الأحد ٣٠ أيار (مايو) ٢٠١٠

لكل مقام مقال

الدكتور محمد عبد الله الجعيدي

كما تعلمون أيها السادة الحضور، في كل عود على بدءٍ، يكون لكل مقام مقال؛ وفي عودنا نحن القادمين من الخارج، عود الغائب على أهله ووطنه، اجتزنا المضيق، من العُدوة الأندلسية، إلى هذه الديار المغربية، ومنها إلى فاس إدريس الثاني وبني مرين وفاطمة الفهرية، ومن فاس التاريخ والرجالات ودار العلم إلى حضرة القرويين، حصن الدين، وأول جامعة، بالمفاهيم الدراسية المعاصرة، عرفتها البشرية. إنها حقيقة تاريخية، وشهادة غربية من المستشرق الفرنسي جورج دلفان، المتوفى في الجزائر سنة 1922، في كتابه "فاس وجامعتها والتعليم العالي بها"، المطبوع سنة 1889، كما هي شهادة شرقية من الشيخ الإمام محمد الكتاني (المدينة المنورة 1332هـ/1914م - الرباط 1419هـ/1999م)، في كتابه "فاس: عاصمة الأدارسة".

أجل أيها السادة الحضور، بعد قرنين إلاَّ تسع سنين من شموخ القرويين، تأسست، بالأخذ والتقليد، جامعةُ ساليرن الإيطالية المعروفة بمدرسة نابولي كأول جامعة في أوروبا سنة 1050م، ثم جامعة بولونيا للحقوق بإيطاليا سنة 1088، وجامعة باريس سنة 1180م، وجامعة بادوا سنة 1222م، وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة 1243م، وجامعة أكسفورد سنة 1249م، وجامعة كمبردج سنة 1284م.

وهاته هي القرويين، أو القروانيين في بعض التخريجات، جامعة الأمس واليوم ترعى هذه الندوة العلمية الدولية، حول "الطفل المغربي في المهجر"، ببرنامج حافل تنوعت فيه الموضوعات والتخصصات والمشارب، وتعددت فيه أيضاً أماكن قدوم المشاركين وتوزعت على أقطاب المعمورة الأربعة.

هي ندوة شملتها العناية الإلهية والرعاية الملكية، ووفرت الأسباب لها لجنة تحضيرية وأيادٍ بِيض خيرية.
فأي مقال، أيها الأخوة الوافدون، كما سائر المشاركين، مهما بلغت فصاحة المتكلم باسمكم، يفي بمقام حضرة القرويين البهية؟....

في مقام هذا المنار الذي يهدي كبريات السفن في أعالي البحار، ماذا يقول، أيها الجمع الكريم، زورق صغير تائه بلا مجداف؟

أيقول كما قال عبد الهادي التازي (فاس 1921-) في رسالة دكتوراه قدمها لجامعة الإسكندرية سنة 1971 بعنوان "جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس"، إنه بعد إنشاء جامع عقبة بالقيروان سنة 50هـ وجامع الزيتونة بتونس سنة 73هـ؛ وبالتحديد في رمضان سنة 245هـ / 30 يونيو 859م وهبت السيدة فاطمة، وثمة مَن يضم إليها شقيقتها مريم، كلَّ ما ورثته، عن أبيها الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله الفهري القيرواني الحجازي، لبناء هذا الجامع، ولما كانت البلاد تمر بموسم جفاف والناس في مجاعة، فقد أوفت فاطمة بما تعهدت به من استخراج كل موارد البناء من الموقع نفسه، واحتبست صائمة ثمانية عشر عاماً، حتى تم معماره، في ذي القعدة من سنة 263 هـ، وصلَّت فيه شكراً لله؟

لم يكن صنيع فاطمة عملا استثنائيا ولا غريبا، فقد تعاقب عامة الناس وخاصتهم، على إهداء أموالهم وتحبيس ممتلكاتهم لفائدة القرويين كلما احتاج ودون أن يحتاج، ولئلا يحتاج القرويين لعطايا استقواء ممنونة، وانطلاقاً من إدراك العامة والخاصة لتلك الحقيقة أغدق المحسنون والعلماء والموسرون عليه من "خير وأنظف وأسلم" ما يملكون حتى يحموا مبدأه ويحفظوا شرفه، إلى أن غدا أغنى شخص "معنوي" في الديار المغربية، وصمد بجامعته التي ترعرعت وأينعت في فاس، شجرةً مباركةً يفيء إلى ظلها ويأكل من ثمارها المقيمُ والوافد وعابر السبيل.

بعطاء المجتمع وماله الحلال، ارتفع صرح جامعة القرويين مؤسسةً تعليمية وعلمية ملحقة بجامع القرويين أو جامع الشرفاء، بيتاً لله وداراً للعلم وحيدةَ عصرها، عمومية لكل التحصصات والأجيال، ولا غرو أن تسمى جامعة، لأنها مكان يجمع طلاب العلم من دارسين وحرفيين وموسيقيين، وأطفال وكهول، وإناث وذكور، وولاة وقضاة، تتقاطع فيها علوم الدنيا بعلوم الدين، ويشد الرحال إليها طلاب العلم والعلماء والأساتذة والفقهاء، من مشارق الأرض ومغاربها، وكيف لا يكون ذلك وقد بقي الجامع وبقيت المؤسسة العلمية الملحقة به مركزا للنشاط العلمي والفكري والثقافي والديني لقرون وقرون، حتى برَّزت في دنيا العلم والمعرفة والحكمة أسماء أسر فاسية منها آل الكتاني والصقلي والفهري والبلغيثي وسودة والعراقي وكنون، وآخرون من دونهم، كتبوا جميعاً بيراع إسلامي، في التاريخ الأنساني، صفحات من نور.

تعلم في أروقة القرويين وتخرّج أعلام ومشاهير مثل غربيرت دورياك (سيلفستر الثاني) الذي شغل منصب البابا (999-1003م)، ويقال إنه أدخل بعد رجوعه الأعداد العربية إلى أوروبا؛ وأقام فيها معلماً ومتعلماً أعلامٌ مثل مؤسس علم الاجتماع المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون، وذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب، والقطب محيي الدين بن عربي، والفيلسوف ابن ميمون، والفقيه المالكي أبي عمران الفاسي، وابن رشيد السبتي، وابن مرزوق، وابن الحاج الفاسي، وابن ميمون الغماري؛ وزارها ومكث فيها أيضاً الطبيب ابن زهر الإشبيلي مرات عديدة؛ وفيها دوّن ابن آجروم كتابه المعروف في النحو؛ وإليها نُسب من أهل فاس فقيه أهل القيروان في زمنه أبو عمرو الفاسي، وأشهر رياضيي عصره ابن البناء المراكشي، والطبيب اللغوي الأندلسي المتوفى في فاس أبو بكر بن الصائغ الشهير بابن باجة؛ وتخرج منها فقهاء المذاهب الفقهية السنية؛ كما درس فيها من المعاصرين ودرَّس أفذاذ منهم الزعيم المفكر علال الفاسي الفهري (فاس 1910- الرباط 1974) والعلاّمة الموسوعي عبد الهادي التازي والشيخ محمد بن حماد الصقلي (فاس 1930-).

منذ العصر الإدريسي إلى زمن الناس هذا، امتد إشعاع القرويين العلمي، راعياً للعلوم الشرعية والعقلية والطبية والحياتية، وعُرفت عنه منهجيته العلمية، وأعتُبر كرسي العلم فيه والأستاذية ولاية حكومية عليا، كالوزارة والقضاء والفتوى، يُعيَّن متبوؤها بظهائر سلطانية ويتلقى من إدارة الحبوس مرتباته الرسمية، وبهذا النظام أخذت جامعات العالم أجمع، حتى يومنا هذا؛ نعم فمن كرسيَ سيبويه بالقرويين، درَّس ابن إدريس العراقي، إمامُ نحاة عصره، علومَ النحو؛ وفي فاس العامرة، عاصمة أفريقيا والأندلس، جمع عبد الواحد الونشريسي بين الولايات الثلاث: الفتيا والقضاء بها والتدريس بالقرويين؛ فلا عجب إذاً أن تشيع بين علماء فاس وأهلها مقولة "وُلد العلم بالمدينة، ورُبي بمكة، وطُحن بمصر، وغُربل بفاس". فعن ذلك هل سآلنا، أيها السادة، ما كتب عنها وفيها، ويربو عن خمسين مجلدا، منها كتاب الإمام محمد بن جعفر الكتاني "سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس" حتى سنة 1316هـ / 1894م. ألم يقل فيها المراكشي إنها "حاضرة المغرب وموقع العلم منه، اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة" وإنَّ العلم ينبع من صدور أهلها، كما ينبع الماء من حيطانها.

هكذا سكنت فاس القلوب والعقول، وتألقت حاضرةً، وفي أحضانها سما دور القرويين التربوي والعلمي والاجتماعي ونجح نهجها الوقفي، بمعناه المغربي، في تغطية نفقاتها على ذاتها وإعانة قاصديها، بل وفي إقراض الدولة عند حاجتها؛ هكذا توافرت أوقاف القرويين فأفاضت منها على سائر مساجد فاس وسرت أوقافها الزائدة حتى بيت المقدس لرعاية المغاربة فيه وتمكينهم من أداء ما عليهم من واجب في رعاية الأقصى مسرى النبي محمد ومعراجه، كما سرت حتى الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، ووصل فيؤها سائر المسلمين في أقطاب المعمور الأربعة. وفضُلت أحباس القرويين لتشمل مشاريع الإحسان والبر بكل نواحيها الإنسانية، واتسعت مواد سجلاتها حتى شملت الوقف على "قبر مجهول".
فقد كان الاهتمام بالوقف، كما جاء في كتاب: "فاس عاصمة الأدارسة"، (الصفحات:47-51)، أصلا مغربيا؛ فثمة وقف التزويج، ووقف الدواب المرضى، ووقف الحمامات، والمرستانات، ووقف الموسيقى الأندلسية، وأوقاف العرائس لتجهيز العرائس الفقيرات، ووقف الأواني للخدم الذين كسروا آنية من الفخار ليأخذوا بدلها سالمة، ووقف الديون للقرض الحسن، ووقف لطيور اللقلاق.

وفي هذا السياق المعطاء للتربية والعلم والعقيدة، وفي عهد السلطان أبي سعيد عثمان المريني (ت سنة 731 هـ)، كما يذكر التازي "أمرَ قاضي فاس، عندما شب الحريق في وثائق حجج الوقف سنة 723 هـ، بضم أملاك فاس كلها إلى القرويين ولم يستثن من ذلك إلا من أدلى برسم أو شهادة معادلة تثبت الملكية من قبل قباضة الحبس". وقام بالعمل نفسه، بعد ذلك أيضاً، قضاة وسلاطين وولاة، منهم المولى الرشيد (ت بمراكش سنة 1082 هـ) والمولى سليمان العلوي (ت سنة 1238 هـ).

بهذا دأب أهل فاس، لله درُّهم، على توسعة المسجد وترميمه ورعايته، ولا تزال صومعته الرحبة التي شملتها توسعة الأمراء الزناتيين، عمّال الخليفة القرطبي الناصر لدين الله عبد الرحمن الثالث على المدينة، قائمة في المسجد حتى اليوم كأقدم منارة مربعة في بلاد المغرب العربي.

تحتضن القرويين اليوم في كلياتها الأربع بفاس ومراكش وطنجة وأغادير سبعة آلاف طالب، أكثر من ثلثهم من الإناث، يجاز منهم سنوياً ثمانمئة خرّيج في علوم الشريعة واللغة العربية وأصول الدين.
وظلت القرويين، عبر تاريخها، حصناً للجهاد والممانعة، والثورة والمقاومة، وكان مجرد الاشتباه بالانتماء إليها، من قريب أو بعيد، ذريعةً كافية للمستعمر الفرنسي منذ فرض الحماية سنة 1912، لاعتقال الناس والتنكيل بهم، واقتراف المذابح في حقهم كمذبحه الثمانمئة شهيد التي ترتب عليها نقل المستعمر عاصمة البلاد إلى الرباط نقلاً إدارياً سياسياً، دونه العلم والثقافة والفكر والمجتمع، حتى لم يتردد الجنرال الفرنسي الغاصب لوي هوبير ليوطي في إسقاط نعت "البيت المظلم" عليها!
فأمام أي مقام نحن، أيها السادة الحضور؟

ذا نحن اليوم بين يدي القرويين، فهل وصلكم غيثها، أم جئتم بعد هيام لتُسقَوا فراتاً، من ينابيعها، وسلسبيلا؟
أجامعةَ القرويين حنانيك، إني في مقامك العالي أقف إجلالاً وأتأملُ.

أجل، أيها الأخوة، أين نحن اليوم من إنجازات هذا السلف العبقري المعطاء صاحب الحكمة والمعرفة والنخوة، وماذا تعلمنا منه ومنها، أنموذجاً للتربية والتعليم، والادارة والقيادة، ورعاية العلم، وحفظ الكرامة، ودور المرأة المسلمة في مجتمعها بناءً وعطاءً وعفةً! وكيف لا وقد نبغت في أروقة القرويين عالمات وأديبات وسياسيات وفقيهات وقارئات ومحدِّثات؟

نعم أيها السادة، سلوانا، في زمن العولمة والانترنت، زمن الانكسار السياسي والخواء الفكري والجفاف الأخلاقي، هي أنَّ احتضان القرويين واستنهاضها لإحياء دورها في مواجهة المتغيرات الفكرية والعلمية والسياسية التي تسود عالم اليوم هو ديدننا؛ وأنَّ أم البنين فاطمة الفهرية، كما ابنتها زينب الإسعردية العالمة المبرِّزة في أصول الدين والحديث والتفسير، المتألقة بدروسها في أروقة الأزهر والأموي، أكبر مساجد عصرها (المئة السابعة للهجرة)، لا تزال حاضرة فينا وبيننا، تتراءى لنا مآثرُها في منجزات حفيدتها حكيمة الحطري الفهرية، رئيسة اللجنة المنظمة لهذه الندوة العلمية الراقية. فلها، باسمي وباسمكم، ولفريقها الباحث في قضايا المرأة والطفل فقهاً وقانوناً، بشريعة القرويين الفاسية، ولكل من ساهمَ في الإعداد لهذا الملتقى وإنجاحه، كل التقدير والعرفان؛ ولكم أنتم الشكر على حُسن الإصغاء. والسلام عليكم.

كلمة ألقيت، في قصر المؤتمرات بفاس، صباح أربعاء 12/5/2010 م، في الجلسة الافتتاحية، للندوة العلمية الدولية: "واقع الطفل المغربي في المهجر بين أحكام الشريعة الإسلامية والتشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية" التي رعتها جامعة القرويين.

الدكتور محمد عبد الله الجعيدي

الدكتور الجعيدي: أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة مدريد رئيس اللجنة الدولية لحقوق اللغات والحوار بإسبانيا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى