الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ‎⁨حكيمة دريبيع

قمر ليالينا.. رأس مفصولة

رفع الصغير"باسل" رأسه إلى السماء كمن يستجدي زرقـة لكن الغيوم التي لا تشبه أيّة غيوم طعنت الألـوان، أطفأت حـلمه الصغـير.

وجادت بوابل من نار.. النار الحقود التي سلبته لون الحياة، فلم يعـد يـعرف منها غير الأحـمر الذي حفـر أنهـارا في حـيّهم الذي كـان من أشهر قليلة عمارات شامخة تطال عنان السماء، وهاهو يُحيلها جبالا من أنـقـاض ووحـل لـزج..مثلما عـرف الأسـود مـن غـيـوم ضخـمـة رابضة بالسماء، تلتحف أبخـرة ماكرة تستعجل اختناق ما تبقى..

شعر أنه مستهدف وأن الدخان يركض خـلفه ليسرق منه الحشاشة الخضراء، ألـقى نـظـرة خـاطـفة على قـدميه المحروقتين همس بألـم (لكن إلى أين أنا ذاهب..؟!)

سرعان ما استدرك وراح يجيب ( لأعـيش اللحظة مع الأصدقـاء، قد لا أكون بعـد ثانية أو دقيقة أو ساعـة أو يـوم.. لستُ أدري؛ الوقـت هـنا من هلام بعدما فقد خاصيته التي أُهـدرت مع الأرواح!)

جــرّ خطواته بفتور متعب وهو يُـلملم أجـزاء جسـده المبتل بمطـر ليلة هاربة من شتاء عنيد إلى جرح أينع ربيعه قبل موعـده.

انسـلّ في عروق الخيام لمصافحة نزف انتزعه وأهـله وشعبه من مساكب الشمس التي هجرتْ غزة، ودّع باسل وأتـرابه النور والقـمر الذي لم يعـد دائريـا ولا مضيئـا، كـلما رفـع عينيه نحـوه رأى رأس طفل مفصولة تقطر دما قان، حتى النجوم أضحى يراها قلوبا بألف ثقب، تومض برسائل كبيرة من استنكار واستغاثة..

هكذا تقمصتْ حلكة الليالي دور الأنيس الذي أخذ عهدا على نـفسه (لا نور،لا ضوء،لا نبض، ولا رغيف..)

وحده الصقيع، القصف الجائع ورائحة الحرائق والأشلاء التي فُصِلَتْ على مقاس السطو المفترس، اجتمعت كلها لتكـون فصـولا من وجع، تساءل الصبي المعلّق من عرقوبه في أعماقه حائرا:

(لماذا تحلـو لهم لحـومنا، من أيام سمعت بعض جـيراننا القـدامى يقولون أن الطيب يفـوح من جـثث شهـدائنا، أَيـستهويـهم الـطيـب، فأباحوا قتلنا بحجة الإرهـاب، واحتسوا خـمرة من دم الأحـرار، ولا تكتمل وليمتهم إلاّ بتحـلية يعـدونها من عظام الصغار؟!)

ضيّع باسل الرأس التي كانت منتشية بجزيرة النوارس وقوارب الصيد وهجرته العيون المتقدة بعدما خـانها النوم والفـراش الوثـير ومرفآ البحر، فجأة أصبح كبيرا بعـمر الجرح والأرض..اليوم يحـلم بمقبرة يواري فيها جثامين عائلته؛ أبوه وأمه وأخته وأخوه الصغير، نـجـا ليلـوك وحـده وجـع الفقـد.. يحـلم بالظـفـر بلحظـة ينسى فيها النهـر الأحمر، وضفاف الجمر..

ارتدّ إلى ساحة ركـام وأنقاض صاخبة بالسؤال المتوجس ونـبض هواجس ما فتئت تستيقظ على وليمة الدم..هـنا كانت حياة من أحلام ونـور..تحسس الحجـر الذي كـان له جـدارا من حماية ودفء، مـرّر يـده والحــزن يعتصر قـلبه عـلى الكـثير مـنه، وروحـه ذات الصـدع تفـوق جـدران المباني المبعـثرة، وما تغلغـل بقـلبه اليتيم ينفـلق لـه الحجر.. الصدع، القلب، الركام اجتمعت على استثارة كوامن الشجن، وهي تستحث براءته على واجـب ما، راح يردد كـلمات أغنية كـمن يريد أن يلبسها لحـنا جديدا سـرعان ما صعدت إلى حنجرته وأطلقها سربا من تحريض ( شدّوا بعضكم يا أهل فلسطين شدّوا بعضكم..ما ودعتكم، رحلت فلسطين ما ودعتكم ..*)

سقطت الكلمات حزينة صدئة كما آنية الألمينيوم التي عـثر عليها وسط الركــام وانتشلها منه كمن ينتشل ذكرى الماء، ذكـرى أصناف الأطـباق؛ ذكـرى حلويات عـيش السرايا والعوامـة، ابتلع ريقه على مذاق الذكـريات، رفع الآنية الصدئة ليملأها بالمـاء ويغسل وجهـه، نَسِيَ أن مطر الليلة قد قام ببعض المهمة.

مشى بين الخيام التي لم تكن تشبهها؛ مجرد أغـطية خفيفة تلهـو بها الرياح، مشدودة إلى أوتاد هشة خارج الجغرافيا وحتى التاريخ الذي تعمدوا في طمسه، التاريـخ المطعـون بخنجـر الصمت، يـبكي طعنة الأخ البهلوان المكور فوق كرسيه الجلدي، خلف مكتبه يتابع نـشرات الأخـبار وهو يمـرّر بنهم حبات الفستق إلى فِـيهِ النتن من الكذب، مستمتع منتش بالفرجة..

مشى بحـذر متحـاشيا الأجساد المحـروقة وأشـلاء حصيلة الليلـة الماضية، يخترق سمعه أنين متوار خلف الخيام التي تعزف جرحها المزمن.

جمع رفاقه، ساروا مجتمعين في دروب الجمر، يبحثون عن مكان آمـن ليلعبوا فيه، هاهم قد كبروا بسنوات ولم يعـد من حقهم اللعـب بقدر ما رخص لهم الأحياء إحصاء الجثث، وترتيب الأشلاء..ملّـوا كثيرا هذا المشهـد، تستبـد بـهم رغبة اللعب، والطفـولـة المغتالـة تستحثهم على حقها المشروع..

عادت الكلمات وعاد اللحـن (شدّوا بعضكم) في تـناغم مع لعبة الدائرة، شكلوا حلقة؛ كانت رمادية لم ينعكس عليها ضوء الظهيرة المغيّب تحت الدخان والأبخرة الخانقة..

كـانوا أحـد عـشر كـوكـبا من وجع النار، من وجع اليتم ومن وجع التهجير، ارتفع صوته مرة أخرى (شدّوا بعضكم...)
جال بعينيه، يريد أن يطمئن على حـلقة الشمع، وقعت نـظراته على شبل وهو يحاول أن يلتصق بكتفيه اللتين خانتهما الذراعان بعـد أن أكـلتهما أمـنا الغولـة وجعـلتهما ضفيرتين لها متدليتين مـن طـاقـية الكيباه؛ اليوم بُـعثت من الأسطورة؛ وهي تسرد بـطـولتها مع العـزل من المستضعفين والأطفال..

كانت الثغرة في الدائرة الشمعية ظاهرة، تتحدى ضعفهم وعجـزهم، وبنبرة آمـرة حـادة قال:

(التصقوا به أكثر لا تتركوا الفجوة قـد تخذلنا جميعا..)

حرّك رأسه التي غزتها صور الموت بعدما زاحمت أشرطة الرسوم المتحركة حتى محتها، كان قد أدمنها ما ظنّ يوما أنّها ستهجره بكـل تفاصيلها، وتهديه خمائل من رؤوس منتشية وجداول من دماء قانية، ما تزال رأسه الصغيرة تترنـح على ريـح الراهـن، وفي عينيه بريق ورعد، وعلى لسانه حطت دبابير حمر( خـذلنا الإخوة، مـن يخرجـنا من الجبّ لا بـل من بحـر الدم؟!)

صعـدت هـواجسه محمومة صاخبة كما القـدر، اقـتلعته من بؤرة اللعبة لتطوّح به بعيدا، وهاهو قد عـاد مردّدا ( شـدّوا بعضكـم)

التصقت الأيادي، التحمت السواعـد المحروقة ضيّعوا كلمات اللـعبة ومـا ضيعـوا الشرود ولا السفــر في الماضي، كـل ذهـب إلى لـعبته المفضلة من لعبة سباق السيارات على الشبكة العنكبوتية إلى لعبة الدمية المغنية التي أحـبتها كارما، فلعبة الأرجـوحـة، ولـعبة صيـد السمك الصغير التي أحبها باسل..همس في حزن (الغزويون كـبار وسيظلون كبارا، ليسوا سمكا صغيرا، ضعوها داخل رؤوسكم جيدا مثلما تضعوا فوقها تلك القبعة الصغيرة، سنظل تحت قبعاتكم شوكا.. مساميرا مدببة وخناجرا، لن تنعموا براحة البال..)

التقت نظراتهم، تعانقت، توحدت في نظرة حيرى؛ أيقنوا أن زمنها قد ولى ولم يبق أمامهم إلا لعبة الشظية، لعبة العكاز، ولعبة الشهيد..

هتفت كارما بصوت كأنه أتى من مكان سحيق ( لنلعب لعبة الشهيد وأنا من أكون ممددة على النعش..مرفوعة على أكتافكم داخل الدائرة الشمعية)

وكان لها ما أرادتْ؛ حملوها على ورق مقوى،غـطـوها بمئزر متبق من أيام المدرسة ثم راحـوا يغنون (قـمري الشهيد..عـمري الوحـيد حضن الردى بعد الصمود.. ومضى إلى دار الخلود)

ملأوا لأفق لحنا طفوليا بينما كانت كارما غارقة في تهويماتها حتى خـالت نفسها أنّها تحلّـق كما يمامة في سماء سرمـدية، فـلم تشعــر متى ولا كيف وضعـوها على الأرض،عـاشت اللحـظة بعمق وبـقي شعـور التحليق ملازما لها لفترة من الزمن..

عَـلا صوت تحليق طائرات في سمائهم الصغيرة التي لم تكن زرقاء أبدا، افترقـوا على أمـل لـقاء في الغد وعـاد كـلّ إلى وجهته وفي كفه بقايا دائرة من شمع وفي صدره لحن وألحان..

وجاء الغد، اجتمعوا ليواصلوا الحياة، لكن كارمـا خـانتها الحياة لم تأت بعد، انتظروها مطـولا ولم تأت.. التفتوا إلى شبـل وهـو يحجـب وجهه الحزين بالأرض الندية.. التفوا حوله، أدرك حيرة السؤال في عيونهم المطفئة، جاءهم رده :
(لا تنتظروها، لقد أصابتها قذيفة..)

علا اللحن حزينا ( قمري الشهيد..عمري الوحيد..)

*- شدوا بعضكم أغنية فلسطينية ..غنتها الحاجة حليمة الكسواني


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى