

طريقُ الحَرب
بَيني وبينَ الحربِ مَوتٌ، وبيني وبين الموتِ أنتِ، وبَيني وبينكِ بُعدٌ، وبينكِ وبين الحربِ قدَرٌ.
لم أرَها بهذه الصلابة والعزم من قبل، كانت تتجهّز للرحيل قاطعةً أمرها. سألتُها "ماذا تفعلين؟" أجابت "سأذهب إلى الحرب؛ بحثًا عن ذاتي". وغابت في فراغات طرق المدينة. رُحتُ أدور خلفَها أبحثُ عنها، أردّد ما ردّدته عليها قبل الغياب "ومنذُ متى والحرب تمنحُ اكتشافًا؟ الحربُ تقتاتُ على الأرواح". ولا زلتُ أدور، ولا زال الغيابُ يكسو ما تبقّى من عُري الزمن.
أخبرتُها أنّ ما لديّ عن الحرب لن يلُبيّ شغَفَها لها؛ كما أنيّ لا أعرف عنها كما أعرف عن الموت. الحربُ اختيارٌ، والموتُ ليس كذلك. الحربُ مؤقتّة مهما طالتَ، والموتُ ليس كذلك. الحربُ - في أروع صورها- عارٌ لا بدّ منه، للحصول على شرفٍ لا تنازُلَ عنه، والموتُ ليس كذلك. "سأذهب إلى الحرب؛ بحثًا عن ذاتي"؛ أليس هذا آخر ما قلُتِهِ لي قبل الغياب؟ ليتني أخبرتكِ بما عندي؛ كنتُ ذاهباً أيضًا، لكن إلى الموت هذه المرّة، تخليدًا لذاتي. لكن ليسَ من طريق الحرب. ليس من طريق الحرب.
رددتُ على رسالتها مؤنّباً؛ ما كان عليكِ أن تحاولي معي، لن أقتنع. لن أكون مثلَ أبي. يوم انضخّ في الأفق وهجٌ أصفر لم ينطفئ، علِم أنّها الحرب، امتطى درّاجته، وامتطته حقيبتُه، ولم يودّعنا إلا بنصفِ التفاتةٍ سريعةٍ، ومضى، ولم يعُد. غيبّته الحربُ، واحمرّ الأفق من دمه ودماء رفاقه.
ألزِامًا عليّ أن أبوحَ بأنّ آخر ذكرى لي مِن الحرب، كانت رصاصةً سكنت سقفَ رأسي ولم تتجاوز إلى داخلِها؟ كان ذلكَ في قلب مدينتنا التي هجرتِني بين فراغاتها. كلا؛ سأظلّ هنا أنتظر مَوتًا متعثّرًا، وأهرب من مجدٍ تائهٍ، وألوذُ ببقايا النوّمِ في أطلال الحواري وعَتمات الأزقة.
ليتكِ لم تعودي. لا تصدّقي اسمي الذي على هذا الشاهِد؛ ليس يرقُدُ داخل هذا القبر أحدٌ. ليس أنا. أنا العجوزُ الذي تعثّرتِ برفُاتي المتكوّمة على مَدخلِ المدينة؛ انتظرتكِ كثيرًا حتى أحيتكِ الحربُ، شُكراً لحذائكِ أن أزحتِ به بقايايَ من وسطِ الطريق.
شكَرَ الحربَ حينَ أحيَتكِ تلكَ المرّةَ القديمة، واليومَ يشكرها إذ أحيَته وبعثته من رماده. هواية العنقاء المفضّلة أن تنهض مِن رمادها، وكل ابنِ حربٍ لا يعرفُ كيف يحيا بدونها. تضعُ أوزارها فينهمل. يندلعُ وجيجُها فينتفض؛ منتعِشًا كعصفورٍ بلّله القَطرُ، مستعيدًا إيمانه المضطرب بأنه مخلوقٌ لها، من طينةِ رجالٍ سوّاهم الله للحرب، لا يُحسِنون في هذه الحياة سواها. يكابدُ الشكَّ إن كان يُحسنُ الشكرَ فقط، دون ما يدّعيه مما تبعُد عليه شُقّة اختباره؛ ويعودُ لائذًا بما تبقّى له مما يعرفه أكثر مما سواه، نفسه، والحرب، وأنتِ.
أنا ثائرُكِ الساهرُ الصامدُ على الطرفِ الآخر من المدينة، وإما أن أستعيدَكِ أو تستعيديني. دَربي إليكِ طويل، تئطّ السماوات من فوقه وتتفتّح أبواب المصير. تتنزّل عليه الأمجاد، والأمجاد عندنا تبدأ بالشجن. أودّعُ أرواحًا وأُزهِقُ أخرى، أَزفّ الأحزان إلى الجراح، فتوشّي الدماءُ خرائطَ الدمع، ويرتسم الدربُ إليكِ من جديد، تحفّه أصداء الأرواح العابرة، وتحدو بنا هتافات الوعد المجيد.
في الطريق إليكِ ربّما أموت مرّةً، بل سأموتُ مرّةً، لكنها ليست كالمرّات الأُخَر. سأُبعَثُ مجدّدًا لأسألكِ أتدرين أيُّ مجدٍ كامنٌ حقًا في الحرب؟! إنه مجدُ الاستيلاد. كل شيءٍ يولَد أو تعاد ولادته مع الحرب؛ الموتُ يولَد، وكذا الحياة والمصائر، والشرفُ والعار، والنهايات الأخيرة تولَد، وكذا البدايات الجديدة، والمعنى يولَد، وكذا العدم.
أنا شهيدُكِ الذي تحرّكه النبوءة. قد ولّت أيامُ مَجدي القديم الذي لم يكن؛ النفسُ التي كانت تتفادى الحربَ نفسٌ آيسة. الحربُ تذكارُ الربّ للإنسان، وأنا الآن مؤمنٌ أهرعُ مستجيبًا للتذكار. الحرب معبَر الشهداء، ومعارج الأنبياء، ومواسم الملوك، وميلادّ متجددٌ لإنسانية الإنسان. الحربُ أمارةُ خصوبةِ التاريخ، انقباضاتٌ ضرورية في مخاض الحضارات، وأنا شاهدُها ومشهودُها الرقيب.
يراوغني الدربُ إليكِ مُجدِبًا مِن المعنى والجدوى. نستسقي، فتَنزلُ الحربُ مطرًا يزيحُ سخَامَ الأفكار، تتوهجُ أتونًا يبرز جوهر النفوس، تنتصبُ ضربةً للقدَر تعيد ضبط الإيقاع، وأمرًا من الربّ بوضع كفة الميزان.
أنا شفيعُكِ المنتظِر في الأبد؛ كِدتُ أصِلُ إليكِ ولَم أصِل. على أعتابكِ تمكّنوا مني. أنفجرُ مرةً أخيرة، أتبخرُ ويستنشقني مَن حضر مِن الملائكة، يطمئنونني أنّي سأُحشَر منبعِثًا مِن أفئدتهم. أشكرهم، وأنتظر.