الخميس ٤ أيار (مايو) ٢٠٢٣
بقلم ميمد شعلان

ضبع وادي المغارة

ومالصباح إلا شلالات ضوء يسطع من جباهكم تصبها نصركم في أحداق الكون، ليستيقظ وتستيقظ معكم وبوجودكم الحياة .. حماة الديار عليكم السلام.

مجموعة من العسكريين في بطن (وادي المغارة)…فما بين براثن ذئاب البراري وجحيم الشموس الذي لاينتهي لهيبه على رؤوس الأبطال وفقر وقفر الطعام والشراب وضغائن الزمن ومكائد وغدرالقبائل وعزلة العالم وهفوة المجهول؛ تظهر( 8 قمر) من بعيد .. ليست نقطة (كمين) عسكرية أو محطة لاسلكية لبث إشارات المراقبة الجوية بالنظر لمركز السيطرة لقيادة السرية؛ إنما منفى أو سرداب بأعماق الأرض أو كهف في بطن الجبل .. لم تكن (8 قمر) كمحكمة عرفية لفض نزاع الأشواك أو حماية المقدرات أو سلامة المقدسات؛ إنما حصن منيع لنفعيات شنعاء عنقاء تضرم أعلاها سافلها وسافلها أعلاها راية لقراصنة في بحر هائج تدك ساريتها العفنة خصوبة أراضيها .. (8 قمر) كانت بالنسبة للعديد من العسكريين حكمًا بالإعدام مع إيقاف التنفيذ أو موت بالبطيء أو نزع الروح إلى بارئها بألم شديد، فلم تكن رئة يتنفس بها الجموع لكن مقصلة تقطع أوصال الأشهاد .. (8 قمر) كانت قفصًا من ذهب تعطيك خطوة في الحياة وخطوتين للوراء بإسم النجاة (نمر)، (الدوح)، (جندار)، (أبلج)، (الشيخ) و(الضبع ميشال) كانوا أهم الأسماء التي لمعت على سفوح الجبال بتلك المنطقة الوعرة شديدة الهجمة خطيرة الندبة على جبهتهم وكبيرة الوحمة على صدورهم العارية.

كان (نمر) حازمًا في بعض القرارات يرفض الأهواء على حساب جوهره ومعدنه القاسي، لكنه نفعي ونرجسي بدنائة (اللوطي) في بعض الأحيان حينما يكون أمام جهابزة الزيارات العسكرية .. لدرجة وشايته بالجميع في لحظة شيطنة، فتجد فرخا يتسع فاه لنقنقة الحَب من أيدي قائد سريته؛ فلايعتريك ضرورة أن تبحث عن موطيء حسناته أكثر من سيئات ألبابه وسواد قلبه؛ فدائما الشاكي والباكي، والمتنمرعلى أفراد وحدته في وقت آخره، فقلما تجده يأكل مع من أقل منه أو مضطرا فيبلع لهم الزلط.

أما (الدوح) فذليل اللسان غائب العقل، فذلة اللسان كانت لانصياعه مع تجار السلاح والممنوعات ومهربي الجبل على حساب أمن وسلامة (8 قمر).. فقد كانت محطة عسكرية تارة ومحطة مصر تارة أخرى؛ فتراها تعج من وقت لآخر بزيارات أشخاص مجهولي الهوية وغريبي الأطوار وأشاوس قبائل (الترابين) و (البياضية) و (السواركة)…كل ذلك كشف جوف النقطة في مهب سهام الغدر والخيانة. وبرغم غياب عقله في غياهب (زهرة الخشخاش)، إلا إنه كان حدوتة تسرد في الأوساط البينية كفرد فني أعطال الأجهزة والمعدات الكهربية العسكرية دون منازع، بل كان داعمًا للعديد من المواقف والمشكلات الفنية التي اتسمت بخطورتها وأهمية علاجها ببعض من بنات أفكاره، لكن إذا تفاقم الوضع ولم يجد مخرجًا، فحاله مثل حال الأرنب حينما يفر هاربًا من الثعلب في حجره.

ولكن جندار (إبن) سوهاج (فدائم الفكاهة بعفويته؛ قد كان لاينفك حتي تشاهد الجميع يقهقهون على قعقعة نكاته القصبية .. فلكبر رأسه كان لقبه .. دومه. كان طويلًا عريضًا أحلكًا وشعرًا قصيرًا مجعدًا مطرزًا بمسامير سن صاج (مفتول القوام بعينان سوداء وآذانًا صماء لايرى لايسمع لايتكلم سوى بابتسامته الهادئة تجعل الجميع يهنأ ويرجو حديثه.

وهنالك (أبلج) ابن (السيدة زينب) هذا الولد المشاكس الذي يفضل أن يتم عقابه خلف قضبان المحابس ولايترك سيجارته. كان يشعر بطلاوة الدنيا ونغم الحياة، فيغط في نوم عميق لايعبء إذا جاء التفتيش أو قامت القيامة. كسولًا كتومًا شاردًا غائمًا لعوبًا، كان هو ذاك.

وهذا الشيخ، ابن (السد العالي) يختلف عن تلك الحالة المستعصية السابق ذكرها…فمعنى الإنضباط العسكري والأخلاقي التربوي تتمثل في هذا الشخص، فلو كان هناك سبب في عدم سيطرة المهربين والمتسللين على (وادي المغارة) وعدم مهاجمتهم (8 قمر)؛ فهو من ستر الستار وإخلاص النية من هذا العبد البار! فقد كان يخطف الجميع بكلمة الله في معاملاته وعلاقاته ورجائه في سيادة السلوكيات بديلا لهرطقة الأوامر العسكرية المستديمة، وقد كان لذلك مفعول السحر للعديد من الوقائع والمواقف المصيرية.

يأتي (الضبع ميشال)! الشرس الذي خرج عليهم كفرد دعم من قوة إحدي كتائب الجيش، فلم يكن يعرف عنه سبب قدومه سوي المشاكل تحاط بالجميع بكل وقت وحين .. إن لم يكن يفتعلها ضد أحد الخبثاء! فنجده ينظر بلين وصمت مخيف يخفي ورائه سيل جرف من سلاسل الإنتقام لاتعلم مصادرها سوى مجيئه وحدة عسكرية منعزلة مشهور عنها صناعة الضباع من محاربي الجريمة وصائدي الجوائز…ولاتعلم أيضا مايؤول إليه غيرالدهاء الذي يظهر بحدقة عينيه فترهب الجميع؛ فلايلبث حتى ينظر له الجميع منتظرين النتائج والتي قد تكون مشينه لدرجة كارثة محققة أو نجيبة فينشد لها المجموعة. هذا الشاب ابن الـ25 ربيعًا معتدل القامة عريض المنكبين لامع العينين جهور الصوت ذو بشرة بيضاء تتزين رقبته (السبعة العسكرية السمراء) من هول حرارة الصحراء ولهيب جبال أرض الفيروز وبشاعة لياليها .. لم نكن نراه بـ(8 قمر) حتى سمعنا قدومه قادما بمهمة دعم فشهدنا له أول موقف له… حينما دخل هذا الفتى دهاليز السرية لأول مرة، ففاجأ الجميع عندما شاهدنا هدوء أعصابه وحسمه كسيف قاطع بنفس ذات الوقت…بل أخذ ينصب محاكم تفتيش للجميع؛ كمنتقم جاء من غابات الأمازون الموحشة .. باديء ذي بدء، كان هذا الشاب مفتعل النشاط خرج لكسب قوت يومه وزينة عقله ومداد أفكاره بين الوزارات والهيئات بعد تخرجه من كلية الهندسة، فتارة في صالات الانتظار وتارة على مكاتب القيادات يهذي بأفكاره الجائحة دون كلل وملل، بل وزاد في حظه لباقته وسرعة بديهته وقوة حجته؛ فنجح في إثبات مركزه وركيزته بين أقرانه وقطع شوطًا رائعًا في مهنته، حتى أتى يوم الميعاد. طرق الباب، ففتحت والدته الباب فكان ساعي البريد في الجوار قائلا: "حضرتك والدته؟".

قالت: "نعم، تفضل".

قال: "جواب من منطقة التجنيد لازم يسلم نفسه".

قالت: "وقد اعتصر قلبها خوفًا وحزنًا- يارب سلم، هبلغه في الحال بس يرجع من شغله هناك".

جاء الضبع بعد تعب كل يوم وهم كل يوم وغم كل يوم، فاقبلت عليه أمه لتطمئن عليه، هجهزلك الغداء تكون غيرت وعلى السفرة انتظرت، قالت: "طلبوك في الجيش!"، في لحظة شبع وبشربة ماء ارتوى وكأن صبر الله نفذ وبالقدر انتقى، وهنالك قال: "حمدا لله فمن سنين انتظرت وغدا لناظره قريب".

ذهب ملبيًا، جنديًا (اجهز يابيه)، لاتتوانى لحظة اجهز وشد الرحال هناك مصانع الرجال، لاتخف لاتنتظر فانت للمجد كغيرك في حب مصر تستعر. اقبل على مركز تدريب (الكنج مريوط)؛ فترك عباءة الملك واغتسل بماء السيل، نعم ماء سيل الوحوش...مرحبا بك! هنا اليوم المشهود.

دخل ويسعى ورائه عساكر الأمن، الجميع ينظر في تعجب وخوف وجذع، من ياترى؟! هربان جبان، ولا ضيف جاء من وراء الزمان أم ينتظره الحديد والنار؟ ولما لا؛ فالجميع اجتاز فترة تدريب 45 يوما وجاهز بالتمام على النقل في الصباح. كان اليوم الأخير في مركز التدريب، ولكنه كان بالنسبة له يوما بسنة. اخلع البس (الأفرول) وفي الشمس احترق لايوجد مكان للضعيف بيننا. ارقد ازحف لاتنتظر. 6 استعد 9 استعد والكل من صريخ صف المعلم يرتجف. ساعات من التنكيل والتعذيب والعرق الشديد والحر الشنيع في صحراء (مطروح) الصعيب، وهو يضحك أمام الجميع مرددا كلماته: "فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة".

في الليل وبعد أن طبب جراحه، وأكل الخبز اليابس وشرب الماء الراكد وزاحم الجنود في مهدهم على رمال أرض الطابور، لم يلبث حتى غط في النوم .. سويعات حتى اسيقظت الجموع إلى القطار والكل في طابور يستقل عربات القطار بالدور.

حط الركاب في (التل الكبير)، وبعد ساعات هي لغيرهم سنوات، حينها صرخ أحدهم متهجمًا: "ارحمونا بنموت من الصبح لا اكل ولاشرب ومفيش نوم حتى الفلوس زي قلتها" رد عسكري قائلًا: "هنا يادفعة هنا لاينفعك خيار أو فقوس".

رد عليه: "انت مش عارف بتكلم مين .. أنا مأمور ضرائب!".

ضحك وقال: "على نفسك وكلمة زيادة وهنحبس أمثالك".

فرد الحانق: "اتكلم عدل معايا، لاقلعلك البيادة"، وتعالت الصيحات حتى تدخلت القيادات واحتوت المشهد بلين وارتجال .. احنا مش في أدغال يامعشر الرجال .. الالتزام بالجندية شرف عظيم مش حاجة عادية. يعم الصمت، ثم ينادي المنادي بصوت عال: "محمد أحمد محمد .. صاعقة"، "أحمد محمد أحمد .. صواريخ"، "أحمد أحمد أحمد .. ضبع أسود"...الكل يسمع ويلبي النداء ويذهب في طريقه ولايعرف مصيره!

انطلق مع زملائه وركب حافلة متجهين إلى (أبو صوير)، يغتمره مشاعر الرهبه والسرور، هنالك فتحت البوابات ونزل مع الجنود يحمل مخلته وعدته ونظرته التي ملئت حرث السماء نورًا وضياًء. التف حولهم الأمن وشئون الأفراد يجمعونهم ويراجعوا أسمائهم وتوزيعهم على العنابر، وبعد أيام من التدريبات القاسية والمحاضرات الرائعة، فقد فتنته العسكرية أكثروأكثر، حتى كاد أن يتغنى بها شعرًا. جاء أحدهم ليلقي عليه التحية يوما، وكان حمالًا- عسكري يعمل في حملة قيادة الفرقة- قائلًا: "ياعيني عالحلو لما تبهدله الأيام!".
قال له: "ياحرام على كلب تنهشه الذئاب"، واشتبك معه بالايدي حتى طرحه أرضًا، وتم تحويلهم لمكتب قائد رئيس أركان الفرقة، ليحرمهم من المبيت في العنبر وتركهم تحت وطأة برد الظلام.

جائت (رتال) التريحلات، وذهب معها إلى (البقلية)، ولم يلبث دقائق بعد وصوله إلى قيادة اللواء إنذار حتى وقد وسبقته أخبار ماحدث بقيادة الفرقة، فتم زجه في سجن قيادة اللواء وحرمانه من الطعام بالميس- مكان لتناول الطعام- حتى كان يشتري من الكانتين بحسابه الخاص، ومنع من التريض والتحدث إلى رفاقه، ولما لا! وقد انتهك قانون السلوك أحوال عسكرية. جائه أحد صف الضباط برسالة مفادها: "انتظم ولاتفتعل المشاكل، فكم من مؤمن خان وكم من آثم تاب".

بعد مرور أسبوع، تم نقله إلى وحدة عسكرية شديدة الحراسة، وهي ليس كما هو سجن شديد الحراسة؛ إنما هو الأشد فتكًا بأفراده بعد حادثة سرقة السلاح والذخيرة ومقتل أحدهم. كان في استقباله قائد ثان الكتيبة والذي أمر بعمل له طابور ذنب أمام كل الجنود والصف والضباط لتحدثه بشكل غير لائق مع قائد كتيبته؛ حتى خارت قواه ووقع مغشيًا على الأرض بعد ساعتين من التدريبات المتواصلة دون راحة لالتقاط الأنفاس. بعد أيام من التدريب المركز تم توزيع كافة المستجدين على مواقعهم الجديدة، وهو لفصاحته تم تعيينه داخل مكتب شئون الأفراد ككاتب عسكري. من هنا تبدأ الحكاية...

بدأ شتات الذكريات تتملكه بعد أن استرجعها على وقع خطواته الأولى؛ يتبلور عقدًا متسلسلًا من الوقائع والأحداث كأنها شريط سينمائي، بدأت بطفولته الارستقراطية والتي اتسمت في بعض الأحيان بالمغامرة والسفر، وصباه الذي طبعه حب الجندية والمسؤولية، وشبابه الذي حفل بالعمل القيادي الذي تربى واتزرع بداخله إنكار الذات ودراساته في المعاهد والكليات المدنية والعسكرية، حتى وصل به الحال هنا داخل كتيبة (الكفار).

يرن جرس هاتف المكتب .. ترن ترن ترن، يرد: عسكري ميشال كاتب الأوامر يافندم.
هو: قائد الكتيبة معاك.
ميشال: تحت أمرك يافندم.
هو: تعالا على مكتبي حالًا.
ميشال: حالًا يافندم.

يرتدي ميشال الكاب وسلسلته باسمه ورقمه العسكري ويضبط بدلته ويذهب مسرعًا، يطرق الباب طالبا الأذن للدخول، ثم يلقي التحية في انضباط.

القائد: أولًا أنا بعتذر عما بدر من قائد ثان الكتيبة، مكنش يقصد وألف حمدلله على السلامة، بس هي كده التعليمات، من بدري والعين عليك، حتى لما كنت مرشح ضابطًا ونزلت لعسكري مكنتش محض صدفة، لكن محتاجينك هنا وبين زملائك العساكر؛ عشان كده أنا اخترتك بنفسي تكون كاتب أوامر الكتيبة، يعني باختصار توجيهات أفراد الكتيبة هتكون صادرة مني والتنفيذ هيكون من خلال مكتبك.

ميشال: مقاطعًا القائد، تحت أمر سيادتك يافندم وإن شاء الله أكون عند حسن ظن سيادتك...بس
القائد: مقاطعًا إياه، استرح ياميشال، واتفضل استرح .. عايز تقول ايه؟

ميشال: بعد تنهيده، بس ليه كل ده يافندم، اعتقد مبدرش مني حاجة حتى يكون ده جزائي!

القائد: باش مهندس ميشال، من ساعة المناظرة واجراءات دخولك للخدمة الوطنية واحنا بنتحرى عن كل فرد قوات مسلحة، ولمسنا فيك عين القيادة والالتزام، أنا كنت في انتظار انضمام لقيادة الوحدة من شهور ولو تسمحلي فيه ضيف هيشرفنا بعد دقائق حابب اعرفه عليك. دقائق ويدخل ذاك الشخص بلباسه المدني ويجلس أمامه.

القائد: ميشال اللي حكتلك عنه ياسيادة المقدم.
الضيف: أهلا ميشال.
ميشال: أهلا بسيادتك يافندم.
الضيف: ميشال، البلد بتمر بفترة انتقالية في غاية الخطورة، ثورات ومظاهرات والرأي العام بيقلب الجماهير ضد القوات المسلحة بداعي أو بدون داعي. لازم تفهم كمان إن الوحدة بيمر عليها تفتيشات من كافة قطاعات الجيش خصوصًا بعد سرقة السلاح والذخيرة ومهمات النقاط الحصينة التابعة للسرية في بورسعيد، ده غير إن القضاء العسكري لسه بيحقق مع كل أفراد الوحدة حتى سعته وتاريخه. الوضع مأساوي جدًا ومحتاج تضافر جهود الجميع.

القائد: مستسرلًا...يمكن تستغرب ياميشال كلامنا ده، بس لازم تعرف كلنا أفراد الوحدة وكافة أذرع قيادة الوحدة في مركب واحدة، وانت دلوقتي في مكان حساس محتاج منك جهد أعلى ومثابرة وتركيز أكبر، خصوصًا إني على علم بتجاوزات مكتب شؤون الأفراد في الفترة الأخيرة، من ضباط وصف وعساكر، لازم تكون العين الساهرة داخل أروقة المكتب، متسمعش ومتسمحش لشخص منهم إنه يأثر عليك سلبا في (طرمخة) الملفات والدفاتر. عارف إنها مسؤولية كبيرة بس إحنا بنثق فيك. تقدر تتفضل على مكتب دلوقتي. يعتدل ميشال ويقف ملقيا التحية لكليهما ويستئذن ويذهب وقد قرعت طبول الحرب في أذنه، والقرار قرار عقله.

أول ليلة له في (بئر العبد)، يقابل فيها زميله من بلدته وزميل تخته، لم يتوقع ذلك البته. احتضنا بعض بحرارة بالغة .. سنون ولم يتقابلا .. سنون ولم يعرف بعضهما سوى بنظرات الماضي. جلسا سويًا وتقاسما أطراف الحديث، فعلم منه بأنه ومن وقت وصوله وهم يخرجوا في مداهمات مع زملاء وحدات الصاعقة المحيطة بهم وقد أصيبا وفقد أحد اصدقائه في مداهمات بمنطقة (زويد) و(الوحشي). أذهله عندما علم باقتراب موعد تسليم خدمته، لكنه طلب منه أن يزور أهله في بيته للاطمئنان عليهم وابلاغهم بتمام صحته بعد نقله مؤخرًا دون رؤيتهم منذ شهرين. وعده بذلك ثم انطلقا.

صباح اليوم الثاني، يأتي أحدهم ليوقظه لمغادرة بئر العيد صوب بغداد نحو عمق (سيناء)، تأتي السيارة وتأخذه ومن معه من الأفراد. يتناولوا الحديث بينهم، يستشف بأنهم كتيبة إعدام وليس للنقل على قوة السرايا، بل لدعم السرايا في ظل الحرب على الإرهاب ضد ميليشيات بيت المقدس. ساعات تمر ويصبحوا قريبين من (بئر الجفجافة) ووادي المغارة، لا لبشر .. لا قرى .. لا حياة لنفر، تنشق الجبال وتصفر السماء بشمسها الحارقة وتنعكس الرمال بلهيبها، تدخل السيارة السرية وكان في انتظارهم شخصان أحدهما عريف عامل والثاني طباخ الرعية، يخرج ميشال ومن معه ليلقي التحية، يبادره العريف بنفس التحية، ليعرفه بأحوال ونمط التعايش بالسرية.

صباح اليوم الثالث، يجمع قائد السرية (المهدي) أفراد السرية جمعاء، من لايعرف هذا المتنطع؛ فهو باختصار كلب قد ضل قطيعه من قبل ليمارس عهره ومرضه ضد أفراد سريته، إهانة وتعذير وذنب وتنكيل. حينها تذكرالمقدم الذي قابله يوما بوحدة الكفار، وإنه ليس سوى قردا خرج من قفصه، بعد جلسات تعذيب لعساكر بئر العبد والذي أحاله ذلك لتقاعده في النهاية، وأن هذا الجرو من ذاك الكلب.

يامر العريف من داخل المبيت خاصته، بنقل الطابور تحت أشعة الشمس. نصف ساعة وباب غرفته مفتوحا ينتظروا خروجه ولايخرج منها، ضاق بهم ذرعا وبدأت همهمه، فشعر بها؛ فخرج ينبح نحوهم بصوت عال ولفظ نابي ولايبالي! الجميع يشعر بالحرج .. الجميع استشف غبطته وقلة حيلته، فليس ذلك من شيم القادة بل سفاسف القوم وإن ضلوا سبيلا. فين الرقيب ميشال؟ هكذا بدأ كلامه...ميشال: أنا يافندم.

هو: انصراف كل السرية ماعدا ميشال.

هو: ميشال، اوعى تكون علاقاتك وصولاتك وجولاتك هنا وهناك تخليك تفكر إن جاي تقضي الباقي من جيشك في منتجع سياحي أو على (شط جليم)، اللي فات كوم واللي جاي موت والصراحة أنا مش هسمي عليك وإنت من النهاردة هتشيل خدمة وحراسة السرية الليل بطوله.

ميشال: بس يا حظابط، ده مش قانوني وعرف الميري، أنا رقيب وحكمدارعمليات.

هو: أنت جاي تقولي أعمل إيه ومعملش إيه، أونباشي .. أونباشي .. أونباشي، يأتي مسرعًا، نعم يافندم! افتح السلاحليك وارجع ضمه على الطابور ووزع الخدمة، ثم اقترب منه هامسًا. وقتها علم ميشال بما يضمر به. واليوم هو بداية النهاية!

وحينما أثبت أحقية أحدنا بعدم عرضه على مكتب قائد الكتيبة وبعدة إتصالات يستحيل حينها التواصل من خلالها نظرا لانقطاع الشبكة بتلك المنطقة…وكذا حينما وضع حلول لكم السرقات والانتهاكات التي تتم في الخفاء ومحاسبته لقيادات السرية الحمقى وعلى رأسهم هذا الأبلج (المهدي)! قد كان هذا الفتى كالجمر يشوي الوجوه يتثر بذور العزة والخير للجميع، وكذا صف الضباط ثعابين الصحراء وأهوال القدر المحتوم على كثير منا. بإختصار لم تكن تلك القصة نمط في سرد حكاية، بل أحجية يصعب على البعض حل أبعادها فهي كالشبوه- أنثى العقرب- إذا ماقارب موعد طلقها ومخاضها حتى أمطرت الجميع بصغارها ينقلون سموم أحشائها برمال البادية وأرهقت أعدائها بمصائدها وإرهاصاتها ووابل رصاص أذنابها. (وادي المغارة) وعاصمته (8 قمر) .. قمر الزمان .. قمر يحمل في وجهه المنير هذا الوجه الغائم المظلم الذي صار وأصبح رمزًا من رموز العزة والكرامة لأرض الزيتون .. سيناء التي لم ولن تكن إلا مقبرة لكل متربصيها الأفجاج بهذا الوادي الغميق .. فيقول عنها (نيكوس كازانتزاكيس) في كتابه (رحلة إلى مصر .. الوادي وسيناء): "منذ سنوات وسيناء ذلك الجبل الذي وطئه الله، تلمع في ذاكرتي مثل قمة لا سبيل إلى الوصول إليها، البحر الأحمر، الجزيرة العربية، قافلة الجمال الطويلة التي تعبر الصحراء، الجبال الغادرة الوحشية التي أن فوقها اليهود بعد أن تاهو في الصحراء أربعين سنة".

يقول: "كانت لحظة قاسية على النفس تلك التي ودعت فيها عمرًا من العمل العسكري، وهبت له نفسي، فعشقته وتفانيت فيه بكل ذرة من كياني وكل خلجة من خلجات فؤادي. كانت كل خطوة أخطوها تقرع ذكرى وتثير هاجسًا، وأنا أغادر (القنطرة شرق) بعد أن أعلنت انتهاء مهاماتي. لم أكن أسمع في تلك اللحظة سوى وقع أقدامي ولم أكن أشعر بحالي. هأنذا أطوي سجل حياتي العسكرية، سجلًا حافلًا بالأحداث الجسام، تارة خيرًا وأخرى عسرًا. كانت لحظة من أصعب اللحظات وأجملها التي مرت بي، إذ كيف يضع الجندي سلاحنا حمله؟ كيف يخلع لباسًا تشرف به باعًا؟ كيف يبتعد عن رفاق الدرب وزملاء السلاح وشركاء الكفاح، الذي قضى معهم أزهر ايام حياته؟".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى