدة الحرب النفسية التي عليها أن تخوضها حتى تخرج بكامل قواها العقلية وهناك كانت تتخيل تارة أن الغرفة مضاءة وأنها تعد مائدة الإفطار في أول أيام رمضان لوالديها، وتارة كانت تتخيل خطيبها فارس وقد أغمض عينيها ليفاجئها بعد ذلك بأنه قد اشترى الشقة التي سيتزوجان فيها، وتارة تستذكر شكل النجوم وهي متوضعة في السماء تزينها... إلى أن تخيلت بعد ذلك زاوية بيتها في القرية وأمها تجلس فيها تبكي بصوت يسمعه الجيران وتصرخ وتقول: "يا ريما... يا فلذة كبدي".
لم تكن ريما تحتمل رؤية دموع والدتها ولكن صوت بكائها أصبح يحاصرها في كل مكان ولم تعد تحتمل وتطيق العيش فأصبحت تصرخ بجنون: أخرجوني أريد أمي...
بعد ذلك أصبحت هذه الرؤيا التي كانت تهرب منها تتكرر مراراً فتقف ريما أمام والدتها وتقول لها: الله أكبر يا أمي...
فتحت ريما عينيها قليلاً ونظرت مجدداً في أنحاء هذه الغرفة التي قضت فيها سنين طويلة، لم يكن من السهل تحديد عدد هذه السنين لكن شكل يمنى كان دليلاً على طولها إذ أصبحت انسانة مختلفة تماماً عن التي كانت قد دخلت المعتقل، فلم يبقى من جسد تلك الفتاة الممتلئة إلا الجلد والعظام وشعرها الذي كان كالحاً كظلمة تلك الأيام التي قضوها معاً كان قد انقلب أبيضاً.
ليس من السهل أن تتعرف على يمنى إذا رأيتها الآن ولربما لن يتعرف علي من يعرفني أيضاً، قالت ريما لنفسها...لكن مايهم في ذلك؟ فهي الليلة الأخيرة على كل حال.
لم تكن ريما تتخيل أنها ستترك أحداً تحزن على فراقه في هذا المعتقل، ولربما الصديق الذي عشت معه المعاناة والألم يكون أقرب من اصدقاء اللهو والمرح.
ياترى كم ستبقى لوحدها بعدي؟ تساءلت ريما وفي قلبها غصة، فيمنى هذه تركت ثلاثة أولاد صغار بدون أم يعيشون على أمل أن تعود أمهم يوماً ما.
عادت ريما تتخيل صوت الله أكبر من بعيد، فتذكرت تلك الجلسة التي جلستها مع مجموعة من طلاب جامعة حلب يترأسها فارس خطيبها وكانوا يناقشون فيها أهمية حراكهم والواجب الملقى على عواتقهم بصفتهم الفئة المثقفة الجامعية في المجتمع، لطالما كان فارس يجيد فن اللعب بالكلمات، كان يحسن تماماً اقناع من حوله بأفكاره وحينما أصبحت الثورة عقيدته جذب كل من حوله مع تيارها...
بدأ طبعاً بريما خطيبته التي كانت في الأول فتاة قروية ترى الحياة بسيطة وجميلة، لم يكن يهمها إلا أن تكمل دراستها الجامعية وتعود بعد ذلك إلى القرية وتفتح عيادة تعالج بها أهل القرية وترفع رأسها والديها مجدداً كما اعتادت...إلى أن خطبها فارس وقلب عليها أفكارها وبدأت تتبنى معه أفكاراً عميقة لم تسمع بها من قبل فيوماً يحدثها عن العدالة ويوماً عن الحرية ويوماً عن حقوق الانسان التي ضاعت بين أسطر الكتب ثم بدأ يسامرها ليال طويلة وهو يحدثها عن الأمم التي ركبت عجلة التطور في حين أنهم يقفون على حافة الزمن دون حراك، ويوماً بعد يوم تحولت أحلام ريما من شكل الفستان الذي ستلبسه في يوم زفافها وشكل العيادة التي ستعمل فيها إلى أحلام كبيرة بوطن يحتوي الجميع، بوطن يسمح للأحلام أن تكبر وللأمنيات أن تتحقق دون خوف، دون اضطهاد.
يوماً بعد يوم اتسعت دائرة الطلاب الذين تبنوا أفكار فارس وريما وعقدوا تلك الجلسة الأخيرة التي اتفقوا فيها على خطة للمطالبة بحقوقهم...
كانت المرحلة من الأولى من الخطة هي المظاهرة السلمية في الحرم الجامعي والهتاف الجماعي: "حرية..حرية". لم تعرف ريما إذا ماكانت خطتهم قد تابعت المراحل التالية بعدها، فبالنسبة لها عند هذا اليوم توقفت المراحل جميعها وانتهى كل شيء بعدها، لكن كلمة حرية لازمتها كثيراً بعدها، ففي كل ليلة كان السجان يضربها ضرباً مبرحاً وهو يردد على مسامعها: هَي هِيِّ الحرية اللي بدكن ياها؟
نظرت في تلك اللحظة إلى الجدار أمامها حيث كتب السجان بدم إحدى الشهيدات بعد أن قتلها أمامهم بوحشية "حرية"...خطّها بسخرية المنتصر، ظانًا أنه قد أطفأ شعلة التمرد، غير مدرك أنه خسر ما لا يُستعاد: إنسانيته، ووجهه البشري. لم يكن يعلم أنه لم يترك خلفه إلا آثار الوحش الذي صار إليه.
كم يصعب على الانسان أن يكمل حياته على أرض واحدة هو والوحوش هذه...لكن هذا غير مهم فهي على كل حال الليلة الأخيرة.
تصل لريما أخبار متفرقة بين الحين والآخر ممن يدخلون المعتقل تخبرها عن الدمار الذي حل بالبلد، تخبرها أن الشعار الذي كتب على كل جدار فيها هو "الأسد أو نحرق البلد" وهو ماكان فعلاً.
كان لدى ريما متسع من الوقت لتفكر فيما اذا كان الجرم الذي ارتكبته مع أصدقائها في الجامعة يستحق هذه العقوبة بحرمانها من الحياة، وكان لديها أيضاً الوقت الكافي لتفكر فيما اذا كان ستفعل ذلك مرة أخرى لو عاد بها الزمان إلى الوراء...لا شك أن العقوبة كانت أكثر مما يستطيع انسان تخيله أو أن يقرأ عنه لا أن يعيشه، ولكن ما كانت متأكدة منه هو أن هذه الوحوش التي ظهرت من جحورها لم تكن تصلح لتقود قطيعاً ضالاً حتى فكيف نرضى أن تمسك بزمامنا، أن تصوغ مصائرنا بأنيابها؟
أوَليس الصمت في حضرة المسوخ خيانة للإنسان فينا؟
الله أكبر...
عادت ترن هاتان الكلمتان في مسامع ريما.
ياترى كم الساعة الآن؟ لابد أن وقت الفجر قد حان..فكرت ريما ثم قامت من مضجعها وتيممت وقامت لتصلي الفجر.
لم يكن من الممكن تحديد الوقت في هذا المكان المظلم تحت جوف الأرض، لكنها كانت تتبع حدسها في تحديد أوقات اليوم، وطبعاً لم تكن الصلاة مسموحة هنا، كانت ريما في بداية الأمر تخاف خوفاً شديداً من العقاب الذي قد يحل بها إن دخل عليها أحد ورآها واقفة تصلي فكانت تصلي وهي مستلقية تدعي النوم، أو وهي جالسة في هدوء في إحدى الزوايا...أما وقد بقيت بضع ساعات على أن يلتف حول رقبتها الحبل الذي سينهي هذه المعاناة كلها، فلم يكن هناك فرق إن رأوها أم لا.
كمية المشاعر التي رافقتها من لحظة أن أخبرها السجان بأنها الليلة الأخيرة كانت رهيبة..
خوف من الموت وسعادة بقدومه
اضطراب..
يأس ..
أمل بحياة أفضل عند من لايظلم عنده أحد
رجاء ودعاء...
حزن وألم..
ثم شجاعة...
شجاعة ملأت كيانها فجأة حتى أرادت أن تصرخ بجميع السجانين بملئ صوتها أنها لم تعد تخافهم وأنهم لم يتمكنوا في نهاية المطاف أن يقتلوا روحها رغم دأبهم الشديد لفعل ذلك، وفي النهاية قررت أن تترك هذه الخطوة إلى حين يقتادونها إلى ذاك المكان الذي ستتحرر فيه روحها وستقف فيه بشموخها الأخير وستذهب إلى حيث يعيش الأحرار، إلى الأبدية!
وقفت لتؤدي ركعتين، آخر ركعتين في حياتها، ستقرأ فيهما سورة الأعلى وسورة النصر، سورة الأعلى لتذكر نفسها بأنها ستذهب إلى الرب الأعلى الذي لن ينساها ولن ينسى من ظلمها، وسورة النصر لأنها سورة الوداع..وداع هذه الدنيا الجافية بكل ماتحمله من آلام وأوجاع...
ستحمد الله كثيراً في آخر وقفة لها بين يدي ربها على كل مامنحها من نعم وعلى ثباتها برغم ما مرت به وسترجوه وتبكي كثيراً وهي منحنية له طوعاً وحباً ورجاءً، ستبكي وترجوه أن يربط على قلب أمها...
قامت ووضعت يديها أمام وجهها لتقول الله أكبر لكنها سمعتها من بعيد قبل أن تنطقها،
"الله أكبر...
سقط النظام"
رجف قلبها بشدة، هذه المرة هي متأكدة أنها لا تتخيل
هذه المرة هناك من يصيح بها في الخارج
الصوت يعلو ويقترب....لم تعد تحملها ساقاها وكأن الأرض تسحبها وكأن قلبها توقف للحظة، ثم عاد لينبض بقوة، "الله أكبر سقط بشار".
لم تعد قدماها عاجزتين عن حملها، بل شعرت وكأن الأرض نفسها تدعوها للنهوض، رفعت وجهها إلى السماء، وعيناها تلمعان بالدموع، وهي تشعر أن هذا اليوم هو بداية فجر جديد، فجر لا رجعة فيه.