الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

عنترة بن شداد.. ينهض من الرماد.. بعد طول رقاد

هو فارس شجاع ونبيل.. وفضلا عن هذا فإنه شاعر عربي جميل.. وقد غاب هذا الفارس الشاعر منذ عدة قرون.. ولكنه ظل يعيش في قلوب الذين يتذكرون.. وبأشعاره يترنمون.. وبوفائه لابنة عمه يتأثرون.. وفجأة شوهد الفارس الشاعر وهو ينهض من الرماد.. بعد طول رقاد.. تماما مثلما يفعل طائر الفينيق.. حيث يحرق جسده العتيق.. ليخرج من الرماد ممتلئا بالحيوية.. بفضل روحه المتجددة الحية.

من مظهره المهيب.. ولونه الأبنوسي العجيب.. أدرك المجنون أن الرجل الذي ينهض من الرماد.. لا بد أن يكون عنترة بن شداد.. فاندفع نحوه المجنون بكل ثقة واعتداد.. وحاول أن يقبل يده من فرط الزهو والطرب.. لكن عنترة أفشل المحاولة بأدب.. وقال للمجنون إن على أبناء العرب.. ألا يقبلوا الأيادي.. وإنما عليهم أن يمزقوا أجساد الأعادي!.

اطمأن عنترة على وجود سيفه بجواره.. وانطلق على الفور كي يبحث عن أهله ودياره.. وحاول أن يتذكر دار «عبلة».. وكيف كان يتشوق إليها كل ليلة.. وطلب المجنون من عنترة أن يسير معه.. لأنه يحبه ويريد أن يتبعه.. ورحب عنترة بالمجنون.. لكنه حدثه بما في نفسه من ظنون..

| أين سيفك أيها الفتى العربي؟

 يا سيدي.. بكل أسف.. ليس عندي سيف!

| أهذا معقول؟.. ما هذا الذي تقول؟.. لا بد من وجود السيف.. لحماية العرض.. وصون الحق والأرض.. كيف تحمي عيالك دون سيف.. وكيف تواجه ما قد تواجه من عنف.. وكيف ترد كيد الأعداء.. إذا أقبلوا في الليلة الظلماء؟.. لا بد من وجود السيف.

 لدينا من السيوف.. بدل الواحد ألوف.. ولكنها لا تستعمل إلا للزينة.. وكثيرون الآن يفاخرون بما لديهم من سيوف الزينة.. ما دامت سيوفا ثمينة!.

.. ضحك عنترة ضحكة زلزلت الصخر.. وقال بكل ثقة وفخر.. أما أنا فلن أنزع عني هذا السيف.. في برد الشتاء أو حر لصيف.. السيف صديقي.. السيف رفيقي.. وبالقرب من دار عبلة تأمل عنترة ما أمامه.. مما أثار دهشته واهتمامه.. فقد شاهد وجوها أجنبية غريبة.. يرتدي أصحابها ملابس غريبة.. وهم يحملون أشياء غريبة.. تبدو كالسيوف.. لكنها ليست بسيوف.

بعد دقائق وجد عنترة والمجنون رجلا عربيا يقترب منهما.. وبعد أن سلم عليهما.. دعاهما إلى داره ليشربا القهوة.. ورحب الإثنان بالدعوة.. ودخلا ليجدا ما يعرفه المجنون وما يجهله عنترة.. حيث وجدا ضيوفا يجلسون.. وبعيونهم يتأملون.. ما يرون على شاشة التلفزيون.

استبد بعنترة الفضول.. فأخذ يسأل عن كل شيء يراه.. مما لم يكن قد رآه.. منذ أن غاب عدة قرون.. بينما اندهش كثيرون.. من الأسئلة العجيبة المحيرة..التي ظل يطرحها عنترة.. وبعد أن عرف الكثير مما هو عجيب ومثير.. استأذن هو والمجنون.. حيث خرج الاثنان في وجوم وسكون.. وإذا بعنترة ينشد قصيدة.. يقارن فيها بين دنياه القديمة والدنيا الجديدة:

ما أَعجبَ التلفازَ مِنْ متكلمِ

يأتيكَ بالخبر الذي لم تَعْلمِ

الشاشةُ البيضاءُ تنبض حيةً

وكأنها وجهٌ تورَّدَ بالدمِ

ياليتَ عبلة في جواري كي ترى

ما قد أتاحَ العلمُ بعد تَقَدُّمِ

صار البعيدُ بقربنا فأمامَنَا

كلُّ العوالمِ في جهازٍ مُحّكَمِ

إني أرى قنواتِ دشٍّ أقبلتْ

وتزاحمتْ في الجوِّ بين الأنجمِ

وأرى وجوهاً رتبتْ مكياجَها

وأرى نساءً دون أي تَحشمِ

وسعارَ «جهازٍ» أحمقٍ يلهو بنا

وضجيجَ ألسنةٍ بغير مترجمِ

وبقرصِ ليزرَ تبدأ الحربُ التي

لا تتركُ الأطفالَ دون تَيتُّمِ

الحرب صارت لعبةً لمقامرٍ

أو جائرٍ أو طامعٍ في مغنمِ

الحرب صارت لعبةً ووقودُهَا

أجسادُ أهلينا بكل مخيَّمِ

وقوافلُ التعساء تعبر دجلةً

والنيلُ يبدو كالضريرِ الأبكمِ

ويظلُّ من يتفرجون كأنهم

يتنزهونَ على ضفافِ جهنمِ!

إني أرى مكرَ اليهود وغدرَهُمْ

ووعيدَ هولاكو بصبحٍ مظلمِ

«هلا سألتِ القومَ يا ابنةَ مالكٍ

إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي»

كنَّا نقاتلُ خصمنَا بشجاعةٍ

ويذوقُ طعمَ العارِ مَنْ لم يُقْدمِ

والآنَ.. والحرب التي لن تنتهي

يطغَى جنونُ لهيبها المتضرمِ

الآنَ.. نَامُوا يا أذلَّةَ عصرِكمْ

بعيونِ من سعدوا بشربِ العلقمِ

إني برئتُ من المذلةِ صارخاً

صوني ترابكِ «دارَ عبلةَ واسلمي»

عنترة بن شداد.. ينهض من الرماد.. بعد طول رقاد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى