الاثنين ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

المتنبي يتصدى للبراكين والحمم.. وخوفو يخرج من الهرم

بعد أذان صلاة العصر.. أخذ المجنون يتمشى قرب أهرامات مصر.. وهو يتأمل ما يحدث في كل عصر.. من هزائم ليس لها حد.. أو انتصارات مرصعة بالمجد.. وحين اقترب المجنون من أحد باعة الصحف.. استنشق رائحة أمطرته بالغثيان والقرف..

فوقف قليلا وياليته ماوقف.. حيث قرأ العناوين.. وأدرك انها لاتمدح غير الجبناء التافهين.. وبعد مشي متمهل طويل.. تقدم من المجنون شاب نحيل.. حيث أعطاه جريدة ممنوعة.. اسمها جريدة الحرية المقموعة .. وظل المجنون يقلب الصفحات.. وعرف ان ما سمعه ليس إشاعات.. فقد خرج الملك خوفو من الهرم.. لكي يحاسب كل من في مصر قد حكم.. ويعاقب كل من خان أو انهار أو انهزم.. ويكافىء الثوار على امتداد العصور.. ممن أحسوا بمعاناة الكادح والمقهور.. واضاءوا زمانهم بالعلم والإيمان والنور.

تحت أحد أعمدة النور.. قرأ المجنون عدة سطور.. تتحدث عن خروج خوفو من الهرم.. وكيف أنه أحس بقدر من الندم.. لانه خرج متخفيا من مكانه.. دون ان يودع أحدا من أهل زمانه.

.. خوفو مضى متخبطا في ليله.. متسائلا: هل هذه مصر التي أحببتها؟.. أم أنني أخطأت حين مشيت وحدي فانطلقت إلى بلاد غيرها؟.. أم أنه البصر الكليل بفعل آلاف السنين الضائعات؟.. وكيف يأتي الآن في الليل الدليل؟.. وإن أتاني ما عساه يقول؟.. ليست هذه مصر التي أحببتها.. وَهَوَى على الأرض الذليلة غاضبا.. فتشققتْ.. وتشبثتْ - من عارها - ببهاء روح غاربة..

تحرك المجنون بسرعة غير معهودة.. وخلال دقائق معدودة.. وجد نفسه واقفا امام رجل عملاق.. يتساءل لماذا احتجب النور في الآفاق.. ولماذا تظل الصرخة محبوسة في الأعماق..؟.. ومن هيئته الفرعونية.. وملابسه القصيرة العسكرية... أدرك المجنون أنه أمام خوفو العظيم.. فانحنى ليقدم له التحية والتعظيم.. لكن خوفو استوقفه في الحال.. وقال له: لا تفعل الا ما يفعله الرجال.. لقد خرجت من الهرم.. لا لكي أبعد عن نفسي السأم.. ولكن لأن رجلا من أصحاب الهمم.. جاء ليوقظني طالبا مني أن أقف إلى جواره.. ضد الشياطين التي تسللت إلى دياره.. ولهذا تراني الآن. أفكر كيف اساعده في صد العدوان.. حتى لو كان من الشيطان الأكبر.. الذي عرفت انه قد طغى وتجبر.| أيها الملك الجليل.. كيف تساعده وكل من حوله جبان أو مهان أو ذليل؟

 اذن.. فأنت تعرف هذا الرجل| لست متأكدا.. ولكن ربما عرفته.. لو أنني كنت قد رأيته.

 على كل حال، فإنه ينتمي لحضارة عريقة.. تماما مثل حضارتنا الفرعونية العتيقة.. فهو أحد أحفاد بابل وآشور.. وهو من صُنَّاع الحضارة العربية التي غمرت الدنيا بالنور.

بينما كان خوفو والمجنون يتحاوران. جلجل في الآفاق صوت عربي رنان.. يهجو كل ذليل وتابع مهان.. ويؤكد أن شجاعة الشجعان.. أساس العمل في كل ميدان:

«عيد بأية حالٍ عدتَ يا عيدُ»

والعزمُ مفتقدٌ والجبنُ موجودُ

كافورُ يا أجبنَ الفرسان قاطبة

أنت الذليلُ وفي الميدان مفقودُ

أنتَ الذي يُضحك الأطفالَ منظرهُ

فالوجه ضفدعة والحَلْقُ مسدودُ

لولاكَ ما رقدتْ مصر التي سهرتْ

عبر الزمانِ وفيها العلمُ مشهودُ

لولاكَ ما ارتكبَ الطاغي جرائمه

ولا تغلغلَ في احلامنا دودُ

إني أراكَ غريقاً في ضحالته

والخزي في وجهكَ المفضوحِ أخدودُ

.. أوشك المجنون على البكاء.. فاحتضنه خوفو دون إبطاء.. وسأله عما جرى.. فأنبأه بما كان قد درى.. وقال له إنه يعرف صاحب الصوت. ولا يتردد أحد في ذكره كل وقت.. فهو أكبر شعراء اللغة العربية.. وهو وريث الحضارتين الاشورية والسومرية.. وهو ابوالطيب المتنبي الأشم. الذي تتساقط على أرض وطنه البراكين والحمم. وهنا اكتسى وجه خوفو بالألم. وقال للمجنون ماذا أفعل الآن؟.. هل أعود من زمانك إلى ما كان. وارجع من حيث جئت.. أم ينبغي أن أجيب صاحب لصوت؟.. أعتقد جازماً أنه لا بد من الإجابة.. حتى تتبدد سحابة الكآبة.

المتنبي يتصدى للبراكين والحمم.. وخوفو يخرج من الهرم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى