مَوَاوِيلُ عَلَى أَوْتَارِ "قَاهِرَة"
مُتَرَنِّحًا يَشْدُو الْبَيَانُ كَأَنَّهُ
وَتَرٌ عَلَى زَهْوٍ يُغَازِلُ لَحْنَهُ
فِي مَوْكِبِ الْأَذْوَاقِ حِسٌّ مُرْهَفٌ
مَا أَعْذَبَ الْكَلِمَاتِ حِينَ يَرِدْنَهُ!
مَاذَا بِرَوْضِ الْفِكْرِ طَابَ مِزَاجُهُ
لَمَّا احْتَسَى شَهْدَ النَّسِيمِ وَبُنَّهُ!
وَالْشِّعْرُ يَرْشُفُ نَشْوَةً مَجْنُونَةً
مِنْ حِينِ غِزْلَانُ الْخَوَاطِرِ زُرْنَهُ
وَيَرُشُّ مَرْجَ الْحَرْفِ غَيْمٌ شَاعِرٌ
تَنْدَى الصَّحَارِي كُلَّمَا اسْتَسْقَيْنَهُ
هَذِي مَوَاوِيلٌ بِنَشْوَةِ عَزْفِهَا
مَا زَالَ دَيْرُ السُّكْرِ يَعْبُدُ دِنَّهُ
لَا غَرْوَ أَنَّ الْبَحْرَ آوَى جَمْرَةً
وَلْهَى، وَفَكَّ مِنَ الْمُلُوحَةِ رَهْنَهُ
أَوْ أَنَّ نِسْيَانًا بِذَاكِرَةِ الزَّمَا
نِ صَحَا فَلَمْ يُفْلِتْ خَيَالٌ ذِهْنَهُ
فَالْقَصْدُ قَاهِرَةٌ مَحَطَّاتُ الْعُلَا
عَنْ نِدِّهَا الْأَمْجَادُ تَسْأَلُ أَيْنَ هُوْ
مِنْ حَيْثُ نَجْمُ الطُّهْرِ يَخْلَعُ نَعْلَهُ
وَالْعِزُّ يَفْرِشُ لِلْمَآثِرِ حِضْنَهُ
مِنْ حَيْثُ أَبْرَاجُ الْمَآذِنِ شُمَّخٌ
مِنْ فَوْقِهَا قُدُسٌ يُوَزِّعُ يُمْنَهُ
هِيَ أَمُّ هَذَا الْكَوْنِ، تُرْضِعُ خُلْقَهُ،
وَأَبُوهُ، تُوفِرُ فِي الْعَظَائِمِ مُؤْنَهُ!
مَلْأَى الْبَيَادِرِ كُلَّمَا شَحَّ النَّدَى
تُعْطِي الْوَرَى سَلْوَى الرَّجَاءِ وَمَنَّهُ
مُخْضَوْضِرٌ رُغْمَ الْفُصُولِ جَنَابُهَا
تَكْسُو الْمَدَى بُرْدًا يُنَمِّقُ حُسْنَهُ
صَرْحٌ يُنَاطِحُ كَوْكَبًا، رَوْضٌ سَخِيْ
يٌ، شَارِعٌ لَمْ تَشْكُ رِيحٌ أَيْنَهُ
مِنْ نِيلِهَا يَرْوِي الْفُرَاتُ عِطَاشَهُ
مِنْ بَعْدِهِ بَرَدَى يُزَوِّدُ شَأْنَهُ
نِيلٌ تَكَوْثَرَ فِي الْسَّمَاءِ زُلَالُهُ
فِي سَقْيِ طُولِ الدَّهْرِ يَسْكُبُ مُزْنَهُ
لَا قَحْطَ يَغْزُو الْعَيْشَ عُمْرَ دَقِيقَةٍ
إِلَّا تَجَرَّعَ مِنْ نَدَاهُ حَيْنَهُ
مِنْ تُرْبِهَا الْمِعْطَاءِ يَنْبُتُ نَابِغٌ
مُتَحَدِّيًا إِنْسَ الزَّمَانِ وَجِنَّهُ
مِنْ قَارِئٍ تَجِفُ الْجِبَالُ لِشَدْوِهِ
مِنْ عَابِدٍ لَا وَهْمَ يَخْدِشُ زَيْنَهُ
مِنْ نَاثِرٍ يَأْسُو الْبَيَانَ يَرَاعُهُ
مِنْ شَاعِرٍ بِالسِّحْرِ يَبْعَثُ وَزْنَهُ
مِنْ عَبْقَرِيٍّ مَا تَفَسَّخَ هَيْكَلٌ
إِلَّا اسْتَقَى وَحْيًا يُهَنْدِسُ وَهْنَهُ
مِنْ قَاهِرٍ قَبْلَ الزَّمَان يَجُوزُهُ
يَجْثُو عَلَى رُكَبٍ يُنَاشِدُ إِذْنَهُ
عَنْ قَدْرِهَا سَلْ كَائِنًا مَا كَانَهُ
كُلٌّ يُمَوسِقُ فِي الْمَحَافِلِ لَحْنَهُ
فِي مُصْحَفِ الدُّنْيَا الْبِلَادُ هَوَامِشٌ
هِيَ وَحْدَهَا سَنَدٌ يُصَحِّحُ مَتْنَهُ
لَمَّا أَتَى التَّارِيخُ مَعْرِضَ مَجْدِهَا
مِنْ زَحْمَةِ الْآثَارِ أَنْكَرَ عَيْنَهُ
لَكِنَّهُ سُرْعَانَ مَا رَفَّ الْمَدَى
ضَوْءًا فَأَحْسَنَ بِالْمَطَالِعِ ظَنَّهُ
هِيَ لِلْحَضَارَةِ تُحْفَةٌ فَنِّيَّةٌ
مِنْ لَوْحِهَا الْإِبْدَاعُ يَرْسُمُ فَنَّهُ
أَهْرَامُهَا صُنْعٌ بَدِيعٌ خَارِقٌ
مِنْهُ إِلَهُ الْفَنِّ يَخْلُقُ كَوْنَهُ
مَا خَطْبُهَا يَفْنَى الزَّمَانُ، وَعُمْرُهَا
أَزَلٌ يَشِيدُ مِنَ الْحَدَاثَةِ سِنَّهُ
يَا مِصْرُ! يَا حَرَمًا تَمَثَّلَ رُوحُهَا
أَمَلًا يُوَزِّعُ فِي الْخَلَائِقِ عَوْنَهُ
يَطْهُو لِقَاسِيَةِ الظُّرُوفِ حَنَانَهُ
وَيُعَوِّضُ الْسَّعْيَ الْمُخَيَّبَ غُبْنَهُ
يَرْسُو عَلَى شُطْآنِهِ رَكْبُ الْمُنَى
فَيَصُبُّ غَيْمَتَهُ وَيُدْنِي غُصْنَهُ
يَا مَنْ يُفَتِشُّ عَنْ مَنَارٍ كُلَّمَا
خَارَ الْمَدَى ضَوْءًا تَوَلَّى شَحْنَهُ
هَاتِيكَ قَاهِرَةٌ عَلَى إِيقَاعِهَا
يَشْدُو الأَسَى وَالْيَأْسُ يَخْلَعُ لَوْنَهُ
هِيَ مُنْتَهًى لَا فَوْقَ يَعْلُو فَوْقَهُ
هِيَ وَحْدَهَا "إِنَّ" الْجَمِيعُ "كَأَنَّهُ"