الاثنين ١١ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم عبد الرزاق مربح

قصة محمود

ما هذه الجلبة التي كسرت سكينة القرية؟ أيُّ وافدٍ غريبٍ حلَّ بيننا، وأيُّ ريحٍ هبّت لتقلب رتابة الأيام؟ ومن تلك الصهباء، بملامحها التي تشعّ نورًا، ترتدي تنورة مطرزة بألوان الفرح، تمشي كأنها نسمة فجرٍ تلامس خدَّ الأرض برفق؟

عند باب المدرسة تجمع حشد من سكان القرية، تعالت الهمسات، تداخلت النظرات بين الفضول والترحاب.

"!أهلًا وسهلين، وثلاث مراحب بالمعلمة الجديدة"

هتف بعضهم بحماسة، بينما ظل آخرون صامتين، يراقبون المشهد بعيون تلمع بين الدهشة والشك.
ثم ذلك الرجل الذي يرافقها… يا للعجب! أهو زوجها؟ لا تقولوا لي إنهما قد استوطنا قريتنا، وإن هؤلاء الصبية هم أبناؤهما! يا للخذلان! شيء ما تهدّم في أعماق محمود حارس المدرسة، كأن أمانيه التي ظل يحيكها سرًا تقطعت خيوطها فجأة، وتلاشت كما يتلاشى الضباب عند أول خيوط الشمس.

لم تمضِ أيام حتى بدأ زوج المعلمة يتنقل بين البيوت، يسأل بصوت خافت عمّن يشتري حليّ زوجه. كان في نبرته انكسار، كأنّه يخجل من كلماته قبل أن ينطقها. لم يكن في الأمر سر، فقد أرهقهما الفقر وأطبق الضيق على أيامهما، حتى ضاقت عليهما الأرض بما رحبت.

دلوه على محمود، فقد سمعوا جميعًا أنه يجمع المال ليومه الموعود، يوم يجد فيه رفيقة عمره. طرق الرجل بابه عند الغروب، حيث الظلال تطول والطرقات تهدأ. فتح الحارس الباب، التقت أعينهما للحظة، ثم دعاه إلى الداخل.

جلسا متقابلين في صمت. وضع الزوج العلبة أمامه، فتحها بحذر، كأنّما يخشى أن يتلاشى شيء ما في الهواء. انعكس بريق الذهب في الغرفة المعتمة، لكنّه لم يلمع في أعين الرجلين.

قال الزوج بصوت واهن، أقرب للرجاء

"إنها مجوهرات زوجتي… ظروفنا قاسية، وأخبرني أهل القرية أنك قد تكون مهتمً بشرائها."

لم يرد محمود على الفور. أطرق برهة، تأمل المجوهرات كمن يقرأ في صفحات منسية، ثم مدّ يده وأغلق العلبة، ودسها في جيبه كمن يخفي سرًّا. دفع ثمنها بصمت، وقام، متجهًا إلى البيت، وفي صدره شعور غريب… مزيج من الانتصار والخسارة.

دخل على أمه، يجرّ خطواته ببطء، وكأنه يحمل عبئًا أثقل من العلبة التي في يده. ألقى السلام بصوت خافت، ثم جلس قبالتها، وضع العلبة أمامها بيدين مرتعشتين، لم يجرؤ على النظر إلى عينيها مباشرة.

قال، محاولًا أن يبدو واثقًا
"ها هي ذي، زينة عروسي..."

لكن صوته خانه، خرج مهزوزًا، كأن الكلمات تتعثر بين شفتيه. انتظر أن تبتهج، أن تبارك له، لكنه لم يسمع سوى الصمت. رفع بصره بحذر، ليجدها تحدّق في العلبة بلا تعبير، وكأنها ترى شيئًا آخر، شيئًا لا يستطيع هو رؤيته.

ثم، بهدوء، سالت دمعة على خدّها المجعد. لم تمسحها، لم تقل شيئًا، أخذت نفسًا عميقًا، وقالت بصوت مخنوق:

يا بني… كيف تجرؤ على أن تشتري بريق امرأةٍ منطفئًا؟ كيف تقوى على أن تمحو أثر فرحها؟
ما كانت لتبيع زينتها إلا وقد ضاقت بها الدنيا! ردّ إليها مجوهراتها، وأعطها من مالك ما يعينها، يكن لك ذلك زادًا في دنياك وآخرتك.

خفض رأسه، شعر بحرارة الخجل تزحف إلى وجهه. كيف لم يرَ الأمر بهذه الصورة؟ كيف غاب عنه أن هذه الزينة التي بين يديه كانت يومًا على جسد امرأة حملتها بحب، وزيّنت بها لحظات سعيدة؟ شعر بمرارة في حلقه، وكأن طعم الهزيمة استقر هناك.

لم يجادل، لم ينبس ببنت شفة، حمل العلبة بين يديه، وخرج بخطوات بطيئة، كأنه يعود من معركة لم يخضها أصلًا.

وعندما دخل على زوج المعلمة، كان الرجل يجلس في الفناء، يحدّق في الأفق، كمن ينتظر شيئًا لا يدري إن كان سيأتي. اقترب محمود، توقف أمامه، مدّ يده بالعلبة دون أن يقول شيئًا.

رفع الرجل بصره، التقت نظراتهما للحظة… ثم نظر إلى العلبة في يد محمود، وكأنّه لا يصدق. أخذها ببطء، فتحها بحذر، وما إن وقعت عيناه على المجوهرات حتى انحنى رأسه، كأنّ ثقلًا جثم على كتفيه.

لم يستطع النطق، لكن الدموع التي تألقت في عينيه كانت كافية. مدّ يده وربت على كتف محمود، وأطلقها مدوية من فمه: الله يرحم البطن التي ولدتك.

في الأيام التالية، بدأت أشياء غريبة تحدث. المعلمة أصبحت تبتسم أكثر، زوجها بات يحيي محمود بإيماءة ودية، والأطفال في المدرسة أصبحوا أكثر حماسًا لدروسهم. وكأن شيئًا غير مرئي تغيّر في الهواء، وكأن القرية كلها شعرت بشيء جديد... شيء دافئ، يشبه الرحمة، يشبه ما يجعل الإنسان إنسانًا.


مشاركة منتدى

  • الانطباع النفسي والوجداني
    في قصة محمود

    تقوم قصة عبد الرزاق مربّح على بناء وجداني عميق، يلتقط لحظة نفسية متوتّرة في حياة بطلها محمود، الحارس البسيط الذي يواجه صراعًا داخليًا بين الرغبة الشخصية والوازع الأخلاقي. منذ المشهد الأول يتجسّد الانفعال النفسي عبر انكسار أحلامه الصامتة أمام ظهور "المعلمة الجديدة" مع زوجها، فينكشف لنا قلبٌ مثقل بالخيبة، لكنه يظلّ يبحث عن عزاءٍ في فكرة الزواج والادخار.

    المحور النفسي الأبرز يتجلّى عند لحظة شراء المجوهرات: انشداد داخلي بين شعور بالظفر بما قد يقرّبه من حلمه، وشعور دفين بالخسارة، وكأنّ الانتصار نفسه يحمل بذرة انكسار. وهنا يتصاعد البعد الوجداني عندما تتدخل الأم، فتضع أمامه مرآة القيم، وتحوله من أنانية الرغبة إلى رحابة العطاء. تلك المواجهة تحفر تحوّلًا نفسيًا حادًّا يقود محمود من دائرة الذات الضيّقة إلى فضاء الرحمة الإنسانية.

    القصة بهذا التتابع لا تكتفي برسم حالة نفسية فردية، بل تُشرك القارئ في التجربة الوجدانية؛ فيحسّ بثقل الخجل الذي يعتصر محمود، وبمرارة الدموع التي تفضح هشاشة الزوج، وبالدفء الذي يفيض لاحقًا في فضاء القرية. إنّها حكاية عن انكسار داخلي يُفضي إلى تطهير وجداني، حيث تتحوّل الهزيمة الشخصية إلى انتصار أخلاقي يلامس الجماعة كلها.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى