الجمعة ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عبد الرزاق مربح

غصة لا تختفي

في صيف لا يُذكر منه سوى الغبار والحر، كان معمر بن الحاج الطيب قد غادر مضارب أهله نحو مضارب أصهاره، في مشهد بدا له، رغم بساطته، وكأنه عبور نحو الهاوية. امتطى فرسه وحمل بندقيته "فوشي"، لا لأنه يتوقع الخطر، بل لأنه كان قد أدرك، منذ زمن بعيد، أن العالم لا يمنح الأمان لمن يشبهه.

عند الوصول، قابله صهره – لا يهم اسمه، فجميع الوجوه كانت تتماهى – وأخبره، كما يُلقى حكم قضائي لا يُستأنف، أن زوجته ستتزوج القائد، وأنه مدعو لحضور الزفاف. كان ذلك كمن يقول له: لقد تم استبدالك، لا كشخص، بل كحق.

انفجر الزمن داخل رأس معمر. لم يكن الغضب هو الذي حرّك إصبعه نحو الزناد، بل إحساس فجائي بأنه لم يعد يملك اسمه. أطلق النار. سقط الصهر. وبدأ معمر الركض، لا فرارًا بل انسلاخًا بطيئًا من كل ما تبقى له من صلة تربطه بهؤلاء البشر الخانعين لفرنسا.

عند وصوله، نظر إليه أبوه، الحاج الطيب، وسأله: "أفعلتها؟". لم تكن الإجابة مهمة. المهم أن العجلة بدأت تدور. كانت آلة (العدالة) الفرنسية قد استيقظت، لا لأنها تريد الحقيقة، بل لأنها جائعة. وهكذا، وبلا مقدمة، تم القبض عليه، وبدأت حلقات العذاب كما لو أن كل ما حدث مجرد ذريعة لتفعيل نظام قديم بارد، لا يستهدف الجريمة بل الكائن.

لم يتكلم معمر. ظل صامتًا كجدار مهجور، حتى حين أرسل له والده مسبحته كرمز للرضوخ. عندها فقط، نطق، فلم يفتح ذلك باب الرحمة، بل زاد الجحيم جحيمًا. لُفّقت ضده أوراق، وأُلّبت النفوس، وفاحت رائحة الحسد. وكأن الجريمة ليست في القتل، بل في أنه لم ينكسر بعد والا كيف سولت له نفسه تحدي سلطة فرنسا وإرداتها⸮

ثم صدر الحكم: عشر سنوات نفي إلى كيان، الجزيرة التي لا يُذكر اسمها في الخرائط إلا كتحذير. لم يكن هذا سجنًا، بل نفيًا عن التاريخ، عن اللغة، عن إمكانية أن تكون شيئًا. هناك، نُقِل معمر في قافلة من المنفيين عبر المحيط. لا أحد يعرف متى انطلقوا، ولا متى وصلوا. كأن الزمان نفسه قد اختار نفيهم معه.

في كيان، لم يكن هناك ليل أو نهار، بل ظلال دائمة، وبشر لا يهمهم إن كانوا أحياء. كان السجن عبارة عن نَفَس طويل للرطوبة والعفن. ومعمر؟ كان كائنًا ذا روح تتوق للفراغ – لا فراغ الزنازين، بل فراغ الذهن الذي يسبق الحرية.

لم يكن أحد يذكره هناك، سوى رجل واحد. صدفة أعادت إليه صورة قديمة: المسؤول عن السجناء كان هو نفسه ذاك الفرنسي الذي ضيّفه معمر ذات يوم في عمق الصحراء، عندما كان مكبَّلًا ومهانًا. قال له معمر حينها: "نحن لا نكبل الضيوف" كم كانت تلك الكلمات نبيلة بشكل غير قابل للتكرار.

تم تعيينه سائسًا للخيول. راح يروّض حصانًا استعصى على الجميع، فنجح ، ولما أنقذ أبناء الحاكم من حريق، تم تخفيض محكوميته.

لكن شيئًا لم يتغيّر في داخله. بقي غريبًا، لا عن المكان فقط، بل عن المجتمع البشري كله. لم يكن يشعر بالانتماء، لا إلى الفرنسيين، ولا إلى السجناء. لم يكن وحده في الزنزانة، لكنه كان وحيدًا في الوجود. كان يعيش كأنه سؤال مفتوح، يكرهه الجميع لأنه لا يقبل أن يكون تابعا لسلطة أي بشر.

في الليل، كان يسمع البحر يضرب الصخور، فيشعر أن البحر يفهمه أكثر من الناس. لم يكن الحنين يربطه بالوطن، بل إحساس داخلي بأن الحياة هناك، وإن كانت قاسية، كانت تشبهه.

قال صديقه بن عياش:

حكمولي عامين، نا منهم حاير

وهو عشر سنين، واش يديرو بيه؟

لكن السؤال لم يكن عن عدد السنوات، بل عن كيف يمكن لروح حرة أن تعيش في قفص دون أن تتهشم.

لم يَعد معمر إلى الوطن فقط، بل عاد وقد صار نفسه. أكثر عزلة، أقل تعلقًا، لكنه أكثر معرفة بحقيقة الحياة: أن الإنسان إذا أراد أن يظل حرًّا، فعليه أن يتقبل الغربة… حتى بين أهله.

ففي النهاية، الحرية ليست بابًا يُفتح، بل غصة لا تختفي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى