

غزة بعيون حلاق
وصلتني رسالة على الهاتف "عليك اخلاء المنزل سيتم قصف البناء"، مع تحذير بالابتعاد عن أماكن المخربين وكانت بتوقيع IDF(جيش الدفاع الإسرائيلي)، وللحظات انتابتني موجة من الارتباك، فماذا علي أن أفعل وأنا أعلم ان الوقت غير كاف لحزم أمتعتي، ولكنني وسط زحمة الزمن المتبقي للخروج من المبنى وجدت نفسي أكتب منشورا على صفحتي في الفيسبوك، وربما هي المرة الأولى التي أشعر بها أنني بحاجة لكسر قواعد مهنتي التي تقتضي خلق أحاديث وسماع الاخرين، وشعرت بأن الزمن تحول في داخلي وحان الوقت ليعرف زبائني حقيقة الحلاق الذي يمر في تفاصيل حياتهم اليومي كشخص لا يحمل سوى مقص لتحسين مظهرهم.
شعرت أن رسالتي على صفحة التواصل الاجتماعي ربما تكون الأخيرة، وأنا لست معتادا على الكتابة بل استخدم هذه المنصات لتمضية دقائق ما قبل النوم ولنسيان أوجاع قدميَ نتيجة الوقوف الطويل في محل الحلاقة، لكن إنذار الإخلاء خلق رعبا خاصا رغم اعتياد القصف اليومي، فالروايات التي سمعتها من البعض حول هذا الأمر تجعلني على يقين بأن الخطر أصبح مختلفا، فهو ليس موتا يعرفه كل أهالي غزة بل حالة البحث عن أساليب النجاة وبداية الترحال من مخيم لآخر، لكنني في النهاية اختصرت الكلمات وكتبت منشورا يقول: "أخبروا العدو ان نبيل كان حلاقا ماهرا".
هذا ما تضمنه منشوري لأن الوقت لم يكن كاف للتعبير، وحان الوقت الخروج من المنزل مع الجيران، والحمد لله وصلنا الى نقطة آمنة في مخيم قريب مكتظ بالصحفيين، وانتابني عند وصولنا شعور غريب، فتذكرت أمي وأبي وحمدت ربي أنهم متوفون، فوسط الروايات التي انهالت علي في المخيم بدأت باسترجاع صور من الماضي، وحمدت الله مجددا على رحيل والديَ لأنني لا أريد ان أفتش عن رأس أمي بين ركام الموتى، وانتابتني مشاعر سوداوية وأنا أتخيل أبي وسط زحمة المخيم حيث يصبح البشر جزء من الأرض الممتدة باتجاه الحدود مع مصر.
بعد ساعات من مكوثنا في المخيم جاءنا خبر قصف المبنى، وسمعت جارتنا أم ياسين تعاتب زوجها لأنه لم يسمح لها بجلب ما تبقى من الطعام في المنزل، فنظرية أبو ياسين كانت تتمحور على أمرين أساسيين هما تخفيف الحمل لسهولة الحركة أثناء التنقل، أما الشق الثاني فهناك أشياء أهم من الاكل، وقصة أبو ياسين تحتاج لرواية يمكن أن أفكر بكتابتها عندما أترك مهنة الحلاق، ولكن هذا التحول يحتاج إلى نهاية الحرب، فأبو ياسين لديه نظرياته السياسية، وكان صالون الحلاقة يكتظ عند قدومه، فالجميع يلتمس في حديثه الأمل وربما كان يجدر به أن يصبح المتحدث الأول باسم المقاومة.
مهنة الحلاق جعلتني محاطا بكمية الأشخاص الذين ولو بالصدفة مروا على المحل لمرة واحدة، ومنذ قدومي للملجأ أصبحت محاطا بوجوه مبتسمة رغم الألم، فالجميع ألفى عليً التحية واطمئن على أحوالي، وأحسست ان كل الزبائن صاروا وبشكل مفاجئ أمامي.
انقضى اليوم الأول بصعوبة.. لا يوجد شيء سوى صوت القصف من حولنا والمراسلين يحاولن إيجاد وسيلة للتواصل مع مكاتبهم الإعلامية، وفي ساعات الليل الأخيرة تذكرت أن أفتح جوالي وأتفقد المنشور الذي نشرته على صفحتي، ولكن للأسف لا يوجد شبكة لمعرفة ماهي ردود الأفعال على المنشور، ولكن من المرجح أن جميع الأصدقاء لديهم نفس معاناتي في فقدان الاتصال.
كان اليوم الثاني متعبا لأنني دخلت الرقم القياسي في عدد الأشخاص الذين أحلق لهم بطريقة بدائية، فالمقص المستعمل لا يصلح للاستعمال البشري لكثرة الصدأ، وأنا متأكد بعد انتهاء الحرب سيهرب الزبائن بسبب الطريقة التي استخدمتها، فاستطعت تخفيف كثافة الشعر بينما تبقى اللحية طويلة لانعدام شفرات الحلاقة ولا عدة العمل، وبدأت فكرة الحلاق داخل الملجأ تتطور عندما رشحني أبو ياسين لأحلق لصحفي لا اعلم من حدثه عني، ولكن إصراره على أن أقص شعره كان محرجا، وبدأت بالحلاقة دون الاكتراث بالنتائج، وسرعان ما انتهيت من الصحفي ووجدت الجميع ينتظر ويريد أن يحلق.
أعجبني حجم الثقافة التي يمتلكها الصحفي سعيد، عندما سألته عن اصرراه على الحلاقة أجابني: لا يهم النتيجة يجب أن نحاول اظهار أنفسنا بأفضل اطلالة، لا نريد وضع حجة الحرب والقصف لتجنب موقف الضعف ونحن أصحاب حق".
هل يعقل أن الجميع يفكر كسعيد ولهذا توافدوا عليَ بهذه الكثرة.. ربما هناك نوع من وحدة الحال تجعلنا جميعا نتصرف ونقيس أفعالنا على ما يقوم به الآخرون، وفكرت بأن منشوري القادم على صفحات التواصل سيحمل عبارة الصحفي سعيد.. هذا إذا بقي كهرباء لأشحن جوالي.
انتهيت من الحلاقة وعندها حصل شيء لم يكن متوقع.. مدير المكتب تفاجئ من مظهر سعيد ورفض ظهوره بسبب الشكل غير اللائق، وتفهم سعيد الموقف وطلب مني مساعدته بإيجاد حل قبل موعد البث بعد ثلاث ساعات، وازداد الموقف حرجا بسبب استياء كل من قصصت له شعره في المخيم من مناظرهم بعد الحلاقة، وهذا ما يؤكد مقولتي الشهيرة بأن هناك نوع من وحدة الحال تجعلنا جميعا نتصرف بنفس الشكل، وفي النهاية ولكي احتوي غضب الجماهير قررت أن أتضامن مع البقية وأقص شعري بطريقة وحشية، واتجهت للأستاذ سعيد وخاطبته بطريقة ثورية: لن يهزمنا العدو صدقني جميعنا عالقون هنا، وأغلبنا خسر بيته وفقد شخصا عزيزا، وبالنهاية أعوضهم بهذه الطريقة، سأذهب الى المنزل وسأفتش عن العدة بين ركام المبنى بعد القصف.
عارضني سعيد بشدة ولكن دون جدوى، وحاول أبو ياسين اقناعي أيضا بعدم الذهاب، وتحدث معي الجميع بهذا الامر دون فائدة فالمسألة بالنسبة إلي أصبحت منتهية، وقررت الخروج لإنقاذ الموقف ورسم خطة لان طائرات العدو تحوم في الأجواء، وقادرة على التقاط أي حركة لتقوم بالقصف.. لكنها مغامرة لا مفر منها، فسعيد سيتحدث على الهواء بأجمل حلة ويروي الحقيقة، وسأعدل للجميع حلاقته.
قبل مغادرتي استشرت أبو ياسين بالطريقة التي تمكنني الإفلات من الطيران.. فكر أبو ياسين قليلا ثم غاب عني وعاد وبيده حقيبة صغيرة مليئة بالألبسة، واقترح علي تقسيم الطريق الى قطاعات، وعند كل قطاع أقوم بتغيير ملابسي، وفي حال تم قصفي أو مرور الطيران فوق رأسي اتظاهر بأنني ميت، وبعدها أقوم بالاختباء، وأبدل ملابسي بحيث لا أبدو نفس الشخص بالنسبة للطائرات المغيرة.
كنت أشعر بأن حجم المسؤولية يتضاعف لأنني شوهت أشكال جميع رجال المخيم في هذا الوقت الحرج، ولأنهم تبرعوا بقطع من ملابسهم من اجل نجاح الخطة التي لم تكن مقنعة لكنها كانت صادرة عن أبو ياسين الذي يدعي الخبرة بمثل هذه الأمور، لكن والوقت بدأ ينفذ مني ولم يتبق سوى ساعة ونصف لبث سعيد، وانتصاري هو انتصار الجميع، فسارعت بالخروج من المخيم، وسرعان ما وجدت طائرة العدو فوق رأسي، وهرعت الى الضفة المقابلة حيث يوجد بقايا لمبنى مدمر، وتمنيت لو أن الزمن ينقلني سريعا لأنهي المهمة وأصبح أمام سعيد مرة أخرى.
اجتزت مسافة لا بأس بها فالمخيم لم يكن سوى ساحة عامة على أحد الشوارع الرئيسية، وكان بإمكاني رؤية بقايا منزلي، ولكن أصوات الطيران المسير غدت تطوقني، فتجمدت بمكاني عندما عبرت إحدى المسيرات التي كانت تحلق فوق المباني المنهارة، ووسط اليأس الذي بدأ ينتابني تسمرت في مكاني، وانتظرت حتى لا تكتشف الطائرة مكاني، لكنها كانت تحلق بشكل غريب وكأنها تبحث عن أي تحرك، ولم يعد أمامي أي مجال للنجاة ولم يتبق من الوقت سوى ساعة تقريبا.
كان الحل الوحيد هو التقدم دون الاكتراث بالطيران المسير، فربما أستطيع خداعها، وبدأت أتحرك بخطوات سريعة وخرجت من المبنى، وسرعان ما أصبحت الطائرة المسيرة فوق رأسي، وجدت نفسي أقفز وألتقط حجرا من الأرض ورميت به الطائرة بشكل عفوي ثم بدأت أركض بشكل سريع، ولا أعلم ما الذي حدث بعد ذلك، لكن المسيرات أصبحت أكثر وبدت وكأنها تحاصر المنطقة التي أركض فيها، وهنا بدأت قصة جديدة تؤكد مقولتي السابقة، "ربما هناك نوع من وحدة الحال تجعلنا جميعا نتصرف بنفس الشكل"، حيث تواجد مقاوم في أحد المباني المدمرة القريبة وأطلق قذيفة أو ربما رشقة رصاص، وشعرت أن ما حدث سيناريو متفق عليه بيني وبين المقاوم الذي سحب المسيرات باتجاهه لأستطيع إكمال مهمتي.
بهذه الحركة تحول سرب المسيرات لمكان الاطلاق، وتمكنت من الهرب والوصول الى الهدف دون معرفة ماذا حصل للمقاوم، وفاجأني مشهد غريب فالقسم العلوي من البناء الذي أقطنه مدمر والقسم السفلي يمكن التسلل داخله، وأصبحت المهمة سهلة فما علي فعله الدخول إلى محل الحلاقة أسفل البناء.. كانت واجهة المحل محطمة ولم أكن احتاج سوى لأدوات يدوية.. مقص وفراشي للشعر.. وجدت ما أريده ونفضت الغبار المتراكم، وودعت محل الحلاقة بحسرة، فتفاصيل حياتي كانت تدور بين تلك المرايا التي تحطمت والكرسي الذي انقلب رأسا على عقب.. خرجت مسرعا لأن الوقت بدأ ينفذ، وكان طريق العودة أسهل لأنني اعتدت المراوغة وتخليت عن المهمة التي اقترحها أبو ياسين بتبديل الملابس، وظهر المخيم من جديد وكأنه ملامح لحياة مختلفة، فهو "مخيم بلا خيم" ينتصب بالعراء ويفترش سكانه الأرض، وتذكرت أن تلك الساحة على أطراف المدينة كانت مجرد مكان مفتوح لا ينتبه إليه سكان الأحياء القريبة منه، لكنه أصبح يضج بالروايات والسرديات عن حرب تلاحقنا من ماكن لآخر.
عندما اقتربت وجدت تجمعا داخل الملجأ سألت عن سعيد ولم يجيبني أحد.. سألت أبو ياسين كم الوقت المتبقي للبث أسعيد، اجابني: "الوقت انتهي مضى على البث ساعة او أكثر"، وكان وجه أبو ياسين مختلفا عما اعتدت عليه.. كانت عيناه دون البريق المعتاد وبدت شفتيه متثاقلتين وهما تتحركان لتخرجا بعض الكلمات، لكن ما عرفته جعلني أيضا اختنق أيضا، فقبل البث بساعة جاء خبر لسعيد عن استشهاد أهله جراء القصف، فخرج من المخيم على عجل ولكنه لم يصل فهو سقط أيضا جراء القصف في محيط المخيم.
من يعتقد أن القصة انتهت هنا يكون مخطأ، قضيتنا لم تنتهي عند سعيد بل بدأت عندها، وكلام أبو ياسين خفف عني حيث قال لي:
نجحت يا نبيل وزرعت الامل بين المتواجدين بالملجأ بعودتك، ابتسم لأن العدو فشل بنقل الدمار والركام الى عقولنا، تخيل رغم القصف والحصار لا أحد يستطيع الوصول لنا، وتمكنا من ممارسة طقوسنا، وأثبتنا أن المقاومة فكرة لا تموت.