

لن نهزم
غَطَّتْ غيمةٌ كبيرةٌ من الدُّخانِ الأسودِ سماءَ القريةِ. منعتِ الشَّمسَ، كما منعتْ ضوءَ القمر. وقفَ الأطفالُ وصرخوا في وجهها:" اغربي من هُنا فقلبكِ من حجر". ردَّتْ عليهم ببرقِها ورياحِها القويَّةِ، ضربوها بالحجارةِ، فأمطرتهم بوابلٍ من حبَّاتِ البَرَد، خربتْ أماكنَ اللعب، ولمْ يسلَمْ من شرها أحد.
تَحَدَّت السَّيدة دوبارةُ الغيمةَ، وصرخت في وجهِها:" لن نهزم، ولن أسمحَ لك بتخريب حياتنا أبداً". ضمتْ أولادَها إلى صدرِها وجمعتْ ما لديهَا من بذارٍ وشرعوا في العملَ ليلَ نهار. زرعوا الأرضَ وغرسُوا الأشجار. كانَت الغيمةُ تخربُ لهم زرعَهم، وتهدمُ لهم بيوتَهم ولكنَّهم تابعوا العملَ بكل إصرارٍ، وبعد كل هزيمةٍ كانَ هناكَ انتصار.
مضتْ سنواتٌ وسنواتٌ منَ الفقرِ والجوع. أكلَ النَّاسُ الخبزَ المبلول، مع ما وجدوهُ في الحقولِ، كحبةِ بندورةٍ أو باذنجان، هذا ما كان بالإمكان، تعبَ النَّاسُ، وغارتِ العيون، هربتْ الابتسامة حتَّى منَ الوجهِ البشوش. كما هربتْ منَ الجيوبِ القروش. هاجرَ الرجالُ، تسبقهُم آمالُ تحسينِ الحال. تفرًق الأحبةُ وتشتَّتِ العائلاتُ، وسميَّتْ القريةُ بقريةِ الحَزَانى.
وكانَ حالُ الصغارِ كحالِ الكبار إلا أولاد السَّيدة دوبارة: رِضَا وأختاهُ حنانٌ ونعمةٌ، والصغيرُ سعيدٌ. صحتهم جيدةٌ ووجوههم موردةٌ وعيونهم لامعةٌ، ما السر يا ترى؟
اشتكى بقيةُ الأولادِ إلى أمهاتِهم، من الخبزِ الحافِ، والبرغلِ والباذنجانِ. بينما رضا وإخوته يأكلون أشكالَ ألوان. قالَ عمادٌ لأمه شاكياً:" اليوم أكلوا الدَّجاجَ". ردَّتْ والدتهُ غاضبة:" ومنْ أين أتت دوبارةُ بالدَّجاجِ؟ فهي لا تملك صوصاً واحداً".
بكى فادي الصَّغيرُ وقال:" البارحةُ تناولوا أكلةَ القمر".
نهرتهُ والدتهُ وصاحتْ:" القمر! وهل سيتركُ السَّماءَ لأجلِنا؟". همستْ لينا:" سمعتهمْ يتحدثونَ عن أكلةِ النُّجومِ".
تأففت والدتها وصاحتْ:"(عشنا وشفنا) من أين تأتي دوبارةُ بهذا الكلامِ؟".
اجتمعتِ النُّسوةُ في بيتِ إحداهنَّ. وبعدَ نقاشٍ وجدالٍ وتبصيرٍ بالفنجانِ. قَرْرنَ مراقبةَ السَّيدة دوبارة، بالليلِ والنَّهارِ لمعرفةِ كلّ الأسرارِ.
وقبلَ شروقِ الشَّمسِ اختبأتِ النُّسوةُ فوقَ شجرةِ الزَّيتونِ المجاورة لبيتِ دوبارة.
ومعَ أولِ خيوطِ الشَّمسِ، كانت دوبارةُ تعجنُ وتخبزُ، مرددةً صلواتها العذبة، لتبعدَ الشَّر وتجلبَ الخيرَ. تنادي أولادها:" أفيقوا يا صغاري، فلدينا زائرٌ جديدٌ".
أفاقتْ حنانُ وتلفتتْ حولَها وقالت:"من هو يا أمي؟ فأنا لا أرى أحداً".
أجابتها:" ألمْ تسمعي صوتَ خشخشةِ مفاتيحهِ؟". نهض رضا، وفرك عينيه، سأل أمه:" خشخشة مفاتيح! لأي باب يا أمي؟". ضحكت دوبارة وأخبرته:" إن ضيفنا هو الصبحُ الجديدُ، جاءَ ليفتحَ بابَ يومنا هذا. فلندهن خبزنا بنسماتهِ العليلةِ، ونحمدِ الرَّبَ على نعمهِ الجليلةِ". فرحَ الأولادُ وتناولوا خبزهم المدهون بالزَّيتِ والزَّعترِ شاكرين.
ومن بعيدٍ همستْ إحدى السَّيداتِ لصديقاتها وهي تنظرُ بالمنظارِ:" لا شيء جديد، إنَّها تخبزُ وتعجنُ مثلنا تماماً".
وعندَ الغداءِ كانت دوبارةُ تكتلُ البرغلَ المسلوقَ كراتٍ صغيرةٍ، وتعجنهُ بالبصلِ وتزينهُ بالبقدونسِ والبندورة. وتروي للصغارِ قصَّةَ القمر الذي أحبَّ حبةَ القمحِ، وعندما غابتْ في التُّرابِ، بكى لفراقِها وغاب، فارتوتْ بدموعهِ، وتدفأت بأشعةِ الشَّمسِ، لتطلَ كسنبلةٍ ذهبيةٍ. شاهدها الفلاحُ فحصدَهَا وطحنَهَا وعجنهَا. فصارتْ رغيفَ خبزٍ يشبهُ القمرَ المنير. تعجَّبَ رضا وقال:" كلهم اجتمعوا لإطعامنا!".
صاحَ سعيدٌ:" الشَّمسُ والقمرُ والمطرُ". أكدَّتْ دوبارةُ:"أجل كلهم يحبوننا".
همستْ نعمةٌ:" سبحانكَ يا ربي، لكل هذا الحب".
وفي اليومِ التَّالي، كانت دوبارةُ تطبخَ الباذنجان، وتحكي للأولادِ، كيفَ هربتِ الدَّجاجةُ منَ الثَّعلبِ، واختبأت خلفَ شتلةِ الباذنجانِ، وعندما عاد الأمانُ عادتِ الدَّجاجةُ إلى قنّها وبقيتْ أفخاذها عالقة.
هتفَ سعيدٌ:" الباذنجانُ يشبهُ أفخاذَ الدَّجاج".
صاحَ رضا:" مقلي أم مشوي هاهاها".
ضحكت حنان:" هاهاها، محشي ومكبوس".
هتفتْ نعمةُ:" أشكالٌ وألوانٌ، من حبَّةِ الباذنجان".
قالتْ دوبارةُ بامتنانٍ:" فلنحمدِ الرَّبَ ونشكره".
وفي اليومِ الذي يليهِ، كانتْ دوبارةُ وأولادها يقطفونَ الخبيزةَ. وتحكي لهم عن السَّاحرةِ الطَّيبةِ بكيزة، التي بحثتْ ودارتْ عبرَ النجومِ؛ لتحضرَ نبتةً تزيلُ الهموم.
فأهدتهَا النَّجمةُ، بذوراً سحريةً، تنمو بحريةٍ حولَ البيوتِ وفي الحقولِ، وأسمتها الخبيزة. تساءل سعيد:" ومن علمكِ طبخها يا أمي؟". أجابتْ دوبارة:" أخبرتني النُّجوم". استغربَ رضا وقال:" وهلْ تتكلم النجوم؟!". قالتْ دوبارةُ:" تخبرُ النُّجوم أسرارها، لمن يصغي لها". نظرتْ حنانُ إلى السَّماءِ وهمست:" من الآن وصاعداً سأصغي لحديثِ النُّجوم".
وبعدَ عدَّةِ أيامٍ تعبتْ النُّسوةُ منَ المراقبةِ، وذهبنَ على عجلٍ.عَجَنَّ وفَرَمْن وكَتَّلن وقُلنَ:" هذا سهلٌ".
ولكنَّ ذلك لم يعجب الأولاد. صاحَ فادي:" عدنا للبرغلِ والباذنجان". تأففت سمرٌ وقالت:" أف وخبيزة كمان، هل سيطولُ هذا الحال؟".
احتارتْ النُّسوةُ أكثر وأكثر، فقررن الذهابَ لزيارةِ السيدة دوبارة، راجيات منها الإفصاحَ عن سر تدبيرها. استقبلتهنَّ دوبارة في بيتها الصَّغير وأخبرتهنَّ:" أنا مثلكنَّ أطبخُ بالقليلِ". فقاطعتها إحدى السَّيدات:" وهل يمكن للقليلِ أن يكونَ كافياً؟". ابتسمت دوبارة وقالت:" وهل تُحَضّرنَ الطعام بلا حكايةٍ ولا حمدٍ؟".
قالت إحدى السَّيداتُ بحزنٍ:" ما فائدة الحمد والحكايات، نريدُ أولا أن نملأ البطونَ الجائعةَ".
وبحنانها المعتاد ردَّتْ دوبارةُ:" بالحمدِ والامتنانِ نرى ما لدينا من خيراتِ السَّماءِ، أما الحكايات فتملأ الخيالَ، وتزرعُ الأملَ".
نهضتْ دوبارةُ إلى المطبخِ، وقدَّمتْ لهنَّ حلوياتها الشَّقراءَ والسَّمراءَ.
ضحكنَ وقلنَ:" ما هذه؟ ما ألذها!".
قالتْ لهم دوبارة:" سأخبركنَّ بسر".
حدقنَ بفضولٍ:" سر! ؟".
همست دوبارةُ:" اشتكتْ حبتا المشمشِ والتينِ إلى الشَّمسِ، وأخبرتاها بأنَّ موسمهما قصير، وفيهما من الخيرِ الكثير، فكيفَ لهما أن تطعما الإنسانَ، صيفاً وشتاءً.
فهمتِ الشَّمسُ كلامهما، وباحتْ لهم بسرها. فهي ستنامُ طويلاً في الشتاء. واتفقوا أن تخبئ الشَّمسُ أشعتها في ثمارِ المشمش، وتصنع منه قمر الدّين. وتجففَ التينَ لتزيد حلاوته مرتين".
ضحكت النُّسوةُ واستمتعن بالطعمِ الحلو اللذيذ، قالت إحداهن:" حكاياتكِ تزيدُ الطَّعمَ حلاوةً، وأصبحنا نرى أشياءَ لم نكن نراها". ابتسمت دوبارةُ وقالت لهنَّ:" طالما أعجبتكنَّ الحكايات فستعجبُ أولادكنَّ أيضاً، فالحكاياتُ غذاءٌ للروحِ المتعبةِ".
ومنذ ذلك اليوم أصبحتْ النساء في تلكَ القريةِ تروي الحكايات، وتغني أجملَ الأغاني، وتعدُّ ألذَّ الطبخات. يشاركهنَّ الأطفالُ العملَ والغناءَ. يأكلون مما يزرعون، وللرَّبِ شاكرون. فأتى الزُّوارُ، وقطعوا المسافات، لسماعِ الحكاياتِ، وتناولِ أغربِ المأكولات. ازدهرتْ أحوالُ القريةِ وتحسَّنَ الحالُ. عادَ الرجالُ بعد طولِ غيابٍ، والتقى الأحباب. وسميتِ القريةَ بقريةِ الحكاياتِ.
أما الغيمةُ الدُّخانيةُ فقد نسي أمرَها الجميع، رحلتْ بعيداً، كحلمٍ قديمٍ، ربما لم يحكِ لها أحدٌ حكايةً أبداً، ألم تنسوها أنتم أيضا؟