الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم كاملة عبداوي

غزة رمز الصمود

لم يكن الوصول إلى غزة بالأمر السهل، لكن بعد عامٍ من الحصار المُضني، تمكّنتُ من دخول القطاع كجزءٍ من الفريق الطبي عبر معبر كرم أبو سالم. وبعد عناءٍ شديد، التحقتُ بالمستشفى الإندونيسي. كنت أظنّ أنني مُهيّأ لما سأراه، فلقد تابعتُ المجازر عبر الشاشات، وقرأتُ تقاريرَ عن نقص الأدوية والمعدات، لكن ما رأيته على أرض الواقع فاق كلّ توقعاتي.
في مشفى الشمال، كان البنزين شحيحًا، والمخدّر شبه منعدم، وكم من عمليةٍ أجريناها على ضوء كشافات الهواتف عند انقطاع الكهرباء. بصفتي أخصائي جراحة أطفال، كنت أتعامل يوميًا مع مرضى صغار، منهم من بُترت ساقاه ولن يتمكن من لعب الكرة مجددًا، وآخر فقد ذراعيه نتيجة القصف، ولن يستطيع الإمساك بطائرةٍ ورقية قط. ناهيك عن كونِ الطائرات الوحيدة التي تُحلّق في سماء فلسطين تجلب معها الموت والدمار.

قضيتُ فترةً وجيزة بين أهل غزة، لكنها كانت كفيلة بتغيير نظرتي للحياة؛ فلقد أذهلني صمودهم وقوة إيمانهم في ظل المجاعة والحصار، وشعرتُ أنني بين أهلي من فرطِ كرم ضيافتهم ومعاملتهم الحسنة لي، على الرغم من صعوبة الظروف.
أما الأطفال، فقد كانوا شفاءً لروحي. لاعبوني، ضحكوا لي، اقتربوا مني كأنني والدهم. وكان أحدهم بعمر طفلتي التي تركتها خلفي، وما غابت عن بالي لحظة. كانوا الأمل نفسه، ثم رأيتهم يُحملون إليّ أشلاءً تزفّهم صرخات أهاليهم التي مزّقت قلبي وجعلتني أشعر بالعجز. ماذا كنت سأفعل لو كانت فلذة كبدي من استُشهدت أمامي؟ وما ذنب هذه الأرواح البريئة؟ غير كونها وُلدت في عالمٍ منافقٍ يتغنى بالعدالة وحقوق الإنسان، لكنه يتجاهل إبادةً جماعية تُرتكب يوميًا على مرأى من الجميع.

في أحد الأيام، خرجتُ من قسم الطوارئ بعد أن لفظتْ إحدى الصغيرات أنفاسها بين يديّ. لم أعد أحتمل، واتّقد غضبي كنارٍ تستعرُ داخل صدري. لم أدرِ أين أمضي. أردتُ أن أصرخ، أن أثور، أن أنتقم. حتى قابلتُ أحد شباب المنطقة، لقد حاورني بلطف، وهدّأ من روعي، وأقنعني بعقيدة الجهاد في سبيل الله، واتباع وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بألا نؤذي شجرةً ولا مُصابًا ولا صبيًّا، حتى لو كان عدونا الغاشم يستبيح كل الأعراف البشرية. عندها طلبتُ منه أن يساعدني لأتطوع في صفوف المقاومة.

اقتادني الشاب إلى مكانٍ سريٍّ حيث تم استجوابي للتأكد من كوني لستُ جاسوسًا، ثم قام المجاهدون الشجعان بتدريبي على القتال. لم أكن أتوقع أن تأتي لحظة خروجي معهم، لكن حين جاءت، شعرتُ بمزيج من الرهبة والشرف.
قالوا لي: "سترافق القائد الأعلى"

ظننتها مزحة، حتى رأيتُه أمامي... يحيى السنوار. لم أصدق عينيّ. الرجل الشبح الذي قضّ مضجع العدو وأرّقهم بحثًا عنه يقف أمامي. لم يكن في الأنفاق مختبئًا كما كانوا يزعمون، ولا خارج البلاد بينما أهل غزة يُقصفون، ولم يكن حتى متحصنًا في مكتبٍ يُملي الأوامر عن بُعد كما يفعل القادة الآخرون؛ كان في الميدان يخاطر بحياته في كل لحظة.

أذهلتني غزة للمرة الألف، لكونها مكانًا فريدًا يمتلك أهله يقينًا بالله وإيمانًا بقضيتهم العادلة، لدرجةٍ فاقت الخيال. وقبل أن أستوعب كل ما يجري من حولي، قال لي السنوار: "هيا معنا، سيكون وجودك مفيدًا كطبيبٍ يعالج الجرحى"

فرافقته مع اثنين من القادة، نتنقّل عبر الأنفاق تارة، وبين أنقاض المدينة تارة أخرى لأيامٍ طويلة. وعلى الرغم من الجوع والتعب، كان المناضلون صامدين بشكلٍ مهيب، وكنت أحاول الاقتداء بهم. في لحظةٍ ما، باغتنا العدو الذي كان يُمشّط منطقة تل السلطان، فافترقت قواتنا لتشتيته، حيث بقينا نحن الثلاثة معًا، بينما انفصل السنوار عنا لمواجهة الصهاينة ببسالته المعهودة.

أفزعني دوي قصف المدفعية غير بعيد عن موقعنا، فانخفضتُ محتميًا بجدارٍ منهار، وشعرتُ بفورة أدرينالين جعلت قلبي ينبض بقوة بين ضلوعي، وأنفاسي تتسارع. استنشقتُ مزيدًا من الهواء الذي كان محمّلًا برائحة البارود والتراب، في محاولةٍ لاستعادة رباطة جأشي.

بدأ الاشتباك، وصار الرصاص يتطاير في كل اتجاه. من الواضح أنه لا فرصة لنا للنجاة أمام أعدادهم الهائلة وعدّتهم الثقيلة. مع ذلك، ما زال الشباب يقاتلون بكل قوتهم، ويمكنني سماع دوي القنابل التي يُلقيها السنوار على الغزاة من الناحية الأخرى، كما لو أنه أبى إلا أن يفدي الوطن بروحه، ويكون اسمًا على مسمى "يحيى" في ذاكرتنا ببطولاته حتى آخر لحظة.
أغمضتُ عينَيّ، وتلاشت صيحات أرض المعركة وصوت الرصاص من بالي، للحظةٍ تذكّرتُ فيها وجوه الأطفال الأبرياء مبتسمين، والذين غدوا دافعي للقتال، لعلّي أُساهم في تأمين غدٍ أفضل لهم في أرضٍ محرّرة. حتى أخرجني من أفكاري صوت زميلي في القتال حين ناداني قائلًا: "تحرّك الآن!"

نظرتُ أمامي، فإذا بي أجد رفاقي قد تمكنوا من فتح ممرٍّ آمن. انطلقتُ راكضًا، وأنا لا أعرف كيف حملتني ساقاي، لكن للأسف، لم يلحق بي أي من القادة، وظلوا مشتبكين مع العدو يحمون ظهري.

ابتعدتُ بما فيه الكفاية، ودخلتُ إلى أحد الأبنية التي كانت في الماضي تعجّ بالحياة، وغدت تقف كهياكل فارغة تشهد على الدمار والأسى. جدرانها باردة، وزجاج نوافذها محطّم كأحلام العائلات التي كانت تسكنها. ثم خرجتُ من مخبئي حاملًا الرشاش، مستهدفًا كتيبةً من الجند لحقت بي، علّني أكون الشهيد القادم وآخذ معي بضعًا من هؤلاء القتلة.
يومها، لم أُستشهد كبقية رفاقي، ولكن ماتت فيّ أشياء كثيرة: كضعفٍ قديم كان يسكنني، ولا مبالاةٍ ورثتها من الحياة الناعمة التي عشتُها قبل أن تطأ قدماي هذه الأرض الطاهرة. وكان عزائي الوحيد أنني ربما نجوتُ لأروي قصة هؤلاء الأبطال الذين هبّوا كطوفانٍ هادرٍ دفاعًا عن الأقصى.

عدتُ لا كطبيبٍ فقط، بل كشاهدٍ على عزيمة رجالٍ يقفون شامخين مثل الجبال في وجه مستعمرٍ غاشمٍ متعطشٍ للدماء، وعلى أطفالٍ يحلمون بالحرية حتى من بين الأنقاض، و أرضٍ لا تنكسر مهما أحرقوها، تنبعث من رمادها كطائر العنقاء، لتغدو رمزًا للصمود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى