عذرية وطن كسيح
القصة الفائـزة بجائزة في مسابقة "فوروم" نساء البحر الأبيض المتوسط بمرسيليا -فرنسا-(2002م) والمترجمة إلى اللغة الفرنسية.
المدينة البيضاء فارغة.. موحشة.. المحلات مغلقة.. قطط على كومـة الزبالة تـحت جدران العمارات تبحث عن رغيف خبز أو تترصد فـأرًا متسكعـا تحت جسر من جسور المدينـة الخائفة، الذعر عشعش في الطرقات والسيارات وفي عيون المارة المحدقة بعنف وإذلال إلى صفارات الإنذار المعلنة بين الفينة والأخرى…
سيـارات الإسعاف المسعورة في الشوارع ترتعش هلعًا تنتشل الجثث المحروقة والأشلاء المترامية على الأرصفة.. البنايات المتصدعة والمتهاوية من الأعالي تلتقـط الأنفاس..تخمد الصرخات المتأججة لهبـًا.. وتفترس الدموع افتراسًا، وأنامل تنهش الثرى نهشـًا… تمزق خلايا الجسد تمزيقًا موجعًا وتضطجع تقاسيم الحزن ألف مرة في سكون دائم.. الذي أفحم الوجوه وأعمى العيون الجميلة من سر الكينونة اللا متناه؟!
"سماح" [1] تتوسـط ركن الغرفة البنيــة اللون بوشاح أبيـض تلـف شعرهـا المتـدلي على كتفيها وبقربها سجـــادة حمراء موضوعة على أريكة بالية يعتريها غبار سنين التمرد السري وبجانبها مرآة قديمة مصنوعة من الخيزران الصيني منقوش عليها أزهار الخزامى العطريــة…
تمعــن النظــر في أشياء غابت عنها طويلا "سماح" فتاة الشهادة وحلم الجامعة وسيدة مجتمع راق كلها طموح وإرادة لخوض معركة الحياة الصعبة… لقد تكسرت أمامها الأسطورة لحلم جميل بات يراودها منذ الصبـا…
خبـز وحليـب وشـاي على المائدة الكبيرة وأكواب مملوءة وأخرى فارغة ارتشفتهــا شفاه ضمآى وعيون حائرة تلتهم صور التلفاز الملونة وتتدفأ بخلجات الأنفس المتعبة،، المثقلة بشظايا الوحم العسير… تقيئ وشهـوة وروح مرسلة وساعات الليل الطويل بأنينه وصمتــه الرهيــب يقتل في "سماح" سيمفونية التعبد والطمأنينة …فسكونه يخيفها.. يزيـد من شجونها.. من أحلامهـا المفزعة.. من دمعتها الحارقـة.. شوق ولوعة وحنين وآهات تبلعها عند النظر لمن حولها قائلـة:
ـ أيناك جسدي المهلهل بـمرض الزمن الجائر.. صعـود ونزول وأنا وأنت في دوامة الأوراق… أوراقي بيضـاء معفنة ملامحها… مسودة خباياها… تلف وترمى في قاع اليمّ حيث اللانهاية… ضبابية داكنة تحمل في جوفها لغماً يدوي جبال "الشريعة" [2] يسقط مئات الناس وآلاف الضحايا في "المعمورة+"... ويحرق الأشجار لتختنق العصافير المزقزقـة…
"سماح" والمحاكمة العسيرة التي لا تزال تراودها كلما سمعت بمذابح "المتيجة" [3] وتتذكر الرعب الذي سكن نفسها منذ تلك اللحظة وهي تستعيد شريط الذكرى أمام مرآتها المشروخة التي اعتراها غبار البيت ورميت في الركن لأنها ذكرى "سماح" فـتبكي بحرقـة شديـــدة وهستيريا فضيعة… بأثــواب ممزقة ملطخة بدماء الاغتصاب… تشدها بألم كأنها تهرب من حقيقتهـا فيها وصوت رجال الكومندوس يدوي في مسمعها مردداً:
ـ ألا تعـرفين وجوههم؟ قال رجل الكومندوس. (يتراءى لها غاضباً في المرآة).
ترد وهي ترتجف:
ـ كانت ملثمة؟
وأردف في غلظة قائلا:
ـ كيف، ستة أشهر وأنـت معهم ولا تعرفين وجوههـم؟
ـ كم كان عددهم؟
ـ ماذا كانوا يتكلمون؟
ـ بأي لغـة؟
ـ لباسهـم؟
ـ الأسلحة نوعها…!
تضع "سمـاح" وجهها بين كفيهـا وتقلب مرآتها المشروخة حتى لا ترى وجهها الباكي، ثم تعاود رفعها وتكمل شريط آلامها فيها.. فتتراءى لها كل الوجوه عبرها،،، رغم كل شيء لم يصدقوها… وترفع صوتها المبحوح بقوة الألم الساكن بداخلها… لا أعرف… لا أعرف… لبـاسهم يـحاكي ثياب مدينة "كابول" وعددهـم يفــوق العشـرة،، لم يتكلموا أمامي مطلقا فيما يفعلون أو يخططون،، كل مرة ننتقل من مكـان إلى آخـر، ليست بيوتـًا من القرميد بل أعشاشاً تحت الأرض يأكلون ما لذ وأنا وأخريات كن للمتعـة الجنسيـة…
من الأمير إلى أبسط سفاح عنده… زواج تقرره العصابة وإيـانا أن نرفض أو نعارض؟
يحملق فيها قائلا:
ـ والجنين الذي في بطنك المنتفخ ما قصتـه؟
ـ ما اسم أبيـه؟
ترد وهي ترتعش محملقة في المرآة، تتحسس بيدها بطنها المنتفخ:
ـ هو الأمير أبو… لكن كانوا ستة انتهكوا شرفي؟
تحبس دموعها الجارفة كالنهر وتروى حكايتها له:
"في إحدى الأماسي البائسة أمام مخرج الثانوية.. توجه نحوي رجلان، وضعا شيئا تحت إبطي كحربة كاد يخترق أضلعي وهمسا لي بالمشي معهما دون أن أتكلم أو أصرخ… مشيت والخوف يقتلني.. ركبـنا سيارة واتجهنا دون معرفتي إلى أين… فعيناي معصوبتان ويداي خلفي مقيدتان؟ وكان أحدهما يقـول لي:
ـ أين الحجـاب يا فاجرة؟
ـ ولما لم تتوقفي عن الدراسة؟
ـ ألم تقرئي بياناتنا الحائطية؟
ـ من فضلك سيدي الضابط، أريد كوب ماء يبلل حلقي؟
كـان جسدها مضطربا كالدجاجة المذبوحة.. تصمت برهة.. تتصفح الوجوه التي كانت حولها، بألبستهم المزركشة والقلق والذعر يثقلانها عن الحركة حتى تجمد الدم في أوصالهـا..
أغمي على "سماح" المسكينة من شدة الصدمة فأمر الضابط بنقلها إلى المستشفى العسكري تحت المراقبة في انتظار مولودها؟
"سماح" ترفـض هذا الجنين الذي يسكن أحشاءهـا وتحاول التخلص منه مكرهة كل ما عادت بها الذكريات السوداء إلى الوراء عبر مرآتها المشروخة، تحمل صور حالة اغتصابها الوحشية وكأن كلاباً مسعورة تمزق لحمها والـدم يسيل بين فخذيها… ولا أحد رق قلبه لوجعها وعذابها...
تنهض الجريحـة من فراشها تقف عند الشجرة في ساحة البيت التي تهتز كل يوم وتنكسر من أجل ثمارها كل حين فتحتضنها من جديد... وتعبث أصابعها بالمرايا المعلقة على الجدران في محاولة نسيان شكلها الظاهر أمامها…
الجراح تبتسم كالشروخ على كل مرايا جدران البيت المرتج للاهتزازات العنيفة التي تصحب قوة الانفجــار في جسور الطرقات المتيجية [4] …
تتأمل الأزقة الفارغة كأنها وجوه شاحبة.. تنظر وهي تجر معطف الفضيحة… تحاول أن تلملمه… قد ترميه… قد تحرقه خوفـًا من سكين يعانق نحرها أو رشاش يفرغ في جسد الأبدية…؟
الجنين ولد ميتًا… في وحل الدماء… في ليلة مظلمة منتصفها كان نحيبك وأنينك… كان صمتك وخوفك من السراديب المغلقة… تتهاوى أمامك المدينة… تسقط عنها أقنعة الهتافات للتغيير الجذري قصد حياة أفضل… وتبحر في سفينة شراعها ممتد إلى أمل تلوحه الرياح تلويح الوداع الأخير بحثـًا عن سبيل للهروب إلى ما وراء البحار… مودعة قصوراً وبيوتـًا تسكنها عناكب سئمت منها حيث تنسج خيوطا جديدة في هدوء،، وتصطاد ذبابـًا عفنـًا وناموسـًا قذرًا بعيـدًا عن يـد غليظـة ترمـي به إلى سلة الزبالة وتقتلها بقدم خشنة…؟؟
تشرب فنجان القهوة الباردة بتأني.. تنهمر من عينيهـا دمعتان حارقتان وتعض شفتيها اليابستين وهي تخفي وجهها من مرآة تطاردها بألم المسافات الطويلة بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها المجهول… تنتظر مصيرها ومثيلاتها الأخريات بعصبية شديدة ونفسية مضطربة… قلقة... متوترة …تهذي بكلمات مبهمة لقد فقدت السيطرة على أعصابها والتحكم في حركاتها… ها قد شلت إرادتها وعزيمتها في العمل والتحدي… سلبت عزتها واغتصبت كرامتها لما مزق غشاء أنوثتها ومورست عليها كل طقوس الهيجان الجنسي بوحشية فضيعة أقعدتها رهينة الضياع، والعار يلاحقها من عين إلى أخرى ومن شارع إلى شارع ومن نفسها المحطمة… من يتزوج بها؟
هل العادات والتقاليد ترحمها في الليلة البيضاء وتسترها، وتغلق أفواه النسوة، وتغمض عيون الهمز واللمز وتعلن الزغاريد في الأجواء وترفع رأسها دون حياء…
وهي على حالها بين الحيرة والحيرة الكبرى في أن تنشر صورتها والأخريات عبر وسائل الإعلام المختلفـة تجعل من قضيتهن مصدر الشهرة والتشهير والمطالبة بقانون يحميهن ماديًا ومعنويًا وتستغل الأوساط الدسيسة وضعيتهن للمكابرة والتكبير…
ترفض"سماح" الخضوع لكل هؤلاء الذين يحاولون جعلها لافتة أخرى تعلق عليها أطماعهم قائلة:
ـ ما جدوى الفتـوى التي تبيح لي إسقاط ما في رحمي وأعيد خياطة الغشـاء ولا حرج في ذلك…
ـ أيـن كانت الفتوى يوم رفع السلاح وذبح إخوتي وبقرت ماشيتي وأحرقت زريبة أغنامي وبيـتي ونكل بعشيرتي…
تعيد رفع مرآتها المشروخة وتحدثها في كبرياء مميت قائلة:
ـ من يعيد لي غشاء البكارة الذي فضته يد الإجرام ويمسح دموعي وأنيني؟
ـ من يعيد لي طمأنينتي وكبريائي وثقتي بنفسي وبوطني وأهلي؟
ومن يعيد السلام إلى قلبي والسكينة، وهذا جسمي المترهل ينازع روحي ويصـارع خلدي
ويحول الواقع جحيمًا…
"سماح" تمزقها سهام الكلمات المختلجة بصدرهـا مخاطبة مرآتها التي نصبتها أمامها لتحاكم نفسها فيها ((راحلة أنا عنكم تاركة ورائـي حطامـًا ودموعًا… وجرحاً عميقاً وصرخات متتالية ترفضني رفضاً مؤلمــًا…))
"لست من نبحث عنه" فعيوبك كثيرة.. إنك متسلطة.. سلطوية القرار سكنت بداخلك.. نمت جذورها بشساعة هذه الأرض.. أرض الشهداء..
لم يعد يجدي من الحب إلا الرماد وتوهج الجمر يلهب الفؤاد.. ساعة وساعات وأيام وأنا كما أنا... لا جديد ولا حياة لقبور أحياؤها ميتون؟؟
سجن رهيــب بداخلـي يسكنه خراب البوسنة وأهات فلسطين التي ترفض هذا التمزيــق وفي الشيشان… فالهـجر أضناني والانتصار أعياني والحلم شوقـني إلى هدهــدة أم رؤوم أنـام علــى صدرها… لا للبكاء ولا للشكوى بل لأنام ساعات الحرمان والاغتراب؟
أريد أن أرتاح يا وطني من عناء السير والغربة والهموم والنعـوت.. من تأشيرة الأسفـار وكراسي الطائرات ومطـارات العالم التي ترمقني بعيون شزراء… تفتش حقائبي وأوراق الهوية الضائعة بين دفاتر التاريخ.. وضحكات الهستيريا تخترق جسدي المحنط بحقائب الأتعاب والاغتراب..؟
تــذرف "سماح" العبرات الملتهبة لتغسل بها مرآتها المشروخة عبر أنوثتها المطحونة وذاتها الممزقة فجأة ترميها على الأرض.. تتكسر.. تسحقها بقدميها وهي تصرخ بعصبية قائلة:
ـ لقد ضــاع كل شيء… أين عذريتي يا وطــني وقد حملت جنيناً لا أب لــه؟ بل ستة ذئاب بشرية مزقت جسمي باسـم السلطة والعــرف والدين وألبستني حجـاب الذل والعار… وأقعدت أمي سجينة عيون الاتهام ومات أبي بفاجعة الواقعة.. وحمل إخوتي سلاح الأمن وعيونهم تتطاير منها شـرارة الانتقــام لبني جلدتي الذين نصبوا أنفسهم أوصياء الشريعة بسفك الدماء وانتهـــاك الحرمات والحرق والتدمير.. الشارع مخيف والمدرسة ملجأ القتلـى والأجسام الملفوفة في جلابيب الحزن مكرهة تترقب بفـزع صوت السيارة المفخخة أو يداً خفية تمزق أشرعة الصمت الرهيب والحذر.. وترمي بقناع الزيف لفخفخة الكراسي والموائد المستديرة، وشعارات الاستنكار والرفض المرصعة بأحرف ذهبية على جبين وطن قلدوه وسام الحرية في أرض تغلغلت جذورها بعرقية الانتساب واختزلتها محافظ الشرعية والقرارات…
وأصبحت "سماح" تعاني إلى يومنا هذا عقدة الانتماء…