

لا تُصالح
سارت "ليلى" بين الركام حافية القدمين، التصق ثوبها البسيط المتسخ بجسدها النحيل، وعيناها تتجولان في الخراب من حولها.
أنفاسها متقطعة، لكنها لم تشعر بالتعب، لم يكن هناك متسع في قلبها للخوف أو الإرهاق، فقد أخذ الدمار كل شيء، ولم يتبقَ لها سوى الغضب…
الغضب وحده.
على بعد خطوات منها، راح رجال الحي يجمعون الجثث من تحت الأنقاض، وآخرون يبحثون عن ناجين، ترددت أصوات الأنين المكتوم وسط الدخان المتصاعد.
لكن لا أحد يستطيع إنقاذ الجميع، لم يكن هناك مشافٍ، ولم يعد هناك حتى أطباء، فقط.. أهل الحي، بأيديهم العارية وإرادتهم الصلبة، يحاولون انتشال ما تبقى من حياة وسط هذا الجحيم.
وقفت " ليلى" في منتصف الطريق، رفعت رأسها إلى السماء، حيث حلقت حمامة بيضاء في الأفق الرمادي، لم تفهم كيف يمكن لشيء أن يكون نقيًا وسط هذا الدمار؟ لكنها لم تبعد نظرها عنها.
قبل لحظات فقط، كان كل شيء مختلفًا.
جلست بجوار أمها في المنزل، تضع رأسها في حجرها، وتستمع لحكاياتها القديمة عن الأيام الجميلة، روت أمها عن الزمن الذي امتلأ فيه السوق بالناس، وعجت المنازل بالضحكات، والحدائق خضراء يلهو فيها الأطفال.
. "سيعود كل شيء كما كان، يا ليلى"، قالتها أمها وهي تمسح على شعرها.
لكن لم يكن هناك وقتٌ للعودة.. في تلك اللحظة بالتحديد، جاء القصف.. سريعًا وعنيفًا، لم يعطِ أحدًا فرصة للهرب..
تحولت الضحكات التي ملأت المنزل قبل ساعات إلى صرخات، وانفجرت النوافذ وتحولت إلى شظايا قاتلة، ثم... الظلام.
إنهارت الجدران، وامتلأ المكان بالغبار والصراخ.
حين استفاقت ليلى، وجدت نفسها تحت كومة من الحجارة.. الم في جسدها لا يطاق، صرخت، لكنها لم تسمع سوى رجع صدى صوتها.
حاولت أن تحرك جسدها، فتأوهت من الألم. وفجأة، سمعت صوتًا ضعيفًا قريبًا منها إنتفض له قلبها:
— "ليلى… أين أنتِ؟"
بدا صوت أمها واهنًا، كأنه قادم من مكان سحيق.
— "أنا هنا، أمي!" صاحت وهي تحاول أن تتحرك.
لكن لم يأتِها أي رد.
ضربت الحجارة بيديها الصغيرتين، دفعتها بكل ما أوتيت من قوة، حتى وجدت نفسها خارج الأنقاض.
نظرت حولها، رأت وجوهًا تعرفها كانت تملؤها الضحكات قبل قليل، صارت جثثًا هامدة، ذُعِرَت وهي تبحث عن أمها ولكنها لم تجدها..
سمعت أنينها وهي تنادي عليها بوهن..
حفرت بيديها في الأرض بجنون، سالت الدماء من أظافرها.. نادت على أمها ودموعها تتساقط في قهر، لكن دون جدوى.
عندما أيقنت أن أمها لن تجيب، سقطت على ركبتيها.. لم تبكِ، لم تكن هناك دموعٌ كافية لهذا الحزن..
فقط نظرت حولها، ورأت بعينيها ما لم تكن تستطيع فهمه من قبل: لم يكن هناك مكانٌ للصلح بعد الآن.
"لا تُصالح"، قالتها بصوت خافت، لكن الكلمات حملها الهواء بعيدًا.
لم تشعر حين وقفت على قدميها، ولم تدرِ كيف مشت كل هذه المسافة.
في الزاوية القريبة، رأت طفل أصغر منها يبكي، يبحث بين الحجارة عن شيء ما، راحت يداه الصغيرتان تتحسسان الأرض وكأنه يأمل أن يجد ما يبحث عنه تحت الركام، كما كانت "ليلى" تفعل قبل دقائق قليلة.
ترددت للحظة، هل تقترب منه؟ هل تخبره أن البحث لن يفيد؟ لكنها لم تستطع أن تفعل شيئًا، عرفت أن الكلمات لا تملك القدرة على تغيير الواقع، ولا على إعادة الموتى.
لكنها الآن هنا.. واقفة وسط الركام، تنظر إلى الحمامة البيضاء، وإلى السماءالرمادية وأسئلة تنهش روحها قبل عقلها..
كيف يمكن لشيء أن يكون نقيًا وسط هذا الدمار؟ كيف تستطيع حمامة أن تطير، وكأن كل هذا الموت لا يعني لها شيئًا؟ هل هي رمزٌ للسلام حقًا، أم مجرد كذبة أخرى، مثل تلك الأكاذيب التي قيلت لهم عن الهدنة؟
وفي قلبها، نشبت هناك معركة.
جزء منها يريد الصراخ..
يريد الانتقام..
يريد أن يحمل حجرًا، عصًا، أي شيء، ويضرب به أي يد تلطخت بدماء الأبرياء...
لكن جزءً آخر منها، كان يخشى أن تتحول إلى ما تكرهه، أن تصبح شخصًا آخر، لا يشبه الفتاة التي كانت تجلس في حضن أمها قبل دقائق.
وعلى الرغم من ذلك..
صرخت: هي أرضنا.. نعيمنا وإن كانت جحيمًا..
درعنا وإن كانت بلا غطاء سوى السماء
لم يكن القرار سهلًا، ولم تكن لحظة غضب، كان يقينًا..
يقين بأن بعض الجراح لا تلتئم، وبعض الخيانات لا تُغتفر، وبعض القضايا لا تُشترى بالذهب.
نظرت إلى الأمام، إلى الخراب الذي كان يومًا ما حيّها..
إلى الرجال والنساء الذين لم يحنوا رؤوسهم رغم كل شيء.
كانت تعلم أن العالم سيحاول إقناعها بأن الحقد ضعف، وبأن الغضب نار تحرق صاحبها قبل غيره.
لكنها لم تكن تحقد… كانت تتذكر. والذاكرة قوة.
وبقوة خطواتها الصغيرة، مشت ليلى إلى حيث يجمع الآخرون الجثث..
راحت تردد كلمات تلك القصيدة التي قرأتها منذ أيام واستقرت بقلبها..
"لا تُصالِحْ ولو مَنَحوكَ الذَّهَب
أَتُرى حينَ أفقَأُ عينيكَ
ثمَّ أثبِّتُ جَوْهَرتينِ مكانَهُما
هل تَرى؟
هي أشياءُ لا تُشْتَرى"..