الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ياسر فرج

كَــايْتَـا

نزارُ صلاح الهجين، شابٌّ فلسطينيٌّ من مواليدِ حيِّ عِجْلِينَ جنوبِ غزّةَ، صاحبُ الوجهِ السَّاجعِ الأبلجِ والبشرةِ البيضاءِ المُشْربةِ بحُمْرةِ والشعرِ الأسدلِ المنطلقِ المرخيِّ على جبينِه، يمتلك في جيبِ الزمانِ ثلاثةً وثلاثين عامًا، يعمل معلمًا بمدرسةِ "الحسينِ بن علي" الثانويَّةِ في مدينةِ الخليلِ بالضفَّةِ الغربيَّةِ، يعيش مع زوجته "دارين الخور" ربَّةِ منزلٍ وطفليه التوأمِ (حاتم وريم).

يقطنُ معهم في البيتِ الوالدُ "صلاحُ الهجين" الذي أَعْنسَ الشَّيْبُ رَأْسَهُ يرابطُ في المنزلِ قرينَ كرسيِّه المتحركِ، تدعمه زوجته والدة نزار؛ السيدةُ "خديجةُ الديري".

ينشأ نزار في بيتٍ يأنفُ الخنوع ويعشقُ المقاومة لا يختارُ الهوانَ على الكرامةِ، الوالد أقْعِدَ من أثرِ شظايا قذفهَا جنودُ الاحتلالِ في التاسعِ من ديسمبر/كانون الأول ١٩٨٧.

منذ أن شبًّ نزارُ عن الطَّوقِ، نذرَ حياتَه حتَّى لاَ يَجِدَ الاحتلالُ في السماءِ مَصْعَدًا ولا في الأرْضِ مَقْعَدًا، يستمدُّ ذلك من نضال والده وقبوعِ بيته في حيِّ الشَّيْخ عِجْلِين، يرجع اسم الحيِّ إلى الرجل الصالحِ "عِجْلِينَ" الذي سارت بذكره الرُّكبانُ، كان مسئولَ التنبيه أيامَ صلاحِ الدينِ الأيوبيِّ عن إشعالِ النارِ فيكونُ الدخانُ إشارةً على بوادر الغزو.

كان بيتُ الهجينِ منفصلًا عن منازلِ الحيِّ؛ يربضُ فوقَ ربوةٍ عاليةٍ ضاربةٍ في الخضرةِ وسطَ مزارعِ الكَرْمِ والزيتون، يقتربُ من الشاطئِ يرتفعُ عن الأرضِ، يتنسَّمُ الشموخَ يشهقُ العزَّةَ يزفرهَا كرامةً تتجلَّى في كفاحِ نزارٍ الذي يأبى أن يضاجعَ الخوفَ، لا يملُّ من كثرةِ الاعتقالِ جرَّاءَ نشاطِه في الدفاعِ عن العقاراتِ الفلسطينيَّةِ ضدَّ الجمعيَّاتِ الاستيطانيَّةِ الصهيونيَّةِ التي تعملُ بشكلٍ حثيثٍ على تهويدِ الأرضِ من خلالِ شراءِ المنازلِ والعقاراتِ بتقديمِ الإغراءاتِ الماديَّةِ للفلسطينيين.

تشبُّثُ نزارُ بموقفِه في رفضِ تهويدِ الأرضِ استجلبَ عداءَ المؤسساتِ الصهيونيَّةِ؛ مما جعلَ حركة "عطيرتَ كوهانيم" الاستيطانية ترمي بفلذة كبدها "دانيال لوريا" للتخلصِ من نزارٍ بشكلٍ قانونيٍّ.

يخطط دانيال للإطاحة بنزارَ فيأخذ يزوِّرُ عقدَ بيْعَ البيتِ لصالحِ رجلٍ يهوديِّ يُدْعَى "اسحقُ شازار".

أوَّلُ أيامِ عُطلةِ منتصفِ العامِ

تتسلّلُ الشمسُ في استحياءٍ إلى غرفةِ التوأمِ بالدَّوْرِ العُلوِيِّ، ينبضُ الدفءُ في جبينِ الصبِيِّ فيستيقظُ يفركُ عينَيْه يفتحُها على صورةِ أخته كأنَّها الملاكُ النائمُ.

يوقظُ حاتمُ أختَه ريمَ تشاركُه افتتاحَ يومٍ جديدٍ، ينزلان ينحدران على السلالمِ بأقدامِهِمَا الصَّغِيرةِ يقابلان الجَدَّ طريحَ الكرسيِّ ضاحكَ السِنِّ مبتهجًا يقبِّلان يدَهُ فيحتضنُهُمَا بضَمَّةٍ واحدةٍ كأنَّما يطوِّقُ الدنيا بذراعَيْه.

يبحثان عن الوالدِ يجدانِه قد خرجَ مبَكِّرًا في شراء بعض حاجيات المنزل، يتَّجهان صوبَ المطبخِ حيثُ تقفُ الأمُّ ببطنِها المنتفخةِ في شهرِهَا التاسعِ تُعِدُّ الإفطارَ بمعاونةِ الجدَّةِ.

يتناولان كعكتين منقوشتين بالزَّعْتَرِ يَخْرُجَان يلهُوَان أمامَ المنزلِ حتَّى تفرغ والدتُهُمَا من تجهيزِ الفطارِ، يمسكانِ طائرةً ورقيةً خضراءَ بلون زيتون غزَّةَ يطلقان عليها (كايْتَا)، يحاولان تحليقَهَا بعيدًا كما يصنعُ والدُهُمَا حينَ يلاعبُهُمَا، لكنَّها بالكادِ ترتفعُ بعضَ الأمتارِ تلتصقُ بسطحِ المنزلِ يفشلان في إنزالِهَا، يتركان الأمرَ ينتظران الوالدَ يأتي ليطلقَهَا، يعودان إلى المنزلِ يتناولان حليبَ الزَّبَادِي وفطائرَ محشوةً بالسَّبَانِخِ وأخرى بالجبنةِ.

يفرغ الجميعُ من الفطار فيأخذُ التوأمُ يدفعان الجدَّ بالكرسيِّ المتحرِّكِ ترافقهما الجدَّة في جولةٍ وسطَ الخضرةِ حولَ المنزلِ، يتناوبُ التوأمُ دفعَ كرسيِّ الجدِّ حتَّى إذا جاءَ دورُ الجدَّةِ تنطلقُ ريمُ تزغردُ وحاتمُ يصفِّقُ كأنَّهُمَا يزفَّان العجوزَيْن إلى عُشِّ الزَّوْجِيَّةٍ.

يضحكُ الجدَّان بملءِ شِدْقَيْهِما يقضيانِ الوقتَ في اللَّهوِ معَ الطِّفْلَيْنِ، ثُمَّ تدخلُ الجدَّةُ تساعدُ الأمَّ في أعمالِ المنزلِ.

يظل التوأمُ يلهوَانِ مع الجدِّ أمام المنزل إلى أن يلمحَ حاتمُ والدَه من بعيدٍ فيصدحُ إليه، تنطلق أختُه خلفَه فيقبِّلُهُمَا الوالدُ يرفعُهُمَا لأعلى، الواحدَ تلوَ الآخَرَ يشعُرَان بدِنُوِّهِمَا من السماءِ يوشكان لمسَهَا.

يُقَبِّلُ نزار يدَ والدِه يعودُ به برفقةِ طِفْلَيْه إلى المنزلِ ليجدَ الزوجة تُعِدُّ سلطة الدَّجَاجِ والفريكِ المتبَّلةِ بالليمونِ إلى جانبِ الكنافةِ النابلسيَّةِ والفستقِ الحلبيِّ.

تتناولُ العائلةُ غداءَهَا وسطَ دقدقةِ حبَّاتِ المطرِ على النوافِذِ التي تصطكُّ تتراوحُ بينَ فتحٍ وغلقٍ بفعلِ الهواءِ الطيِّبِ في جوٍّ يبعثُ البهجةَ يروق للصِّغَارُ والكبارُ.

ينتصفُ الليلُ، لا يلبث نزار يأخذ في النوم بعد نهاية يومٍ هانئٍ حتى يستيقظَ على استغاثة أهله بسبب مداهمة جنود الاحتلال.

يخرج نزار يتصدَّى لأولئك الذين لا يكترثون لدفاعاته يعطونه مهلةً أربعًا وعشرين ساعةً للجلاء وإلَّا يخرجونهم عنوةً.

يقفُ نزارُ أمامَ المشهدِ يحبس دموعه في مآقيها، أُعْتُقِلَ لسانُهُ من هولِ الصَّدْمَةِ، تتصلَّبُ قدمَاه في الأرضِ كأنَّ ألصقَهَا الغراءُ، لكنه يتمالكُ جأشَه ينطلقُ في تسكين أهله وهو الأحوجُ لمن يسكنه.

يجلس نزارُ يتوسَّطُ الأهل فيما يربضُ حاتمُ في حِجْرِ جدِّه وريم على فخذِ جدتها، لا ينبس أحدهم ببنت شفه كأنما ذهبت حواسُّهم، يقضون سحابة الليل في التفكير كيف يخرجون من هذا المأزق.

يرنُّ هاتف نزار يقطع ذلك السكون إيذانًا بمكالمةٍ من صديقه كمالِ المصري.

كمالُ تاجرُ زيوتٍ مصريٍّ من بدو سيناءَ يستقر بمحافظة "السُّوَيْسِ" المصريةِ، يشتري كل عامٍ محصول الزيتون من نزار، تربطه بالأخير علاقةُ صداقةٍ قويةٍ منذ سنين.

يتحدث كمال مع نزار هاتفيًّا في بعض أعمالهما فيعرف ما حدث لعائلة الأخير فيعرضُ الطلب لاستضافتهم، لكنَّ نزارَ يرفض متعللًا بتعذر قبول فكرة هجره لوطنه، ثمَّ لا يزال كمال بصديقه حتى يوافق لعلها رسالة القدر إلى حين يدبرُ الله أمرًا.

في الحقيقة، لم يَصِرْ نزارُ جبانًا أو باع القضيَّةَ وإنَّما عَزَمَ أنْ يحافظَ على أهله، يقرر في نفسه أن لا تكتحلَ عيناه بغُمْضٍ حتَّى يستعيد بيته يستكملُ رحلة الكفاحِ من جديدٍ.

في الصباحِ، يحزم الأهلُ أمتعتهم يلقون نظرة الوداع على البيت تتفطَّرُ قلوبهم كمدًا لفراق الوطن والذكريات، يبكي والدُ نزار دمعًا لو عُدِلَ ببكاءِ آدمَ حينَ خرَجَ من الجنَّةِ لعدله، يخرجون أمام أعين الاحتلال الذين يستفزوهم بعبارات العداء والاستقواء، بينما نزار يضبط نفسه وردَّة فعله صيانةً لأهله وزوجته التي توشك على الولادة.

تلتفت ريم بعد مفارقة الدار تنظر خلفها تعلَّقُ نظرها إلى السطح تقع عيناها على الطائرة الورقية (كايتا) التي كانت تلعب بها مع أخيها، تبغي الرجوع لالتقاطها، يمنعها أحد جنود الاحتلال متهكِّمًا يضحك في تهانفٍ يقول:
"إنَّ ربَّكم سينزلها ويودعها في البيت في انتظاركم المرة القادمة حين تعودوا إلى المنزل".

يصل نزار بعائلته إلى العريش ليجد صديقه كمال ينتظرهم بحافلته؛ يستقبلهم بحفاوةٍ ينطلق بهم ينزلهم في أحد بيوته، يقتسم العيش معهم شقَّ شعرةٍ.

يعيش نزار وعائلته كأنه في بلده بين أهله يحفُّهم المصريون، وجدوا فيهم ما يؤنِسُهم يعوِّضُ ولو قليلًا من الشَّجْوِ الذي خلَّفَه فراق الوطن والأحباب.

تخلع الدنيا وجهها القمطرير مؤقتًا تكشفُ وجهها النَّضيرَ لنزار وعائلته يعيشون كالملوك في عروشهم، لكنَّ نزارَ لم ينس لحظةً واجبه نحو وطنه، لم يغب عن ناظره المشهد، يهفو قلبه كل لمحةٍ أن يتنسَّم هواء غزَّة.

السبت ٧ أكتوبر ٢٠٢٣م الموافق لـ٢٢ ربيع الأوَّل ١٤٤٥هـ

خلال عطلة سيمحات توراة اليهودية، تشنُّ المقاومة هجومًا مفاجئًا على إسرائيلَ أسمته بعملية (طوفان الأقصى).

تتهلل عائلة نزار لسماع الأخبار يتزامن مع وضع دارين الخور زوجة نزار مولودها الثالث في نفس اليومِ أسمَوْه "باسلَ" عسى أنْ يكونَ له من اسمه نصيبٌ، وتنطلق معها زغاريد الجيران في مصرَ لكنَّ نزارَ في موقفٍ مغايرٍ يبكي متحسرًا كان يتمنَّى لو كان في غزَّةَ بجوار إخوانه.

طعم الفرحة لم يدم سوى ساعاتٍ، تبدأ القوات الإسرائيلية هجومها باستعادة السيطرة على المستوطنات التي سبق للمقاومة السيطرة عليها، وتشنُّ هجماتٍ انتقاميةً قبل أن تعلنَ الحربَ رسميًّا في اليوم التالي.

يتحرَّك نزار رغم منازعة أهله نحو المعبر للوقوف مع إخوانه لكن يتم منعه من قبل القوات الحدودية فيعود إلى السُّوَيْسِ متألمًّا، لكنَّه يتبنَّى المقاومة من مكانه في ثوبٍ جديدٍ.

يطلق نزار من مكانه موقعًا على الإنترنت وخطَّ اتصالٍ هاتفيٍّ يعاونه فيه أشقَّاؤه المصريون، يتصدَّى من خلاله لحملات الاسرائيليين غرسَ الفتنة بين الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة بجميع أطيافها.

يطلق نزار كلَّ يومٍ نداءاته من خلال موقعه إلى عشائر المحافظات الجنوبية قطاع غزَّة (عائلات المدهون والنجار والشوا والأغا والأسطل وحلس والودية وغيرهم) للتحذير من الفتنة التي تهدف إلى تكريس الانقسام الجغرافي وفصل قطاع غزة عن فلسطينَ، وفي الأخير ينجح في إخماد فتيل الخلاف، ثمَّ يدعو كل الفصائل إلى الالتفاف حول المقاومة الفلسطينية.

في كل لحظةٍ تتشققُ أكبادُ نزار وأهله لمشاهد الإبادة والقمع التي يمارسها الاحتلال ضد المدنيين الأبرياء، لم يشكروا الظروف أن نجَوْا من تلك المذابح لكنهم على النقيض يتحسَّرون لما فاتهم من شرف الجهاد أو الاستشهاد.

الأربعاء ١٥يناير ٢٠٢٥

تعلن قَطَرُ التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزَّة، ويدخل الاتفاق حيِّز التنفيذ بدءًا من يوم الأحد ١٩ يناير.

الاثنين ٢٧يناير ٢٠٢٥

عائلة نزار يتأهَّبون تمهيدًا لعودتهم إلى ديارهم، فرحة نزار وعائلته للعودة كبيرةٌ على قدر تألمهم لفراق إخوانهم في مصرَ، لكنَّها غزَّةُ المحفورة في قلوبهم لا يحاذيها أيُّ هوىً.

تصل عائلة نزار إلى حدود غزة يستقبلونها بسجدة شكرٍ لله، تتساقط دموعهم تزغرد على أرضها، تناول الزوجة رضيعها لزوجها تتبادل معه تقبيل الأرض، ثم ينهض الجميع يستكملون المسير وسط الركام والأنقاض يعتزمون إعمار منزلهم الذي يتوقعون خرابه.

ثمَّ تحدث المفاجأة ...

يشمخ بيت الهجين يرونه من بعيد راسخًا مثل جبل النقب لم يهتزُّ قدر شعرةٍ، ذلك البيت الذي طالما أدمن المقاومة، ها هو لم يستسلم لغدرات اليهود لم يتأثر بقنابلهم.

يُنْزِلُ كلُّ فردٍ من عائلة نزار متاعه ينطلق يقبِّلُ جدران المنزل، كاد الرجل القعيد يسقط من كرسيه المتحرك فرحًا لرؤية بيته من جديدٍ.

يفتح نزار باب داره يجده على نَسَقِهِ لم يتغيَّر قدر أنملةٍ إن لم يكن أحسن من ذي قبل، لا تزال فيها ريحهم لم تخالطها رائحة اليهود أو دنسهم.

يطلق حاتم نظره فيرى طائرته الورقية تجثم على الأرض في مدخل المنزل فيجري لالتقاطها مهللًا، تجري ريم خلفه تمسك بالطائرة الورقية (كايتا) تلمح كتابةً على ظهرها، يتناولها الوالد يتمتمُ بالكلام مبتسمًا ثمَّ يحكي على لسان صاحب الكتابة:

"أهل البيت الكرام، سامحونا لقد استخدمنا بعضًا من مقتنياتكم من مأكلٍ وملبسٍ وذلك للضرورة، نسأل الله السلامة للجميع، إخوانكم في المقاومة".

يعلِّقُ الأبُ القعيد بدموعه المخزَّنة من سنين يرد على رسالة المقاومين كأنَّه يخاطبهم:

"أقسم بالله لو طلبتم أعيننا لأعطيناها لكم عن طيب خاطرٍ، يا فخرنا وعزَّنا، حفظكم الله، ثبَّتَكم الله، نصركم الله وسدد رميكم".

يرفع نزار بصره إلى السماء يحمد اللهَ ثمَّ لا يضع عصاه حتى يصحبَ طفليه لإعانة الجيران المنكوبين في ترتيب منازلهم، يجلسُ في الأخير يمهِّدُ لكفاحٍ جديدٍ ينطلق من بيت الشموخ؛ بيت الهجين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى