الأربعاء ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم حسن توفيق

طه حسين ..في ذكراه

1- ما أنت أعمى!

لا أستطيع القول إني التقيت مع طه حسين، لكني أقول إني قد شاهدته مرتين، أولاهما ذات يوم من أيام سنة 1962إن لم تخني الذاكرة، حيث كان ينزل سلالم كلية آداب القاهرة برفقة من كانوا معه، فاندفعت لمصافحته، وكدت أقبل يده، وأحسست بنشوة تغمر روحي بعد المصافحة، أما في المرة الثانية فإني شاهدت جسده محمولا على الأعناق وهو ملفوف بعلم مصر، وكنت واحدا من المشيعين لعميد الأدب العربي، حيث سرنا جميعا على الأقدام من قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة حتى مسجد صلاح الدين بالمنيل وكان من بين المشيعين أنور الجندي الذي كنت أعرفه معرفة وثيقة، لكنه كان يبتعد عن الأدب والنقد ليتحول في نظر أنصاره إلى مفكر إسلامي. التفت أنور الجندي نحوي وقال: لماذا يصلي هؤلاء على طه حسين؟ إنه رجل كافر! وعلى الفور واتتني الشجاعة لأن أقول له: ولماذا تمشي في جنازته ما دمت ترى أنه كافر؟ وفي لحظات كان أنور الجندي قد اختفى من أمامي كأن الأرض قد انشقت وابتلعته!

رحل طه حسين عن عالمنا يوم 28 أكتوبر سنة 1973 أي بعد عبور الجيش المصري قناة السويس في مفاجأة كاملة لقادة الكيان الصهيوني، ولهذا قيل من باب المبالغة الصحفية إن عميد الأدب العربي لم يشأ أن يعبر إلى دار الخلود إلا بعد أن يشهد انتصار الوطن وعبور جيشه لقناة السويس، أما قبل أربع وثمانين سنة وبالتحديد يوم 14 نوفمبر سنة 1889 فإن قرية الكيلو بصعيد مصر كانت قد شهدت ميلاد طفل سماه أبوه طه وهو سابع أولاد أبيه حسين الثلاثة عشر، ولم تكد تمر على ميلاد هذا الطفل سوى أربع سنوات إلا وكانت عيناه قد فقدتا نعمة البصر نتيجة الجهل والتخلف وقتها، وفيما بعد أثبت هذا الطفل أنه صاحب بصيرة نافذة وعقل متفتح خصب، وهو ما دفع نزار قباني لأن يخاطبه في حفل تأبينه بمقر جامعة الدول العربية، وكنت واحدا من الحاضرين:

إرم نظارتيك .. ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميانِ
لم يزل ما كتبته يسكر الكون
ويجري كالشهد تحت لساني
وحدك المبصر الذي كشف النفس
وأسرى في عتمة الوجدانِ
عد إلينا فإن عصرك عصر
ذهبي .. ونحن عصر ثاني
سقط الفكر في النفاق السياسي
وصار الأديب كالبهلوانِ

لم يكن طه حسين العملاق الوحيد الذي ولد سنة 1889 فقد ولد في نفس تلك السنة كل من عباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة وعبد الرحمن الرافعي – المؤرخ العظيم وإيليا أبو ماضي شاعر المهجر الكبير، لكن السؤال الذي أود أن أطرحه: ماذا لو لم تكن هناك إرادة إنسانية صلبة عند هؤلاء جميعا وعند سواهم من العمالقة الذين أثروا في تشكيل المستقبل وأثروا الحياة بما قدموه من عطاء أصيل؟ ماذا لو أن طه حسين قد استسلم لمشكلة فقدان بصره؟ ماذا لو أنه لم يجاهد جهاد الأبطال لكي ينطلق إلى جامعة السوربون في عاصمة النور – باريس دون أن يكتفي بما تعلمه في الأزهر وفي الجامعة المصرية؟ أعتقد أنه لولا الإرادة الإنسانية الصلبة عنده وعند سواه من عمالقة زمانه ما كنا قد تذكرناهم الآن، وما كنا سنحاول إلى يومنا هذا أن نستفيد مما قدموه للأرض العربية من إسهامات مؤثرة وساطعة سطوع شمس الظهيرة. تحية لطه حسين في ذكرى عبوره إلى دار الخلود، متمنيا أن تعبر أرضنا العربية - بسلام - ما تواجهه من مآزق ومن مزالق!
 
2- العميد .. والوزير الذي أغضبته!

تحل اليوم ذكرى غياب طه حسين عن عالمنا، وفي أجواء تلك الذكرى أتذكر أني منذ فترة فريبة، كنت منهمكا في ترتيب مجموعة ضخمة من أوراقي القديمة، وإذا بي أتوقف فجأة حين عثرت على ورقة صغيرة، أمسكتها بلهفة شديدة وبحرص أشد، كأني أخشى أن تفلت من يدي ! الورقة ليست بخط اليد وإنما مطبوعة، وهي ليست رسالة عاطفية وإنما بطاقة دعوة، جاء فيها: تتشرف جمعية الأدباء بدعوة سيادتكم لحضور ندوة بمناسبة الذكرى الثانية لوفاة عميد الأدب العربي المرحوم الدكتور طه حسين، يشارك في الندوة الأساتذة د. سهير القلماوي – حسن عبد المنعم – د.حسين نصار – د. سيد حامد النساج – الشاعر حسن توفيق وذلك في الساعة السابعة من مساء الأربعاء 5 نوفمبر 1975.

والواقع أن تلك الندوة لم تكن الأولى، فقد سبقها احتفال تأبيني ضخم أقيم في أكبر قاعات مبنى الجامعة العربية بالقاهرة على امتداد آخر ثلاثة أيام من فبراير 1975 وقد شارك في ذلك الاحتفال من الشعراء العرب الكبار كل من نزار قباني وعبد المنعم الرفاعي وأمل دنقل.

هكذا كنا – أمل دنقل وأنا – الشاعرين الوحيدين اللذين أتيح لهما أن يشاركا في حفلين لتأبين عميد الأدب العربي من بين جميع الشعراء الشبان وقتها، والعجيب أن كلا منا كتب قصيدته على النهج المتوارث أو العمودي وليس وفقا لنهج الشعر الحر دون أي اتفاق مسبق، وقد استهل أمل دنقل قصيدته بالإشارة إلى حضارة مصر القديمة خلال عصور الفراعنة، قائلا:

مصر لا تبدأ من مصر القريبة
إنها تبدأ من أحجار طيبة
إنها تبدأ منذ انطبعت
قدم الماء على الأرض الجديبة

لم يغضب أحد مما قاله أمل دنقل، فالحديث عن المنجزات التاريخية لا يدعو للغضب بقدر ما هو مدعاة للفخر وللمباهاة، أما قصيدتي التي ألقيتها في مقر جمعية الأدباء فقد كانت بعنوان الفارس الذي رحل، وكانت أبياتها ترصد ما يجري من سياسات رعناء وحمقاء، تحاول التقرب من الكيان الصهيوني خلال عهد حاكم مصر الذي جاء للسلطة بعد غياب أو تغييب الزعيم العظيم جمال عبد الناصر، وكان لا بد أن يغضب وزير الثقافة الذي كان بتصدر الحاضرين، حيث نهض من مكانه وأوقع الكرسي الذي كان يجلس عليه، محدثا ضجة عالية، قبل أن ينسحب من القاعة وقد اكتسى وجهه بكل ألوان الغضب، لكني لم أهتم على الإطلاق بما جرى، وظللت أستكمل قراءة قصيدتي وكأن شيئا لم يحدث، وحين انفضت الندوة التف حولي كثيرون، وقال لي أحدهم، وكان أديبا مخضرما: لماذا تجرأت يا ولد يا حسن على إغضاب يوسف بك؟ ! وأتذكر وقتها أني التزمت الصمت لبعض الوقت مكتفيا بدفاع أمل دنقل عني وعن قصيدتي، إلى أن تملكتني روح السخرية فرفعت صوتي قائلا إنني قد أخطأت لأني نسيت أننا جميعا نعيش عصر الديمقراطية التي لها أنياب وأظافر، وما دمت قد أخطأت فلا بد أن أنتظر عقاب المفرمة التي يحق لها أن تفرمني!

هكذا أغضبت قصيدتي الكاتب الروائي يوسف السباعي، رغم أنني كنت أستمتع بقراءة رواياته أيام مرحلة المراهقة، لكن يوسف السباعي الذي أوقع الكرسي على الأرض وانسحب أثناء إلقاء تلك القصيدة لم يكن الكاتب الروائي بقدر ما كان الوزير الذي لا بد أن يلتزم بالسياسات التي انتهجها رئيسه الأعلى حتى لو كانت سياسات رعناء وحمقاء، وتمر سنوات قليلة وإذا بالذين لا يجيدون غير الحوار بالرصاص يغتالون الرجل الذي أغضبته، ويومها وجدت نفسي أجهش بالبكاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى