

ظل الجد في الشوكة
كان الدمار الشامل...
البيت الذي كان ذات يوم يضحك في وجه الشمس، صار الآن كومة حجارة سوداء...
لا باب، لا نافذة، لا رائحة خبز...
فقط، غبار كثيف، و أصوات في الذاكرة تنادي و لا يجيبها أحد.
وقف زاهر..طفل العشر سنوات عند حافة الركام.
قدماه غاصتا في التراب الساخن، و يداه تمسكان بقطعة حديد صدئة كأنها كنز.
ظل يفتش بعينيه كمن يبحث عن شيء محدد، شيء لا يعرف ما هو...
حتى وقفت عيناه على زاوية البيت، حيث كانت تجلس جدته عصرا و تحمل فنجان القهوة لجده.
هناك....بالرغم من كل شيء....نبتة صبار...وحيدة نبتت بين شق في الأرض.
شوكتها معقوفة كأنها تشير إلى السماء، ووجهها شاحب بلون الرماد...لكنها حية.
اقترب زاهر منها ببطء، جاثيا على ركبتيه، لم يلمسها...فقط نظر إليها طويلا.
تذكر صوت جده و هو يقول: * الصبار ما بينكسر، ما بينحرق، ما بيطلب شي....بس بيظل.*
في تلك اللحظة لم يرى نبتة، بل رأى يد جده ترتجف تحت الشمس، و رأى صبره الطويل و صلابته التي لم يفهمها من قبل.
رفع زاهر حجرا صغيرا، وضعه قربها، كأنما يعيد بناء البيت من جديد...
حجرا بعد حجر، ذكرى بعد ذكرى.لا تسمع إلا الريح في الخلفية...لكن في قلب زاهر، عاد صوت الجد يهمس: * طالما فيك شوكة... ما راح تنكسر*.
يقترب أكثر، يجثو قربها، يمد يده فيتراجع خوفا من الشوك، ثم يضحك بصوت منخفض.
...* مثل جدي...كان يقول الكلمة و بعدين يسكت...بس بتضل توجعك.*
يمد يده بحذر، يلمس طرف النبتة برقة....الدم يخرج من إصبعه، نقطة حمراء.
زاهر: * ينظر إلى إصبعه * حتى بعد كل شي في شي بعدها بيخلي الدم يمشي...*
رد عليه صوت الجد في ذاكرته: * بس خلي عندك شوكة يا زاهر....الشوكة مش ضعف، الشوكة دفاع و أنت لازم تدافع عن اللي بقى.*
ينهض زاهر، يأخذ حجرا صغيرا يضعه بجانب الصبارة، ثم يبدأ بجمع الأحجار بهدوء، حجرا بعد حجر و هو يقول: * أنا ما راح أتركك و لا راح أترك شي من جدي يندفن....رمال الصحرا بتغير كل شي...بس ما تغير الصبار.
حفارات النسيان
عند أنقاض بيت الجد، بعد أيام قليلة من زيارة زاهر لمعالم الذكريات و في صباح حار ثقيل الهواء كأن الأرض تحبس أنفاسها.
يجلس زاهر بجانب نبتة الصبار، و قد كون حولها دائرة من الأحجار، كأنها مقام صغير، وجهه صار أكثر جدية، يضع الماء من قارورة صدئة قرب جذورها و يهمس: * هيا اشربي...اليوم بدهم يرجعوا.*
صوت محركات يقترب، تظهر شاحنة عسكرية صغيرة و آلية حفارة خلفها.
ينزل منها ثلاثة رجال بزي مدني وواحد بزي عسكري، وجهه بارد كأنه لا ينتمي لهذا المكان.
الضابط: *ينظر في ورقة ثم للأنقاض * نبدأ من هنا، الأرض مسجلة لمشروع تسوية، كل شيء سيزال.
رجل مدني * مشيرا للصبار: *حتى هاي النبتة؟
الضابط: * بجفاف * كل شيء...لا نريد شيئا يذكر الناس بما كان.
زاهر * بصوت ثابت *: ما بتقدروا تمحوها...هاي مو بس نبتة...هاي الجد و البيت...و القصص و الأكل...و الضحك و الصبر...و الدعاء...هاي نحنا.
الضابط * بتعجرف *: طفل يتحدى دولة؟
زاهر: * ينظر إليه دون خوف *: أنا ما بتحدى حدا...بس إذا ما ضليت هون، ما رح يضل من جدي غير الغبار.
لحظة صمت ثقيلة تمر على الموجودين...أحد الرجال يحاول التقدم نحو الصبار، لكن زاهر يرمي نفسه أرضا و يصرخ متشبثا بالمقام.
زاهر: اقتلعوني قبلها...هي ما عم تأذي حدا...ليش بدكن تأذوها؟.
الضابط يتردد، الجنود يتبادلون النظرات، أحدهم يتمتم: *حرام...شوف كيف حاميها؟
يزم الضابط شفتيه، ينظر للنبتة، ثم للطفل ثم يقول بصوت خافت: * خلوها....ما بتغير شيء.
يهمس زاهر حين مغادرة الجماعة مغمورا بالنصر: بلا...هي بتغير كل شي.
ذاكرة لا تقتلع
بنفس الضيعة، لكن الأرض تغيرت، مبان حديثة، طرق ممهدة و لكن في الزاوية...حديقة صغيرة غريبة الشكل ـ تتوسطها نبتة صبار ضخمة بالأحجار القديمة.
عشر سنوات بعد مشهد المواجهة، الناس تتوافد إلى المكان، هناك لافتة عليها بخط واضح * هنا صمدت الذاكرة *، فتاة صحفية شابة تمسك ميكروفونا و تقف قرب النبتة تهمس للمصور: قوللي...هذا هو الصبي اللي وقف قدام الجرافة من سنين؟
المصور: إيه...صار عمره 20 سنة تقريبا، الناس بيقولوا ما غادر الضيعة و لا يوم و بنى حوالين النبتة بيده حجر حجر.
أصبح زاهر شابا هادئ الملامح بثياب بسيطة، يحمل في يده إبريقا صغيرا من الطين، يسكب الماء على جذور النبتة، كما كان يفعل في الطفولة.
الصحفية: * تقترب من زاهر * أستاذ زاهر....نحب نعرف منك...ليش بقيت؟ ليش ما تركت الأرض مثل غيرك؟
زاهر: * ينظر إلى الصبار ثم إليها * كل شيء كان قابل ينمحى...بس هاي ما قبلت...لما شفتها واقفة، فهمت إنو الوجع مش لازم يخلينا نهرب...لازم يخلينا نزرع جذور أعمق.
الصحفية: يعني نبتة شوك، هي اللي علمتك تصبر؟
زاهر: * يبتسم بهدوء * هي ما علمتني...هي كانت الدرس نفسه.
ينظر إلى الحضور المتجمعين حوليه ثم يتابع: مش المهم الصبار نفسه...المهم إنوا حدا يتذكر...جدي مات، البيت راح، بس الذكرى صارت حية، و بتكبر كل يوم.
الصحفية * باندهاش *: بتعرف إنو في أطفال صاروا يجو على هالمكان يقولوا، بدنا نكون مثل زاهر؟
زاهر: * بصوت خافت * ما بدي حدا يكون مثلي...بدي كل حدا يلاقي صبارته الخاصة...و يعرف إنوا الجذور بتتحدى الحرب إذا لقيت حد يحرسها فتكون مغروسة في قلب العدو مثل الخنجر.
الصبار الأخير
بعد سنوات من إعادة إعمار الأرض، رغم الجراح التي لا تزال مفتوحة في بعض الأماكن، و في معرض عالمي للسلام، في الجناح الخاص بالذاكرة و المقاومة تحضره وفود من دول مختلفة، وسط المعرض...زجاجة دائرية شفافة بداخلها نبتة صبار صغيرة محفوفة بالتراب الأصلي من ضيعة زاهر.
المعلقة الصوتية * تتحدث *: هذه النبتة التي تعرض اليوم كرمز عالمي، لم تنم في حديقة...بل بين الركام، لم تروى بمياه عذبة، بل بدماء أبرياء و دموع طفل قاوم وحده جرافة النسيان.
يقترب زاهر من الزجاجة، ينظر إليها بحنان، يضع كفه على الزجاج و يتذكر مشهد الجد، المنزل، صوت الضابط، حبات التراب و الطفل الذي كان هو ذات يوم.
صوت الجد: * آخر الكلمات من الذاكرة * إذا مت...خلي في الأرض شي يوجعهم بالذكرى...شوكة، نبتة...حجر...بس لا تسمح للنسيان ينتصر.
زاهر: * يهمس وحده *ما نسيت و لا راح أنسى.
ينظر إلى طفل صغير بين الحضور، يحمل كتابا فيه صورة زاهر و نبتة الصبار، يقترب منه و يقول
الطفل: أنا زرعت صبارة و سميتها ذاكرة.
زاهر: * يبتسم للطفل و يركع لمستواه * إذا سقيتها كل يوم ما راح تموت...و حتحكي حكايتك كمان حتى بعدك.
و في الضيعة وسط اللون الرمادي و البني...مازالت نبتة الصبار الأصلية شامخة متفرعة، واقفة صامدة...صامتة لكن حاضرة.
الصوت الأخير:* يهمس علنا * بعض الأشواك....لا تباد.