الأحد ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٣
بقلم آدم عربي

في فلسفة اللغة!

مِنْ أَجْلِ البقْاءِ على قَيدِ الْحَيَاةِ، يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَتَوَافَقُوا مَعَ حَاجَاتِهِمْ وَضَرُورَاتِهِمْ الْأَسَاسِيَّةِ، سَوَاءً عَقْلِيًّا أَوْ عَمَلِيًّا.

هَذِهِ الْحَاجَاتُ وَالضَّرُورَاتُ هِيَ الَّتِي تُعَلِّمُهُمْ وَتَرْشِدُهُمْ دَائِمًا؛ لِأَنَّهَا تُحَفِّزُهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ وَالْعَمَلِ، وَبِهَذَا يَقُومُونَ بِتَغْيِيرِ بِيئَتِهِمْ الطَّبِيعِيَّةِ لِتُنَاسِبَ أَهْدَافَهُمْ وَغَايَاتَهُمْ. الْحَاجَةُ هِيَ الدَّافِعُ الْأَسَاسِيُّ لِتَنْشِيطِ الْعَقْلِ وَالْإِبْدَاعِ، وَمِنْهَا تَنْبَثِقُ الْابْتِكَارَاتُ وَالْاخْتِرَاعَاتُ؛ وَالْحَاجَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ لَا تَكُونُ ثَابِتَةً، بَلْ تَتَبَدَّلُ وَتَتَنَوَّعُ حَسَبَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ؛ وَالْحَاجَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ تُمَثِلُ شَجَرَةً، لَهَا جُذُورٌ وَأَغْصَانٌ؛ وَبَعْضُ الْحَاجَاتِ تَحْتَلُّ مَكَانَةً عَالِيَةً، أَوْ تَسْتَحِقُّ الْأَوْلُوِيَّةَ، كَمَا الْجَذْرِ لِلشَّجَرَةِ.

وَاللُّغَةُ، نُشْوءًا وَتَطَوُّرًا، لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، قَاعِدَة (الْحَاجَةُ أُمُّ الْاخْتِرَاعِ)؛ فَاللُّغَةُ هِيَ ابْتِكَارٌ ابْتَكَرَهُ الْإِنْسَانُ (أَيُّ الْمَجْمُوعَةُ مِنَ الْبَشَرِ) إِذْ زَادَتْ وَاشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا.

هَلْ الْوَعِي هُوَ الَّذِي اخْتَرَعَ اللُّغَةَ؟ مَنْ يَدَّعُونَ الْمِثَالِيَّةَ وَيَرُونَ أَنَّ الْوَعِي هُوَ الْحَاكِمُ الْأُوتُوقْرَاطِيُّ الْأَعْلَى لِلْعَالَمِ، يَقُولُونَ بِسُهُولَةٍ أَنَّ اللُّغَةَ هِيَ مِنْ صُنْعِ الْوَعِي، لَكِنْ هَذِهِ الْإِجَابَةُ الْمِثَالِيَّةُ تَطْرُحُ سُؤَالًا آخَرَ، وَهُوَ: هَلْ كَانَ لِلْوَعِي (الْإِنْسَانِيِّ) وُجُودٌ قَبْلَ أَنْ يَخْتَرِعَ اللُّغَةَ؟ الْجَوَابُ هُوَ لَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَعِي وُجُودٌ بِدُونِ لُغَةٍ.

إِنَّهُ سُؤَالٌ فَلْسَفِيٌّ مُهِمٌّ عَنْ عَلَاقَةِ الْوَعْيِ وَاللُّغَةِ. هَلْ الْوَعْيُ هُوَ مَا أَنْتَجَ اللُّغَةَ، أَمِ اللُّغَةُ هِيَ مَا أَنْتَجَتْ الْوَعْيَ؟ وَإِنِّي مِنَ الدَّاعِمِينَ لِرَأْيِ الْفَيْلِسُوفِ كَارْلُ مَارْكْسَ فِي أَنَّ اللُّغَةَ هِيَ مُنْتَجٌ لِلْعَمَلِ الْاجْتِمَاعِيِّ، وَأَنَّ الْوَعْيَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَوْجَدَ بِدُونِ لُغَةٍ.

مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ بَعْضَ الْكُتَّابِ يَشْتَكُونَ مِنْ عَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى نَقْلِ (الْفِكْرَةِ) الَّتِي تَدُورُ فِي دماغهم إِلَى الْوَرَقِ، وَلَكِنْ هَلْ هَذِهِ الْفِكْرَةُ حَقًّا مَوْجُودَةٌ فِي دماغهم؟ الْجَوَابُ هُوَ لَا. فَالْفِكْرَةُ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْبِرَ عَنْهَا بِأَيِّ لُغَةٍ، سَوَاء كَانَتْ فُصْحَى أَوْ عَامِيَّةً، هِيَ فِكْرَةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي عَقْلِكَ. فَالْإِنْسَانُ يُفَكِرُ بِالْكَلِمَاتِ، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ، بِوَاسِطَةِ الْكَلِمَاتِ. وَالْفِكْرَةُ لَا تَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ إِلَّا وَهِيَ مَلْبُوسَةٌ بِالْكَلِمَاتِ. فَاللُّغَةُ هِيَ الْإِنَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ الْفِكْرَ. فَمَنْ كَانَ إِنَاءُهُ اللُّغَوِيُّ ضَيِّقًا، أَيْ كَانَتْ لُغَتُهُ ضَعِيفَةً كَانَ فِكْرُهُ ضَيِّقًا وَضَعِيفًا أَيْضًا. فَأَوْسِعْ إِنَاءَكَ اللُّغَوِيَّ وَأَغْنِ ثَرْوَتَكَ اللَّفْظِيَّةَ لِيَتَسِعَ فِكْرُكَ وَيَزْدَادُ غِنَى. وَلَكِنَّ الثَّرْوَةََ اللَّفْظِيَّة مِثْلُ الثَّرْوَةِ الْمَادِيَّةِ، لَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ صَاحِبُهَا كَيْفَ يَسْتَثْمِرُهَا.

اللُّغَةُ الَّتِي مِنْ دُونِهَا لَا وُجُودَ لِلْوَعْيِ هِيَ نَتِيجَةُ الْعَمَلِ الْاجْتِمَاعِيِّ، وَلَيْسَ الْفَرْدِيِّ (الشَّخْصِيِّ). فَالْإِنْسَانُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا كَعُضْوٍ فِي مَجْمُوعَةٍ. إِنَّهُ كَائِنٌ اجْتِمَاعِيٌّ (وَمُجْتَمَعٌ) مِنْذُ بِدَايَتِهِ.

بَدَأَتِ الجَمَاعَةُ البَشَرِيَّةُ البَدَائِيَّةُ العَمَلَ فِي التَأْثِيرِ عَلَى بِيئَتِهَا الطَّبِيعِيَّةِ لِتَلْبِيَةِ احْتِيَاجَاتِهَا الأَسَاسِيَّةِ (الطَّعَامِ وَالمَلَابِسِ وَالمَأْوَى وَالأَمْنِ). وَفِي البِدَايَةِ، اسْتَخْدَمَتْ أَدَوَاتٍ طَبِيعِيَّةً، كَالْحَجَرِ وَالْعَصَا وَعِظَامِ الْحَيَوَانِ؛ ثُمَّ تَطَوَّرَ هَذَا الكَائِنُ الاجْتِمَاعِيُّ، أَيّ الإِنْسَان، إِلَى أَنْ أَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى صُنْعِ أَدَوَاتٍ لِلْعَمَلِ.

بَدَأَ الْإِنْسَانُ فِي تَصْنِيعِ أَدَوَاتِ الْعَمَلِ وَتَغْيِيرِ الْبِيئَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا، وَبِنَاءِ بِيئَةٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ مَا تُسَمَّى بِالطَّبِيعَةِ الصَّنَاعِيَّةِ، وَمِنْ خِلَالِ ذَلِكَ، تَطَوَّرَتْ قُدْرَاتُهُ الْحَسِيَّةُ وَتَنَامَتْ وَزَادَتْ مَعْلُومَاتُهُ الَّتِي يَحْصُلُ عَلَيْهَا مِنْ حَوَاسِّهِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمُتَنَوِّعَةِ وَتَعَاظَمَتْ.وقد نَمَّتِ الطَّبِيعَةُ فِي الإِنْسَانِ قُوَىً وَأَعْضَاءً وَخَوَاصَ تُمَكِّنُهُ مِنْ مُمَارَسَةِ نَشَاطَيْنِ مُتَرَابِطَيْنِ: العَمَل وَالتَّفْكِير، وَهَذِهِ الْمِيزَاتُ الطَّبِيعِيَّةُ اتَّضَحَتْ، بِشَكْلٍ خَاصٍ، فِي يَدِ الإِنْسَانِ، وَانْتِصَابِ قَامَتِهِ، وَفِي دِمَاغِهِ (مَرْكَزِ التَّفْكِيرِ) .بِاسْتِخْدَامِ الإِنْسَانِ يَدَهُ (الْبَشَرِيَّةِ الْأُولَى) أَمْسَكَ الإِنْسَانُ (الْمُسْتَقِيمُ الْقَامَةُ بِشَكْلٍ أَوَّلِي) بِأَدَاةِ الْعَمَلِ (الْأُولِيَّةِ)، فَبَدَأَ يُحَدِّثُ تَغْيِيرَات فِي بِيئَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ، مُنْتَجًا بِيئَةً اصْطِنَاعِيَّةً، أَوْ طَبِيعَةً جَدِيدَةً .وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ (الطَّبِيعِيَّةُ) عَلَى الْعَمَلِ ارْتَبَطَتْ، فِي الإِنْسَانِ، بِقُدْرَةٍ (طَبِيعِيَّةٍ) عَلَى التَّفْكِيرِ؛ فَتَأَثَّرَتَا بِبَعْضِهِمَا وَتَبَادَلَتَا التَّأْثِيرَ.لَمْ تَخْلُقِ الطَّبِيعَةُ وَعْيًا؛ بَلْ خَلَقَتْ مَادَّةً قَادِرَةً عَلَى التَّفْكِيرِ ، وَهِيَ الدِّمَاغُ الْبَشَرِيُّ . وَهَذِهِ الْمَادَّةُ الْفَرِيدَةُ (الدِّمَاغُ الْبَشَرِيُّ) تَتَفَاعَلُ مَعَ الطَّبِيعَةِ، مِنْ خِلَالِ الْحَوَاس الْخَمْسِ، فَتُوَلِّدُ وَتُطَوِّرُ الْمَعْرِفَةُ الْحِسِّيَّةُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهَا تَتَولِدُ وَتَتَطَوَّرُ الْمَعْرِفَةُ الْعَقْلِيَّةُ (الْمَنْطِقِيَّةُ).

فِي الْعَمَلِ وَبِهِ، زَادَتِ الْحَاجَةُ لِدَى أَفْرَادِ الْجَمَاعَةِ الْبَشَرِيَّةِ البِدائية إِلَى وَسِيلَةِ اتِّصَالٍ، أَي لُغَة. وَاللُّغَةُ (الْمُنْطُوقَةُ أَوَّلًا) نَشَأَتْ مِنَ اللُّغَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ (الْأُمِّ) الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى الصَّوْتِ (بِاخْتِلَافِهِ وَتَنَوُّعِهِ). وَالصَّوْتُ (عَلَى شَكْلِ صَرْخَةٍ تَنْبِيهٍ أَوْ اسْتِغَاثَةٍ) كَانَ يُسْتَخْدَمُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْأَخْطَارِ (الَّتِي كَانَ أَهَمُّهَا الْحَيَوَانَات الْمُفْتِرِسَةُ) الَّتِي تُهَدِّدُ أَمْنَ الْجَمَاعَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْبدَائيةِ. مِنَ التَّنَوُّعِ الصَّوْتِيِّ الْإِنْسَانِيِّ، تَطَوَّرَتِ الْكَلِمَاتُ الْأُوَلَى. وَكَانَتْ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ (الَّتِي تعني الْجَمَاعَة الْبَشَرِيَّة الْبدَائية) هِيَ الْجُزْءُ الْأَكْبَرُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ (الْمَنْطُوقَةِ)، بِتَوَافُقِهِمْ وَتَوَاضُعِهِمْ، أوجَدوا (وَتَزَايَدَتْ وَنَمَتْ) مَجْمُوعَةٌ (مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ)، وَهِيَ أَسْمَاءٌ سُمِّيَتْ بِهَا أَشْيَاءٌ مِثْلُ رَجُلٍ، وَامْرَأَةٍ، وَطِفْلٍ، وَنَارٍ، وَكَلْبٍ، وَنَهْرٍ، وَشَجَرَةٍ، وَقَمْحٍ. فَالْعَمَلُ الَّذِي أَنْشَأَ الْمُجْتَمَعَ الْإِنْسَانِيَّ، أَحْدَثَ وَزَادَ الْحَاجَةَ إِلَى الْاتِّصَالِ اللُّغَوِيِّ،الْاتِّصَال بِكَلِمَاتٍ وَأَسْمَاءٍ بِالنُّطْقِ، قَبْلَ اخْتِرَاعِ الْكِتَابَةِ وَالْحُرُوفِ وَالْأَبْجَدِيَّةِ.

اللُّغَةُ أَوِ الْكَلِمَاتُ هِيَ الْأَسَاسُ الَّذِي يُبنَى عَلَيْهِ وَعِيُّ الْإِنْسَانِ وَيَتَطَوَّرُ مَعَهُ مُنْذُ طُفُولَتِهِ؛ فَاللُّغَةُ هِيَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي نَسْتَخْدِمُهَا لِتَبَادُلِ الْأَفْكَارِ؛ وَعِنْدَمَا تُفكِرُ بِدُونِ كَلَامٍ، فَأَنْتَ تُفكِرُ بِلُغَةٍ؛ وَعِنْدَمَا تُحَاوِرُ نَفْسَكَ، فَأَنْتَ تَكْسُو أَفْكَارَكَ بِلُغَةٍ. وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نُوَضِّحَ مَا نَقْصُدُ بِقَوْلِنَا (نَتَبَادَلُ الْأَفْكَارَ بِوَاسِطَةِ اللُّغَةِ)؛ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى مُبْهِمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا لِأَهْدَافِ وَمَنْظُورَاتِ (الْمِثَالِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ). مُنَظِّرُِو التَّفْسِيرِ المَثَالِيّ لِلُّغَةِ يَقُولُونَ إِنَّ الْفِكْرَةَ الْمُجَرَّدَةَ الْعَارِيَةَ مِنَ الْكَلِمَاتِ (أَيْ مِنَ الْمَادَةِ) تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ؛ لَكِنَّهَا تُنْقَلُ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَى إِنْسَانٍ آخَرَ بِوَاسِطَةِ مَا يُشْبِهُ عَرَبَةً، وَهِيَ الْكَلِمَةُ؛ فَعَلَى عَرَبَاتِ الْكَلِمَاتِ تُنْقَلُ الْفِكْرَةُ. لاَ، هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَالْكَلِمَةُ (أَيّ كَلِمَةٍ) هِيَ مَسَاحَةٌ وَحَيِّزٌ (مَمْلُوءٌ) بِفِكْرَةٍ؛ وَلَا يُمْكِنُ أَبَدًا الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّاغِلِ وَالْمَشْغُولِ؛ وَأَمَّا الْفِكْرَةُ الْمُجَرَّدَةُ الْعَارِيَةُ الْخَالِيَةُ مِنْ ثَوْبِهَا اللُّغَوِيِّ فَلَا تُوجَدُ أَبَدًا فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ؛ فَالْفِكْرَةُ إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ مُرْتَدِيَةً ثَوْبَها (الْكَلِمَات) وَإِمَّا أَنْ تَخْتَفِي. فِي الفِيزِيَاءِ يُمْكِنُنَا اسْتِخْدَامُ مَفْهُومِ الْقُوَّةِ (Force) لِشَرْحِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْكَلِمَةِ وَالْفِكْرَةِ؛ فَعِنْدَمَا يَتَفَاعَلُ جِسْمَانِ (مَثَلًا) ليس المقصود تفاعل كيميائي ،و يَتَبَادَلَانِ جِسِيمَات (لَا كُتْلَة لَهَا)، تَنْبَعِثُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَتَضْرِبُ الْآخَرَ، نَاقِلَةً التَّأْثِيرَ، أَوِ الْقُوَّةَ، بَيْنَهُمَا؛ وَهَذِهِ الْجِسِيمَاتُ تُعْرَفُ بِـ(الْجِسِيمَاتِ الْحَامِلَةِ (النَّاقِلَةِ) لِلْقُوَّةِ (لِلتَّأْثِيرِ)). وَبِالْمِثْلِ، تَنْطَلِقُ الْكَلِمَةُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى آخَرٍ، مُحْمِلَةً بِـالْفِكْرَةِ (أَيْ الْقُوَّةِ، أَوِ التَّأْثِيرِ، فِي مثَالِنَا الْفِيزِيَائِيّ)؛ وَلَا يُمْكِنُنَا فَصْل الْجُسيمِ (الْحَامِلِ) عَنِ التَّأْثِيرِ (الْمَحْمُولِ)، كَمَا لَا يُمْكِنُنَا فَصْل الْكَلِمَةِ (الْحَامِلَةِ) عَنِ الْفِكْرَةِ (الْمَحْمُولَةِ).

مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا أَنْ نَتَّبِعَ التَّطَوُّرَ التَّارِيخِيَّ لِمَعْنَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّظَرِ فِي الْمَعَاجِمِ. فَلْنَلَاحِظْ، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، كَلِمَتَي أَنْفٍ وَرِيحٍ. كَلِمَةُ أَنْفٍ تَشِيرُ أَصْلًا إِلَى عُضْوٍ فِي الْوَجْهِ هُوَ الْأَنْفُ. وَعِنْدَمَا رَأَوْا الْإِنْسَانَ الْمُغْرُورَ يَرْفَعُ أَنَفَهُ، صَنَعُوا كَلِمَةَ (أَنَفَة) لِتَعْنِي الْكِبْرِيَاءَ وَالشَّجَاعَةَ. وَكَلِمَةُ رِيحٍ هِيَ الْهَوَاءُ عِنْدَمَا يَتَحَرَّكُ. وَكَلِمَةُ رُوحٍ تَقرُبُ مِنْ مَعْنَاهَا.

وَعِنْدَمَا رَأَوْا أَنَّ عَلَامَةَ الْمَوْتِ هِيَ عَدَمُ دُخُولِ وَخُرُوجِ هَوَاءٍ (أَوْ رِيحٍ، أَوْ رُوحٍ) مِنَ الرِّئَتَيْنِ، صَنَعُوا كَلِمَةً رَوْحٍ (أَوْ نَفْسٍ)، وَأَعْطَوْهَا مَعْنًى يُشْبِهُ مَعْنَى الرِّيحِ. بَدَأُوا بِإِنْشَاءِ لُغَتِهِمْ (الْبدَائِيَّةِ) بِكَلِمَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ، تُلَفَّظُ بِالْفَمِ. وَكَانَتْ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ (الَّتِي تهِمُّهُمْ) هِيَ أَهَمُّ جُزْءٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ (الْمنْطُوقَةِ).لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ يَصْنَعُوا أَسْمَاءً لِلْأَشْيَاءِ. فَالْمَنْطِقُ هُوَ الَّذِي يَقُودُهُمْ إِلَى التَّسْمِيَةِ.

يَجِبُ عَلَى أَفْرَادِ الْجَمَاعَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْبدَائِيَّةِ أَنْ يَتَوَاضَعُوا وَيَتَفَقُوا عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا الشَّيْءِ شَجَرَةً مَثَلًا بَعْدَ أَنْ يَبْذُلُوا جُهْدًا عَقْلِيًّا يُسَمَّى التَّجْرِيدُ. فَعَلَيْهِمْ أَوَّلًا أَنْ يَتَعَرَّفُوا عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الشَّجَرِ (بُرْتُقَالٍ وَتُفَّاحٍ وَزَيْتُونٍ…). ثُمَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُلاحَظُوا الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ صِفَات وَخصَائِص وَمُميزَاتِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ الَّتِي يَعْرِفُونَ. الْحَيَوَانُ لَا يَدْرِكُ (وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَ) هَذَا الْمُشْتَرَكَ. لِأَنَّ التَّجْرِيدَ (الْعَقْلِيَّ) هُوَ صِفَةُ الدِّمَاغِ الْبَشَرِيِّ ، أَيْ صِفَةُ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ، بِالضَّرُورَةِ، جُزْءٌ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ نَوْعِهِ،يعيشُ مَعَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَيَعْمَلُ بِالتَّعَاوُنِ مَعَ بَاقِي أَفْرَادِهَا، وَيُعَبِّرُ عَنِ الْأَشْيَاءِ (وَالْأَفْكَارِ) بِكَلِمَاتٍ (مَنْطُوقَةٍ ثُمَّ مَكْتُوبَةٍ)، أَيْ بِلُغَةٍ.

لِإِثْبَاتِ أَهَمِّيَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّجْرِيدِ (الْعَقْلِيِّ) أُجْرِيَتِ التَّجْرِبَةُ التَّالِيَةُ: أَحْضَرُوا قِرْدًا، وَعَلَّمُوهُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُ (بِمِغْرَفَةٍ) مَاءً مِنْ بِرْمِيلٍ، لِيُطْفِئَ نَارًا. وَبَعْدَ أَنْ تَعَلَّمَ الْقِرْدُ، وَضَعُوا لَهُ مَوْزَةً، مُحَاطَةً بِنَارٍ (فَالْمَوْزَةُ هِيَ مُحَفِّزٌ قَوِيٌّ لِقِرْدٍ جَائِعٍ). وَبِالْقُرْبِ مِنْ دَائِرَةِ النَّارِ وَضَعُوا لَهُ بِرْمِيلَ الْمَاءِ وَالْمِغْرَفَةِ، فَبَدَأَ الْقِرْدُ يَسْتَخْدِمُ مَاءَ الْبِرْمِيلِ، لِيُطْفِئَ بِهِ النَّارَ. فَلَمَّا أَنْهَى هَذِهِ الْمِهِمَّةَ حَصَلَ عَلَى الْمَوْزَةِ. تُمَّ تغَيَِّرَتِ التَّجْرِبَةُ و عُدِّلَتْ. فَالْقِرْدُ وُضِعَ مَعَ الْمَوْزَةِ، الَّتِي هيَ مُحَاطَةٌ بِنَارٍ، وَمَعَ بِرْمِيلِ الْمَاءِ وَالْمِغْرَفَةِ، عَلَى لَوْحٍ خَشَبِيٍّ يَعُومُ عَلَى سَطْحِ بِرْكَةٍ. الْقِرْدُ اتَّجَهَ فَقَطْ نَحْوَ بِرْمِيلِ الْمَاءِ، وَبَدَأَ يَغْرِفُ مِنْهُ الْمَاءَ، لِيَطْفِئَ النَّارَ، وَيَصِلُ إِلَى الْمَوْزَةِ. لَمْ يَتَوَجَّهِ الْقِرْدُ إِلَى الْبِرْكَةِ لِيَسْتَخْدِمَ مِنْ مِيَاهِهَا، لِأَنَّ عَقْلَهُ لَا يَفْهَمُ التَّجْرِيدَ. وَفِي مَثَالِنَا هَذَا، لَا يَعْرِفُ الْقِرْدُ الْمَاءَ الْعَامَ، أَيِّ الْمُشْتَرَك بَيْنَ صِفَاتٍ وَخِصَائِصِ مَاءِ الْبِرْمِيلِ وَمَاءِ الْبِرْكَةِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللُّغَةَ وَالْمَنْطِقَ شَيْئَانِ مُتَّصِلَانِ، مُتَّحِدَانِ بِاتِّحَادٍ لَا يَنْفَصِمُ. فَلَا لُغَةَ بِدُونِ مَنْطِقٍ، وَلَا مَنْطِقَ بِدُونِ لُغَةٍ. الْإِنْسَانُ فَحَسَبَ وَبِصِفَةِ كَوْنِهِ كَائِنًا اجْتِمَاعِيًّا خَلَقَهُ الْعَمَلُ يَسْتَطِيعُ وَعْيًا وَإِدْرَاكًا معرفة الْخَوَاصِ الْمُشْتَرَكَةِ وَمِنْهَا خَاصِيَّةُ إِطْفَاءِ النَّارِ بَيْنَ مَاءِ الْبِرْمِيلِ وَالنَّهْرِ وَالْبِئْرِ وَالْبَحْرِ…؛ وَيَسْتَطِيعُ، مِنْ ثُمَّ، خَلْقَ مفهوم الْمَاءِ الْعَام، أَي فِكْرَة أَوْ مَفْهُومِ الْمَاءِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُوَلَِّدَ الْوَعْيُ وَاللُّغَةُ مِنَ الدِّمَاغِ الْبَشَرِيِّ وَحْدَهُ، مَهْمَا كَانَ مُهِمًّا هَذَا الدِّمَاغُ الْبَشَرِيُّ؛ بَلْ هُوَ نَتِيجَةٌ لِلْعَمَلِ، الَّذِي يَحْمِلُ دَائِمًا طَابِعًا اجْتِمَاعِيًّا حَتَّى لَوْ ظهرَ أَحْيَانًا فَرْدِيًّا وَإِذَا نَشَأَ طِفْلٌ بَشَرِيٌّ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنَ الذِّئَابِ (عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ)، لَمَّا أَصْبَحَ إِنْسَانًا، وَلَما ظَهَرَ فِيهِ أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الْوَعْيِ الْإِنْسَانِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَعْيَ، مِثْل الْعَمَلِ ، يَتَطَلَّبُ الطَّابِعَ الاجْتِمَاعِيَّ لِيَكُونَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ، إِلَّا اجْتِمَاعِيَّ الطَّابِعِ. لاَ يُمْكِنُ إِنْشَاءُ وَتَحْسِينُ الْبِيئَةِ الاِصْطِنَاعِيَّةِ (أَوِ الطَّبِيعَةِ الْبَدِيلَةِ) إِلَّا مِنْ خِلَالِ الْعَمَلِ. فِي هَذِهِ الْبِيئَةِ، وَبِهَا، يَتَجَلَّى الْإِنْسَانُ، وَالْوَعِي، وَالْمَنْطِقُ، وَاللُّغَةُ، يَبْدَأُ الْإِنْسَانُ فِي الْاِنْفِصَالِ وَالْاِسْتِقْلَالِ عَنِ الْحَيَوَانَاتِ أَوِ الْمَمْلَكَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ ، وَيَنَالُ حُرِيَّتَهُ مِنْ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَمْيَاءِ الْقَاسِيَةِ، وَيَتَقَدَّمُ فِي اِسْتِقْلَالِهِ عَنْ قَانُونِ الْاِخْتِيَارِ الطَّبِيعِيِّ، فَعِنْدَمَا يُصَابُ بِالْبَرْدِ الشَّدِيدِ (عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ)، لَا ينْمُو شَعْرُهُ الْحَيَوَانِيُّ ؛ بَلْ يَحْمِي نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الْبَرْدِ بِمَلَابِسٍ يَصْنَعُهَا بِيَدِهِ.

عِنْدَمَا ظَهَرَ الْإِنْسَانُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ، كَانَتِ الطَّبِيعَةُ وَقَسْوَتُهَا هِيَ مُوَاجهَتُهُ الْأُولَى، فَاسْتَهْلَكَ مَا تُنْتِجُهُ بِدُونِ تَدْخُلٍ مِنْهُ، وَاكْتَفَى (بِصُحْبَةِ أَفْرَادِ جَمَاعَتِهِ) بِجَنْيِ الثَّمَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ. وَلَكِنْ بِمَجْرَدِ أَنْ أَمْسَكَ بِأَدَاةِ الْعَمَلِ الْأُولَى بِيَدِهِ، بَدَأَ يُحَوِّلُ بِيئَتَه الطَّبِيعِيَّةَ، وَبَنَى، بَعْدَ ذَلِكَ، بِيئَتَهُ الصِّنَاعِيَّةَ (الَّتِي نَرَاهَا الْيَوْمَ عَلَى شَكْلِ مُدُنٍ وَقُرًى وَبُيُوتٍ وَشَبَكَاتِ اتِّصَالَاتٍ وَوَسَائِلِ انْتِقَالٍ وَسُدُودٍ وَمَعَامِلٍ وَمُنْتَجَاتٍ وَآلَاتٍ وَأَدَوَاتٍ وَشَبَكَةِ كَهْرَبَاءٍ وَنِظَامِ رِيٍّ…) لَقَدْ كَانَ الْإِنْسَانُ مُتَأَثِّرًا، فِي الْبَدَايَةِ، بِالْوَسطِ الطَّبِيعِيِّ؛ ثُمَّ أَصْبَحَ هُوَ مَنْ يُؤَثِّرُ عَلَى الْوَسَطِ؛ ثُمَّ تَأَثَّرَ هُوَ بِالْوَسَطِ (الطَّبِيعِيِّ) الَّذِي غَيَّرَهُ ، فَالْإِنْسَانُ يَتَغَيَّرُ بِالْوَسَطِ (الطَّبِيعِيِّ) الَّذِي غَيَّرَهُ.

الْبِيئَةُ الاصْطِناعِيَّةُ هِيَ نَتِيجَةُ التَّفاعُلِ بَيْنَ الْإِنْسانِ وَالْمادَّةِ أَوِ الذَّاتِ وَالْمَوْضُوعِ، وَعِنْدَما نُقارِنُ بَيْنَ الْبِيئَةِ الطَّبِيعِيَّةِ (أَيِّ الْعالَمِ الطَّبِيعِيِّ) وَالْبِيئَةِ الاصْطِناعِيَّةِ، نَجِدُ أَنَّ هُناكَ أَشْياءَ فِي الْعالَمِ الطَّبِيعِيِّ لا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسانُ صَنْعَها (فَهَلْ يُمْكِنُ لِلْإِنْسانِ أَنْ يَصْنَعَ شَمْسًا عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ؟!) وَأَنَّ هُناكَ مُكَوِّناتٌ وَعَناصِرٌ فِي الْبِيئَةِ الاصْطِناعِيَّةِ لا تَقَعُ فِي قُدْرَةِ الْعالَمِ الطَّبِيعِيِّ عَلَى صُنْعِها (فَهَلْ يُمْكِنُ لِلْعالَمِ الطَّبِيعِيِّ أَنْ يَصْنَعَ سَيَّارَةً عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ؟!).

نَلاحِظُ أَنَّ الْعَلاقَةَ بَيْنَ الْوَعْيِ وَالْبِيئَةِ الِاصْطِنَاعِيَّةِ (أَوِ الطَّبِيعَةِ الثَّانِيَةِ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبِيئَةُ مَوْجُودَةً بِدُونِ الْوَعْيِ ، وَكَذَلِكَ الْوَعْيُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا بِدُونِ الْبِيئَةِ الِاصْطِنَاعِيَّةِ ، فَهَلْ كَانَ هُنَاكَ وَعْيٌ إِنْسَانِيٌّ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ الْبِيئَةُ الِاصْطِنَاعِيَّةُ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي شَكْلِهَا الْأَوَّلِيِّ الْبَسِيطِ؟. الْوَاقِعُ الذَّاتِيُّ هُوَ مَجَالٌ رُوحِيٌّ (ذَاتِيٌّ) يَحْتَوِي عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْمَشَاعِرِ ،نَسْتَطِيعُ أَنْ نَطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمَ الذِّهْنِ، كُلُّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ خَارِج هَذَا الْمَجَالِ ، أَيْ خَارِج الْوَاقِعِ الذَّاتِيِّ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًا عَنْهُ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، هَذَا الْمُسْتَقِلُ عَنِ الْوَاقِعِ الذَّاتِيِّ هُوَ الشَّيءُ الْوَحِيدُ الَّذِي نَستَطِيعُ أَنْ نُدركَهُ بِحَوَاسِّنَا، فَالْجَانِبُ الْمَادِيُّ مِنَ الْوَاقِعِ هُوَ الْجَانِبُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُنَا أَنْ نَشْعُرَ بِهِ بِحَوَاسِّنَا. لا تَتَأَثَّرُ المَادَّةُ بِشَيءٍ غَيْرِ مَادِيٍّ، بَلْ فَقَطْ بِمَا هُوَ مِنْ نَفْسِ طَبِيعَتِهَا، أَي بِمَادَّةٍ أُخْرَى. وَكَذَلِكَ، فَالْأَفْكَارُ لَا تُؤَثِّرُ بِالْمَادَةِ إِلَّا مِنْ خِلَالِ مَادَّةٍ، وَلِذَلِكَ الذَّات لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَوْضُوعِ إِلَّا مِنْ خِلَالِ وَسَائِلٍ مَادِيَّةٍ، فَأَيُّ فِكْرَةٍ فِي عَقْلِكَ لَنْ تُؤَثِّرَ عَلَى الْوَاقِعِ الْمَادِيِّ إِلَّا بِوَاسِطَةِ مَادَّةٍ، بِوَاسِطَةِ قُوَى مَادِيَّةٍ، بِوَاسِطَةِ يَدِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ.

إِذَا أَحْرَقْتَ يَدَكَ بِالنَّارِ أَوْ بِمَاءٍ سَاخِنٍ، فَسَتَشْعُرُ بِأَلَمٍ شَدِيدٍ ؛ وَهَذَا نَتِيجَةٌ لِتَأْثِيرٍ مَادِيٍّ مَلْمُوسٍ؛ وَلَكِنْ إِذَا سَبَّكَ شَخْصٌ بِلُغَتِكَ أَوْ بِلُغَةٍ تَعْرِفُهَا، وَقَالَ لَكَ مِثَلًا أَنْتَ حِمَارٌ ، فَسَتَشْعُرُ بِغَضَبٍ وَإِهَانَةٍ ، وربما تَقومُ بضربِه؛ وَهَذَا نَتِيجَةٌ لِتَأْثِيرٍ مَادِيٍّ (سَمْعِيٍّ أَوْ بَصَرِيٍّ) رَمْزِيٍّ؛ فَالْكَلِمَاتُ الَّتِي قَالَهَا هِيَ رُمُوزٌ مَادِيَّةٌ تَحْمِلُ مَعَانِيًا ؛ وَهَذِهِ الرُمُوزُ تُؤَثِّرُ عَلَى مَشَاعِرِكَ وَسُلُوكِكَ؛ وَهَذِهِ الرُمُوزُ هِيَ (اللُّغَةُ).

بَدَأَتِ اللُّغَةُ بِصُورَةِ أَصْوَاتٍ، أَوْ كَلِمَاتٍ مَسْمُوعَةٍ؛ وَاخْتَلَطَتْ بِهَا عَلَامَاتٌ (يَدَوِيَّةٌ)؛ وَكَانَ اللِّسَانُ أَدَاةََ اللُّغَةِ، أَوْ وَسِيلَةََ الاِتِّصَالِ وَالتَّوَاصُلِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ ثُمَّ انْضَمَتِ الْيَدُ، بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَابَةِ وَالْوُسْطَى، إِلَى اللِّسَانِ، فَأَصْبَحَ الْمَنْطُوقُ مِنَ الْكَلِمَاتِ إِلَى مُصَوَّرٍ وَمَكْتُوبٍ؛ لَكِنَّ الْمَكْتُوب، أَيِ الْكِتَابَةَ وَالْحُرُوفَ، تَغْلِبُ بِكَثِيرٍ عَلَى الْمُصَوَّرِ، أَي اللُّغَةِ الرَمْزِيَّةِ، وَعَبَّرَ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي مَرْتَبَتِهِ الْعُلْيَا.

وَهُنَاكَ لُغَةُ الْجَسَدِ هِيَ مُصْطَلَحٌ يُشِيرُ إِلَى الْجَسَمِ كُلِّهِ كَوَسِيلَةٍ لِلتَّوَاصُلِ؛ فَنَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْهَمَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَعَانِي مِنْ خِلَالِ حَرَكَات وَأَوْضَاعِ الْجَسَمِ، وَمَلَامِحِ الْوَجْهِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ.

إِنَّ مَادَةً (نَبْتَة مَا مِثْلًا) تُؤَثِّرُ بِمَادَةٍ (مِنْ نَوْعٍ خَاصٍ) هِيَ الدِّمَاغُ، فَتَظْهَرُ فِي الْمَادَةِ الْمُتَأَثِّرَةِ ، أَيِ الدِّمَاغِ هُنَا ، أَفْكَارٌ وَأَحَاسِيسٌ؛ وَهَذِهِ الْأَفْكَارُ وَالْأَحَاسِيسُ لَا يُمْكِنُهَا أَبَدًا أَنْ تُؤَثِّرَ بِالْمَادَةِ الْأُولَى (أَيِّ النَّبْتَة) إِلَّا مِنْ خِلَالِ مَادَة (الْيَدِ مِثْلًا)؛ وَالْمَادَةُ الْأُولَى يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَيْئَةِ كَلِمَةٍ نُطِقَتْ، فَسُمِعَتْ، فَأَنْتَجَتْ فِي سَامِعِهَا إِحْسَاسًا مَعِينًا (إِحْسَاسًا بِالسَّعَادَةِ مِثْلًا). وَهِيَ، أَيِ تِلْكَ الْكَلِمَة الْمَسْمُوعَة تُنْتِجُ تَغْيِيرًا مَا فِي الْوَاقِعِ الْمَادِيِّ الدَّاخِلِيِّ لِلسَّامِعِ، فَيَظْهَرُ، مِنْ ثُمَّ، الْإِحْسَاسُ (بِالسَّعَادَةِ مِثْلًا).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى