السبت ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

لامية الفرات .. ترفض اليأس والسبات.. وتدعو الثوار للثبات

بصاروخه العابر للزمان.. انطلق المجنون رافعا راية العصيان.. ضد أشباه الرجال والخصيان.. حتى يتطهر الهواء من رائحة اليأس والخذلان.. واصطحب المجنون معه بوصلة منقولة جوا.. لكي تعينه إذا تاه قصدا أو سهوا.. وتقدم له خدمة مجانية.. تساعده على فهم الأهواء الإنسانية.. خصوصا أنها تضم أنباء أبناء الزمان .. ممن يحبون الخير للإنسان.. أو ممن يتلذذون بالعدوان.. ونشر الأحقاد والأضغان.. في كل الدول والأوطان.

في قلب الزمن النائي.. سمع المجنون اناسا يتحدثون عن رجل يدعى «الطغرائي».. وقالوا إنه يفوق كل من في العصر.. باجادته للشعر.. وإتقانه لفنون النثر.. فضلا عن كونه خبيرا بملامح الخير وأشكال الشر.. فنظر المجنون للبوصلة التي في يده.. ليعرف تفاصيل نشأته ومولده.. وفي أي مدينة كان.. فعرف ان الطغرائي قد ولد في اصفهان.. سنة 453 هجرية.. وانه من أسرة عريقة عربية.. وأما مهنته فهي العمل في دواوين الطغراء.. وهي الطرة التي يكتبها -عادة- رئيس ديوان الإنشاء.. حيث تكتب في أعلى الرسائل بخط غليظ.. يسر القارىء ولا يغيظ.. وفيها صفات وألقاب للحاكم أو السلطان.. كما جرت العادة في ذلك الزمان.

فجأة وجد المجنون نفسه امام رجل مهيب الطلعة.. يرتدي عمامة ليخفي الشيب أو الصلعة.. وكان الرجل في حالة استغراق.. ووجهه يفيض بالإشراق.. وهو يؤكد أن العمل.. هو الأساس في بناء أي أمل:

«أصالة الرأي صانتني عن الخطلِ

وحليةُ الفضل زانتني لدى العَطَلِ

فيمَ الإقامة بالزوراء لا سكني

بها ولا ناقتي فيها ولا جملي

ناءٍ عن الأهل صفُر الكفِّ منفردٌ

كالسيف عُريِّ متناه عن الخللِ

فلا صديقٌ إليه مشتكَى حَزَني

ولا أنيسٌ إليه منتهى جذلي»

.. اندفع المجنون نحو الرجل.. وقال له بثقة ودون وجل:

| ياسيدي.. لقد عرفتك.. واعترف بأني منذ زمان قد أحببتك.. أنت الطغرائي .. شاعر كبير من شعراء الزمن النائي!

 هذا صحيح.. ولكن من أنت أيها الفتى الذي يبدو أن قلبه جريح؟

| أنا لست فتى وإنما عجوز.. وأعرف ما يجوز وما لا يجوز.. وقد هربت من
زماني لبعض الوقت.. حتى أبتعد ولو قليلا عن جبن الصمت.. فالطغيان في زماني قد اشتد.. لكني لم اجد من يقف ضده أو يحتد.. فالكل قد شرب كأس اليأس.. ولم يعد أحد يرفع رأسه تحت الشمس.

 هذا أمر يدعو للعجب.. ففي زماني قد جرى مثل هذا للعرب.. وهناك من باعوا الضمائر.. وهناك أيضا من كانوا أجمل العلامات والمنائر.. وأعترف لك بأني شخصيا قد أحببت الصمت.. ولكن لبعض الوقت.. وذلك لكي تتوازن النفس.. وتنفض
عنها غبار اليأس.. وقد سجلت ما قلته في «لامية العجم».. وهي قصيدة يختلط فيها العزم بالألم.

| ياسيدي.. في زمان قبل زمانك.. ومكان غير مكانك.. كتب الشنفرى الجاهلي قصيدة بعنوان «لامية العرب».
 أنا أعرف هذا.. تماماً كما أعرف أني من العرب

| أعرف انك تعرف هذا.. ولكني أقول لك بكل ثبات.. إنك لا تعرف شيئا عن «لامية الفرات».. لأنها مكتوبة في القرن الحادي والعشرين للميلاد.. وهي تهجو الغزاة الأوغاد.. ممن يحتلون بغداد.. كما تهاجم الجبناء والخونة.. لأن رائحتهم تبدو دائما عفنة.

... ما هي إلا لحظات.. بعدها استمع الطغرائي إلى «لامية الفرات».. التي ترفض اليأس والسبات.. وتدعو الثوار للثبات.. رغم ما يواجهونه من نكبات:

«ما أضيق العيش لولا فسحهُ الأملِ»

فليمسح الدمعَ مَنْ يشتاق للعملِ

إني نفضتُ رمادَ الحزن منتصراً

على الضياع وما يطويه من عللِ

أبكيكَ..لا..فسماء الروح زاهيةٌ

بليلةٍ شهدتْ إطلالةَ البطلِ

أبكيك.. لا.. بل أحيي النسر مشتعلا

والحقَّ مرتحلاً عن كل مبتذَلِ

بغداد.. ما أنتِ عن قلبي بغائبة

فالنبض منكِ وأنت الروح يا أملي

لم يبقَ في القلب غير النار تصهرني

وتشحذ العزمَ مقداماً بلا وجلِ

لم يبقَ في القلب غير الشوق يدفعني

إلى طريق بنور الحق متَّصلِ

النار تحرقنا.. والنار تصهرنا

والنار تأتي على الأنقاض والخللِ

فاثبتْ على مبدأ عشتَ الحياة له

ولاتَبِتْ لحظة في خيمة الدجلِ

إن المصائب إن فاضت تطهرنا

مما كسانا به اللاهونَ من كسلِ

.. قال الطغرائي للمجنون.. وقد تحدر على خديه دمع هتون.. ما أشبه الليلة بالبارحة .. لكن أصحاب النفوس الطامحة.. لا بد أن ينتصروا على الشر والعدوان.. وهذا ما يحدث في كل زمان ومكان.

لامية الفرات .. ترفض اليأس والسبات.. وتدعو الثوار للثبات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى