السبت ١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

حكاية الرجل المهموم.. والبلابل التي رباها البوم!

هبط العفريت بالسندباد، في أحد شوارع بغداد، وتركه لكي يرتاح بعد أن أن طال السهاد، أما المجنون فقد أهداه العفريت نوعا جديدا من بساط الريح، لكي يطير على هواه دون إذن أو تصريح، وهكذا طار المجنون، يرى ما لا يراه العقلاء الخائفون، حيث رأى أن ميزان العدل قد اختل، بعد أن تزحلق الصبح في بئر الليل، ولم يعد الناس يميزون العسل من الخل، وكل منهم يزعم أن لديه أفضل حل، لعلاج الجسد المعتل!

«كلهم يكذبون..»... هذا ما سمعه المجنون، فنظر من فوق إلى تحت، تجاه مصدر الصوت، فرأى طفلاً عنيداً يمسك بحجر، ويقذفه على شياطين البشر، ورأى أجساداً تحت الأنقاض، وفوق الأنقاض رأى نهر الدم وقد فاض، ورأى - من بعيد - رجالاً يتصافحون ويتعانقون، وبعد قليل رآهم يجلسون ويتنحنحون، وكل منهم يتحدث عن رابطة الأخوّة، وعما لديه من قوة، لكنهم يؤكدون أن اللطف أجمل، وأن التحلي بالصبر أفضل، وهنا استمع المجنون، إلى صوت آتٍ من ضباب القرون:

«يسوسونَ الأمورَ بغيرِ عقلٍ وينفذُ أمرهم فيقالُ: ساسة فأفِّ من الحياة وأفَّ مِنِّي ومن زمن رياسته خساسة»

التف المجنون بشيء من الخوف، وقال لصاحب الصوت الذي وصف الجميع أجمل وصف..

 ياعم.. أو يا جد.. من أنت ومن أين أتيت؟

> أنا في مكاني لا أزور أحدا ولكن قد أزار، منذ أن فرضتُ على نفسي العزلة داخل أسوار.. أنا «رهين المحبسين».. فقدتُ نور العينين.. لكني أرى بنور البصيرة.. كل ما يدور في دنياكم الكبيرة.. أرى مَنْ صان.. وأرى مَنْ خان!.

... سكت رهين المحبسين، وذرف المجنون دمعتين، بعد أن عرف من رجل مهموم، حكاية «البلابل التي رباها البوم»:

«أُنبئتُ أنَّ سليمانَ الزمان ومَنْ

أصبىَ الطيور، فناجته وناجاها

أعطى بلابلَه يوما - يؤدبها

لحرمةٍ عنده - للبوم يرعاها

واشتاق يوما من الأيام رؤيتها

فأقبلتْ وهي أعصى الطير أفواها

أصابها العيُّ حتى لا اقتدارَ لها

بأن تبث نبيَّ الله شكواها

فنالَ سيِّدَهَا من دائها غضبٌ

وودَّ لو أنه بالذبح داواها

فجاءه الهدهد المعهود معتذراً

عنها، يقول لمولاه ومولاها

بلابلُ الله لم تخرسْ ولا وُلِدَتْ

خُرساً، ولكنَّ بوم الشؤم ربَّاها»

.. اغتاظ المجنون حين عرف أن البلابل قد أصبحت خرساء، ولم تعد تغمر الأجواء بالغناء، وهكذا قرر أن يهبط ببساط الريح، وهبط بالفعل قرب بيت جميل فسيح، لكنه سمع بكاءً غريب الإيقاع، فدفعه حب الاستطلاع، لأن يهيىء أذنيه للاستماع، وهكذا عرف المجنون حكاية، من الحكايات التي ليس لها نهاية. ها هو المجنون يسترق السمع، وعيناه تفيضان بالدمع، بعد أن درى بما قد جرى، حيث اندفعت من داخل البيت الجميل والفسيح.. كلمات تختلط بتنهدات قلب جريح.. أما صاحب القلب الجريح فهو رجل هندي جاء للعمل، وكان في قلبه أمل، وها هو الآن يحكي لزوجته، عما تسبب في محنته، ففي خارج البيت «دعموه» وداخل البيت ضربوه و«كفخوه» ثم هددوه بأن يطردوه و«يفنشوه».

الحكاية حكاية إنسان أصبح رمزا لذل الناس، وهي حكاية لا تهم إلا من لديه إحساس، وقد سجلها المجنون، على لسان الخادم الآسيوي المحزون:

قلت «أَطْشَا» وهززتُ الرأسَ هزَّا

وإلى السوق طويتُ الأرضَ قفزَا

جالبا كرتونَ بيضٍ وثياباً

عند «دوبي» و«دياياتٍ» وخبزَا

مُطْلقا ساقيَّ «بالسيكلِ» أجري

دون «لِيتٍ» أكسرا الخاطرَ غمزَا

وإذا بي «طايحٌ» في Big Broplem

«دعموا» السيكلَ دعماً مستفزَّا

والثياب البيض صارت مثل وجهي

وجموع الناس تهرينيَ «طنزًا»

ووجدتُ البيضَ «معفوسا» بقربي

ومن الساقِ دماء تتنزَّى

ثم لمَّا عدتُ للدار جريحاً

لم يُصدقْ سيدي وانقضَّ لكزَا

وتولاني بشتمٍ بعد «كفخ»

ثم جزَّ الشَّعر من رأسيَ جَزَّا

قال لي «يا سَرْسري» مالَكَ عيشٌ

ها هنا فاذهبْ لهز الرأسِ هزَّا

فاشهدي يا زوجتي سوءَ مصيري

إنني صرتُ لذلِّ الناسِ رمزَا

حكاية الرجل المهموم.. والبلابل التي رباها البوم!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى