الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ‎⁨باسم بن جدية

ما أجمل وطني وما أرقّه في زمن ما قبل كل شيء

معانقًا رفات كتاب ثورة الجزائر الرثّ في ليلة شتوية، يتسلل طيف الإلهام خلسة من شباك غرفتي القديم، هامسًا في أذني، معكّرًا صفوها. يقول إنني أول رجل من حقبة ما قبل كل شيء يسافر إلى الماضي، يترنّح كثمل أنهكه كتمان حبه على أنغام "القصبة" لعبد القادر شاعو تارة، ويستعيد وعيه حين يلامس السحاب من على قمة "جبل الأوراس" تارة أخرى، وتحت ظلال "شجرة الدردار" التي لطالما سقت دماء الشهداء جذورها لتمتد أفرعها فوق أسقف بيوت أهاليهم يجلس متأملًا "حياة البدو" كما عاشها أجداده، وخلّدوا فكرة أن لاشيء يقتل البدوي، غير رصاصة يتلقاها دفاعا عن مبدأه وقضيته.
يغمض عينيه، فيرى انعكاس "الطيارة الصفراء " ضبابيا في عيون المجاهدين المغرورقة ، ويسمع صدى "إلياذة الجزائر" لمفدي زكريا يتردد بين أزقة القصبة ودُورِها، ليذكرهم بصمود وبسالة مجاهديهم وكيف أن صخور الجبال الوعرة تلين ممهِّدة لهم طريق الفرار بعد أن ضربوا ضربتهم وأردوا بعدوهم طريحا. يسند رأسه إلى نافذة «كاليشٍ» يقصد أحياء القصبة ، فتمر عليه مشاهد من مسلسل "الحريق" لسنة ١٩٧٤، ويخترق صوتُ صراخ مفاده: "ياو عليكم من ڨالمة!" ففزع، لكنه استعاد هدوءه حين عرف أنها مجرد "دورية نحو الشرق" يقودها رجال أشاوس، أبطال، لا يخاف من يحاذيهم.

رجالٌ ضحّوا بالغالي والنفيس ولو كان قطعة خبز، فداء وطن عُقد وعدُ أن لا يجوع أحد فيه، ينزل من القطار ليجد "عذراء الجبل" من عام ١٩٨٥ في انتظاره، تومئ له ليتبعها نحو "دار السبيطار"، لتقابله "لالا عيني"، والكرم يسيل ملموسًا من بين أصابعها وهي تحمل إليه رغيف "كسرةٍ" يسكت به جوع الطريق، ثم تنتقي له أجمل "برنوس" صنعته أروع الأيادي، ليلتحفه ويتوجه نحو "ساحة الشهداء" بالعاصمة، ليزاحم الرجال ويشاركهم احتفالاتهم بأعظم نصر شهدته الجزائر، إذ حرّرها أبطالها من استعمار عمّر الأرض لمئة وثلاثين سنة، أو بالأحرى سلبها وأفناها.

أفتح عينيّ على صراخ في شارعنا، مفاده: "باعوها يا علي!" لقد كان ابن علي جاري، يخبر أباه أن أفراد العائلة قد اجتمعوا ليقتسموا ميراث أبيهم، وباعوا البقرة التي طالما رعاها وأحبها، وأفنى ثلث عمره يشرب حليبها ويُشرب منه. لم يكن يعلم أن الزمن لا يحفظ العهود، ولا يبالي بالتضحية حين يصبح لكل شيء ثمن، لم يكن يعلم أن ما سُقي بالدم قد يُحصد بالدم أيضا. حتى جاءه صوتٌ يمزّق السكون. باعوها يا علي، وقسّموا حلاوة مالها بينهم، ونسوك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى