

قناديل في سماء مجعّدة
"لا شيء غير تجاعيد على جبهة السماء المغبرة وشمس مرهقة ترسل أشعتها باهتة تصارع الأدخنة المتصاعدة، سوْرات غضب تُفجّر على الأرض الهادئة فتنتفض ليحلق الأطهار بعيدا فوق سواد ما فتئ يلف المدينة كدثار..."
دونتُ تلك الكلمات أحاول الرجوع لهوايتي القديمة في فسحة هدوء ما لبث أن كسرها دوي هائل، وضعت قلمي، أرسلت نظري بعيدا:
– أجل... الشمال الغربي من جديد ... التنانين الرعناء لا تكف عن إلقاء حممها، عفوك أيتها المخلوقات التي تجمّل الأساطير.... ظلمتك.
والعذر منك يا صديقي عن كلمات ألقيتها في أذنك ونحن نتعثّر في الكتل الإسمنتيّة التي تتجمع أحيانا وتتناثر أخرى.
قلت لك:
– لم تعد هذه الأماكن تحتضن الأمل.
لكنك رددت بحزم:
– ومن قال ذلك؟ مازالت الأرض تعبق برائحته، بل إني أشمها اليوم أقوى، إنه يسري في عروقها وهي تنبض به، هو في كل ذرة من هذا التراب، ألا تسمعه يحكي عن العابرين؟ والغابرين؟
وقبض حفنة تراب قرّبها إلى صدره ثم تركها للهواء يذروها على مهل.
– ليتني أستطيع أن أذروَ أوجاع الجميع كما ذروتَ تلك الحفنة.
– ابدأ بأوجاعك أولا.
هزمني، فرُحت أناور بعيدا:
-وحتى الذين انتظرتَهم وناديتَهم من أعماقك، صُمّت آذانهم فجأة.
– ظننتُ، وجلَّ من لا يخطئ...لنا الله وكفى.
تمتم بذلك في خنوع غريب، والعيون لا تنفك تنظر إلى الأعلى.
– أعرف أن "تحريرها كلّها قد بدأ"، وقريبا سنعود إلى حيّنا.
ظل صديقي يردد ذلك حتى اختطفته شظية على حين غرة. يومها لم أبك كل ما فعلته أنني غطّيته ثم خرجت أحمله وأجول به أينما ذهبت، كنا لا نفتأ نتناقش، ولا نبرح نتقاسم الهموم، كان لا يكف عن إشعال الشموع حولي، ولا عن تلوين الفضاء المكفهر فوقي بلون الزعتر والزيتون. نبرة صوته لم تتغير أبدا، رغم أني كثيرا ما كنت أغضب من هدوئه المفرط.
لما جرّوني حيث ينام، صاح بي أحدهم يصفعني: هذا قبر أحمد.
قلت بسكينة: أعلم، لكن... لا أستطيع دفنه في صدري، لا مكان... كل صدري صار مقابر.
ذاك الصباح هبت ريح خريفية تطوف بين الحطام واللحود تساءلت:
– أليس موسم البذر والحرث؟ لا ريب أن الغيوم ستذرف دموعها الغزيرة لتسقي تلك البذور الصغيرة المدسوسة برفق تحت رداء الأرض فتحيا وترسل جذورها لتتغلغل في الأعماق ثم تطل من جديد لتُبرعم وتزهر.
لما هطل المطر أيقنت بذلك.
مددت يدي لتتلقى فيض الماء، طالعتها، تمعنت في ندوبها وتشققاتها، فهبّ من بين أخاديدها سؤال:
– هل صرنا حديدا بدل الحديد؟
نعم، دون أن ندري، تحولت اْيادينا إلى معاول، وسواعدنا إلى رافعات، وظهورنا إلى مركبات.
سهيل كان على حق حين صرخ: أبي أقوى... أبي أقوى...
لم ينتظر أن يسأله أحد: كيف؟
واصل الصراخ:
– كل الرّافعات لم تأت لتزيح الركام من فوقنا... كنا هنا...هكذا...نشد بعضنا
وأشار بيديه إلى الأسفل حتى لامست أصابعه الأرض ثم شبكهما، واستمر يبهرنا كأبرع حكواتي:
– وحده أبي سمعنا، عمل طويلا ليصل إلينا، لما أخرجنا جميعا... تسلقتُ كتفيه والتصق وائل وهند بذراعيه. أبي خارق...خارق...
كنت أتأمل الأب الذي أخفى من وجهه كل علامات الألم لما استدار إليه ابنه. حتى يده التي كانت تدلك كتفيه وقفاه راحت تداعب شعر أطفاله وتنفض عنه ما علق من غبار. طيف بسمة ناج من تحت الأنقاض كان يرفرف فوق شفتيه، بيد أنهما كانتا ترتجفان، ترتجفان كجدار متهالك يحاول عبثا أن يوقف سيلا جارفا.
– أنت عظيم يا أبي...
اليدان الصغيرتان تحتضنان الوجه المرهق، تربتان على اليدين، تنهال الأذرع الصغيرة بالعناق، سالت دموع سهيل في كل العيون.
تمتمت:
– كم أنت محظوظ...
– المحظوظون يستشهدون.
نطق الرجل الذي يئنّ على فراش في رواق المشفى.
الحروق التي على جسده لم تفلح المرواح في إسكات زمجرتها، رفع صوته يغالبها:
– اشتعل بيتي فجأة، حاصرتنا النيران...لم أنقذ سوى أمي وولد وحيد. لم يلبثا أن غادرا. استعجلا اللحاق بالجميع وتركاني أعاني من كل شيء.
هذا الكل شيء، أين اختفى الآن؟ تساءلت بمرارة.
رأيت الجميع يطفو وأنا أغرق، لا شيء للتمسك، حتى الكواكب تهاوت، همهمات. خيالات، ضوضاء، سكاكين تشرح جسدي، أنفاسي تزهق، تراخى جسدي، ابتلعني ثقب أسود.
انتبهت، الخراب حولي، جسدي بحمله اثنان.
– مازال يتنفس.
– معجزة...لم أظن أنه سيتحمل.
إنهما يتحدثان عني...
– غاب عن الوعي أياما...إنه يفتح عينيه.
– لسنا في المشفى، أخرجونا عنوة...ستكون بخير.
قال ذلك يطمئنني. حركت ساقي، وجمت... حاولت رفع رأسي، أعادني أحد الزميلين:
– الحمد لله على سلامتك...ما فقدت فداء للوطن.
أغمضت عيني، تمعنت في الرجل الذي يلبس صدرية برتقالية، يجري بين شوارع كانت هنا: يحمل رفيقه الجريح، يبقر الأرض يخرج منها لفائف مضمخة بالدماء، يرفع أبا سهيل من بين الركام لتتحدى غريزة الأبوة جسده المنهك فيلقي حبال النجاة لأولاده... ومازال الرجل يجري يقتحم النار يجلي كهلا أنهكه مصارعة اللهب...تأملت الراكض، كان أنا لكن... بساقين.
– بينهما وبين الأرض قصة. عشقاها فاختطفتهما باكرا. ثبتتهما فيها، لو لم تفعل لفعلت.
قلت ذلك لنفسي ثم رجعت لقلمي، شطبت كل ما دوّنت، رحت أنثر كلماتي وقنديل صديقي أحمد لا ينفك ّيضيء قربي:
– لا شيء غير أرض اشتاقت لأهلها.