

عصا الجَنَّة
بعد ثلاث ساعات مُتواصلة من القتال ضدّ جنود الاحتلال نفدت ذخيرتنا بعد أن أطحنا منهم عددا غير هيّن، الآن أركُضُ معصديقي رامي كي نتحصَّن في مبنى نستعيدُ فيه أنفاسنا.. هذه الأنفاس التي لم تُخلَق فينا إلا للمقاومة والقتال، نركُضُو الرصاصات التي تُلاحِقُنا أبعدهُنّ من أجسادنا هي التي نسمعُ عزيفها قرب أذُننا، لكن.. ما هذا الشيء العجيب الذييحدث! أين ذلك الألم؟ أين ألمُ الجراح والاضطراب والتوَتُّر المُحَبَّب الذي كنا نجدهُ طوالَ ثلاث ساعات من القتال؟! والآنلما نفدت لنا الذّخيرة ونركض للتحصُّن نجدُ أن الأبم يتلاشى وتخفُّ وطأته..! لكن الأعجب والأغرَب.. هو رامي، إنه يركضجانبي نازِفا وهو يضحَك! أسألهُ بأنفاسٍ لاهثة :
رامي.. لماذا تضحَك؟!
أضحَك؟! الأجدَرُ أن تسألَ نفسكَ أنت.. على الأقل أنا أضحك بصوتٍ مُنخفِض!
أيعني هذا أني كذلك أضحَك؟! لكن بدون بدلِ أي مجهود! طالما تخيَّلتُ هذا المشهد.. تخيَّلتُه بدِقَّة واحتِرافيّة بارِعة،لكن..! الشيء الذي أخطأتُ فيه، هو أني لم أتخيَّله أنه كان بهذه السهولة، بل وبهذه اللَّذة! تخيَّلتُهُ بألمٍ مُمِضٍّ لأكتشفالآن أنه ليس موجودا إلا في الوهم!
رامي.. حتى أنت بدأتَ تضحك بصوتٍ مُرتفِع!
نعم نعم.. لكن لم أصل بعد إلى درجة ارتفاعك أنتَ!
أثناء ذلك الركض زحفنا على بيت مُهدَّمٍ سُوِّيَ بالرَّدْم دون أن ننتبِه، والآن أحجَمَنا أحد جُدرانه عن التَّقَدُّم، اتكأنا عليهبظهورنا، ونحن صغار.. كنا نُقحِمُ أصبعنا في الحلوى المُعَجَّنة، نحسُّ بالعجين في أصبعنا لكن لا نحسُّ بمذاق الحلوى،كذلك الآن نحسّ بالرصاصات التي تقتحِمنا، لكن لا نحسّ بأجسادنا.. لقد صار كلّ شيء خفيفا، وكأن كلَّ قطعة من بدنيتحمِلُ نفسها بنفسِها دون أن تحتاج إليّ، تتقدَّمُ تلك الكائنات الشَّوهاء يتخفَّى بعضهُم في بعضٍ من الجُبن.. والرصاصيُمَجّ منهم أسرابا كالطير المَفزوع، كائنات لم نعتبِرها من قبلُ إلا رموزا شفَّافة جوفاء نُثبِتُ منها لأنفسنا و لكل النُّفوسالحيّة حقيقة الشموخ والعِزَّة والكرامة، ألتَفِتُ إلى رامي فأرى أن كلَّ شيء في الدنيا خفيفٌ عليه، إلا أن يجمعَ ابتِسامتهالعريضة! لا أشكُّ إن سألتُهُ سيُجيب :
الأجدَرُ أن تسألَ نفسكَ.. فابتِسامتُك أعرَض!
أثناء ذلك الرَّكض تخفَّفنا من كلّ شيء إلا عصا كانت في يد رامي، أنظُر إلى أصابعه تُطوِّقُها بحزم، سقى قلبي بنظرةوكأني قرأتُ منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقومحتى يغرسها فليفعل"
بقِيَت عينه في عيني وهو يفعل! هناك شيء مُشترك بين هذه النظرة ونظرات أخرى، نعم.. هي نفسها، نظرته حينماحاز شهادة الدكتوراه بأعلى الدرجات، نظرته يوم تزوَّج محبوبته، الشيء المشترك هو النَّجاح.. لقد فعلها.
أتْبعتُ عيني العصا لما قذف بها العدو المنخوب، لكن رأيتها وهي تتحرَّكُ تحَرُّكا في السماء لا يخضع لقانون هذا الكون.. لاقوَّة طردٍ مركزيَّةٍ ولا جاذبيَّة، إنها تطيرُ بحركة ذاتية،، ياااه.. إنها تتفكَّكُ عن أزهار، عصافير، نجوم صفراء لامعة، رسائلأوراقها تطيرُ بأجنحة برَّاقة، غمرني إحساسٌ لا أجدُ كيف أعبِّرُ عنه بلغة العالم الذي كنتُ فيه إلا "ياليت قومي يعلمون بماغفرَ لي ربي وجعلني من المُكرمين "
أميلُ عند رامي فأجِدُ في نظرة عينه جوابا لا أجِدُ كيف أعبِّرُ عنه بلغة العالم الذي كان فيه إلا " سيَعلمون.. سيَعلمون"
تمت