فرصة قدر...
كثيرا ما أراه يتحين الفرصة كي يخاطبني، لكني ما تركت له أي فرصة، فانا إمرأة توفى زوجها وعكفت على تربية طفل مصاب بعوق نفسي أقعده عن الحراك، هذا ما قاله الطبيب بعد ان كشف عن حالته بعد وفاة والده، الوقت هو يا ست ميس الكفيل بأن يعود الى حالته الطبيعية، أشهر أو أعوام الأمر مناط برحمة الله و به و بك، تركت الامر الى الاقدار و خالق الاقدار، غير أني حصلت على وظيفة كانت كل سند لي في هذه الحياة خاصة أن زوجي كما يقول المثل المصري مقطوع من شجرة... سخرية أليس كذلك فكم من أغصان أو جذوع تمتلك هذه الشجرة كي يقطعها القدر ثم يرمي بها في أرجاء التي لا علم لي بأمكنتها... رجل متقد الوجه معتد بهندامه ربما جاوز الخمسين كما بدا لي غير أني لم أكترث له.. لكن وفي مرة إضطررت أن اطلب منه ان يبتعد كي أركب الحافلة وقد تسمر أمامي عند بابها حين تفاجأ أني اقف خلفه.. إبتعد مسرعا حتى أنه لم يركب الحافلة لإرتباكه، في الواقع إبتسمت بيني وبين نفسي، لا أدري في تلك اللحظة شعرت أن هناك ضلفة من باب نفسي المغلقة قد أخذت تنفتح ونال منها بإرتباكه... يومي عادي جدا بين ثلة من صحب لا أخوض معهم أغلب الحديث إلا في ما يخص العمل، حاولت بعض الزميلات جرِّ الى أحاديث جانبية إجتماعية و غيرها زيادة في الاختلاط والمشاركة الاجتماعية لكن هناك ماهو أهم في حياتي ولدي الصغير كمال.. فحين أعود أدخل الى عالمه المتوقف عن الحركة إلا في خياله فنتحدث عن طموحات صبي صغير عمرة لا يتجاوز الخمس سنوات و هي تلك الفترة التي توفى فيها والده بعد إنجابي له نتيجة حادث لم يكن في حسباننا، لكنها يد القدر التي تخطف من نحب وتلقي باللوم علينا شئنا أم أبينا، زمن نعيشه محدود بأيام اسابيع وأشهر وسنين نعدها بتضارب الاسودان، كان كمال زهرة حياتي عمري الذي أريد له أن يتسلق من خلاله أحلامه التي طالما حدثني عنها.. صبي يمتلك من الذكاء الحاد حتى أني اخاف عليه من الجيران لكني أجدني منصاعة لطلبه المشاركة معهم، كثيرا ما يدعونه في مناسبات أعياد ميلادهم... يا الله كم يضيء وجهه حين يشاركهم الفرح بتلك الاعياد أعرف ذلك عندما يعود ليخبرني بكل صغيرة وكبيرة عما شاهده وسمعه وعن الهدايا التي يتلقوها في أعياد ميلادهم... وفي مرة وأثناء عودته سألني أليس لي عيد ميلاد يا امي؟؟ تفاجأت وأنا أغير له ثيابه فلم أجبه لحظتها فكرر السؤال بعفوية.. و انتظر الرد، لكني تأخرت في الإجابة فلم يعيد سؤاله علي.. وبعد ان أنتهيت من تهيئته و وضعته في سريره جلست على حافته وقلت له.. حبيبي كمال لا ادري كيف اقول لك إن حالتنا لا تسمح بإقامة عيد ميلاد، أولا كما ترى فنحن نسكن في قبو العمارة وبيتنا بالكاد غرفة بحمام .. فليس لنا مطبخ بذلك المعنى، حالنا لا يمكن لأحد أن يراه فيكون غصة علينا.. نعم لا أنكر أن الجيران يشاركوننا افراحهم ومما يجودون به لكن صدقني لا استطيع ان اقيم حفلا لعيد ميلادك في هذه الغرفة.. لكني أعدك سيكون ذلك عندما يكون لنا مكان اوسع يسمح بذلك أعدك بذلك، لم يعلق غير انه ابتسم وقبلني وقال تصبحين على خير يا أمي، وطويت سؤاله كأنه وخز إبر في عقلي ونفسي وصرت أسير بغير وعي، شاردة الفكر حتى أثناء عملي، لا حظوا زملائي شرود نفسي وذهني فعكف بعضهم على السؤال عن سبب ذلك فأوعزت أن إبني مريض وأكثر عقلي منصب عليه لأني تركته وحيدا.. فما أن وصل خبر ذلك حتى أوعز رئيس القسم بأن أخذ إجازة غير مقطوعة الاجر وطلب من الحسابات رفدي بمبلغ إعانة لظروف طارئة.. كان ذلك النهار سعيدا بالنسبة لي، تغير ميول اليأس الى بهجة شكرت الزملاء، لم أحسبهم بهذه الطيبة، خرجت مسرعة من فوري متجهة الى بيتي.. وضحكت حينما ذكرت نفسي كلمة بيتي.. يا للكارثة حتى نفسي تستهزأ بما اردد.. نظرت دون قصد فكان هناك واقفا عندما نزلت من الحافلة رأيته وتذكرت موقفه معي حين ركبت الحافلة في ذلك الصباح فتبسمت و انا أتطلع إليه، وسرعان ما تفاجأت حين رأيته يتحرك في اتجاهي، كادت أقدامي ان تتعثر الواحدة بالأخرى إلا أني تلافيت ذلك وتسمرت مكاني وإذا به يقول... عمت مساء سيدتي، غالبني اليأس وكدت أبتعد لولا أنك ابتسمت فحسبت ذلك أنك لا تمانعين في الاقتراب منك و الحديث معك ولو لدقائق، لا أريد أكثر من فرصة بدقائق وثواني فإن رغبتي بإتمام الحديث شاركتني في السير حتى مكان أقامتك ماهو رأيت؟؟
استغربت قوله!!! حين قال حيث مكان إقامتك هذا يعني يعرفه، في الواقع لم يكن لي أي رأي فعندما أقترب مني و نظرت الى هيأته وشكله تحركت مشاعر الأنثى بداخلي، رجل معتد بنفسه تبدو عليه الحال الميسورة من خلال ما يرتدييه سواء من الثياب او العطر الذي حين إستنشقت عبيره كأني في عالم الفراش الطائر الى بستان لا يعرف الزحام و لا أصوات أبواق السيارات أو عوادمها، دون شعور وجدتني أسايره والابتسامة يرافقها تغير ألوان وجهي الذي كان باديا علي كأني أرى نفسي في عينيه، سرنا فعلا لعدة دقائق لكنها مرت عليّ كأنها أيام حيث انهكت نفسي بالكثير من التساؤلات في داخلي حتى كمال كان أول الذين يسأل عن سبب ما يراني فيه فحالي قد أنقلب رأسا على عقب... دفئ صوته الهادئ رخم شخص متزن عقلا ومركزا... أعادني من حيث ألتقينا وهو يقول عمت مساء سيدة ميس، دخلت الى غرفتي في قبو العمارة وأنا مشتتة حتى أني اهملت كمال وهو جالس على سريره يرحب بي، بالكاد أخرجني عن دائرة المتاهة التي وضعني فيها رؤوف.. نعم هكذا قال لي ان إسمه رؤوف عبد العظيم، ما أثار إستغرابي!!! وهو كيف علم بأسم؟ أخرجني كمال من عالم التساؤلات فذهبت إليه و أنا احضنه كي أعوضه عما بدر مني من إهمال فوجده يغوص في باطن روحي خاصة بعد أن أخبرته أني قد مُنِحت إجازة لأيام سنقضيها معا، سنخرج الى المتنزه العالم هناك حيث العالم الذي يمرح و يضحك، سنشاركه السعادة ولو للحظات، كان كمال سعيدا جدا فطلب مني أن أشتري له بعض الاشياء كي تصبح له مقتنيات خاصة كما رآها عن أولاد الجيران... وكان له ما طلب، غير أن صورة وصوت رؤوف لم تفارق نفسي، كان حاضرا طوال الليلة الأولى و حتى الثانية رغم أني و كمال خرجنا نتنفس العالم الذي نفتقده... الفرح هو الكلمة التي فارقتنا منذ رحيل والد كمال، مرت أيام الإجازة بعجالة غير أن نفسية ولدي قد تغيرت، شعرت بأن حالته تحسنت مما أضفى على أن جعل حالتي تتحسن معه.. لكني لا زلت أرى رؤوفوهو يتحين فرصة أخرى للحديث معي، في هذه المرة تركت له فسحة من مكان وزمان الذي راح يدون بدفتر ذكرياته اليومية ما كان حالنا وما آل إليه بعد أن ارتبطت واتخذته زوجا لي وأب الى كمال الذي تحسنت حالته النفسية وراح يعود الى طبيعته بعد أن إنتقلنا الى منزل واسع كبير حيث أقمنا حفل عيد ميلاد لكمال ودعونا جميع ابناء الجيران الذين شاركونا ايام عوزنا ومحنتنا، ودعوت الزملاء الذي وقفوا معي موقفا لا يمكن إلا أن احفظه معروفا لهم... أما رؤوف فقد كان رجلا كريما معطاءا و وجدته عارفا بظروفي وما أمر به لكنه أختارني كي أشاركه حياته وإبنته رجاء خاصة أنا الأثنان قد فقدنا أعز ما نملك ونحب منذ سنين خلت على يد القدر.
