الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم إسراء أبو زيد

مُفْتَاحُ النَّصْرِ

السَّابِعُ مِنْ أُكْتُوبَرَ، يَوْمٌ مُشْمِسٌ هَادِئٌ، أَجْلِسُ فِي حَدِيقَةِ مَنْزِلِي بِمَدِينَةِ حَيْفَا، الَّذِي عُدْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الِاحْتِلَالِ. لَطَالَمَا كُنَّا نَتَوَارَثُ مِفْتَاحَ هَذَا المَنْزِلِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، كَرَمْزٍ لِلْأَمَلِ وَالعَوْدَةِ.

كَانَ المِفْتَاحُ صَغِيرًا، مُغَطًّى بِصَدَأِ الزَّمَنِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ ذِكْرَيَاتٍ لَا تُحْصَى.

أَمْسَكْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَأَنَا أَتَذَكَّرُ كَيْفَ كَانَ أَبِي يُخَبِّئُهُ فِي صُنْدُوقٍ خَشَبِيٍّ صَغِيرٍ، وَكَيْفَ كَانَ يَقُولُ لِي: "هَذَا المِفْتَاحُ هُوَ وَعْدُنَا بِالعَوْدَةِ، مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ".

خَرَجْتُ مِنْ هَذَا المَنْزِلِ وَأَنَا صَغِيرَةٌ، مَعَ وَالِدِي وَأَجْدَادِي، بَعْدَ أَنْ أَجْبَرَنَا الِاحْتِلَالُ عَلَى الرَّحِيلِ.

كُنَّا نَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ المَتَاعِ، لَكِنَّنَا كُنَّا نَحْمِلُ فِي قُلُوبِنَا حُلْمًا كَبِيرًا: العَوْدَةَ.

وَالآنَ، هَا أَنَا هُنَا، جَالِسَةٌ فِي الحَدِيقَةِ نَفْسِهَا، أَنْتَظِرُ أَحْفَادِيَ الَّذِينَ سَيَأْتُونَ قَرِيبًا.

أَشْعُرُ بِأَنَّ الزَّمَنَ يَدُورُ فِي حَلَقَةٍ، وَكَأَنَّ المَاضِيَ وَالحَاضِرَ يَلْتَقِيَانِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ.

أَغْمِضُ عَيْنَيَّ وَأَسْتَنْشِقُ الهَوَاءَ بِعُمْقٍ... هَوَاءُ حَيْفَا لَهُ رَائِحَةٌ خَاصَّةٌ، كَأَنَّهُ يَحْمِلُ عَبَقَ التَّارِيخِ وَالأَرْضِ وَالبِحَارِ.

الأُكْسِجِينُ هُنَا مُخْتَلِفٌ، كَأَنَّهُ يَمْلَأُ رُوحِي بِالحَيَاةِ مِنْ جَدِيدٍ رَغْمَ أَنَّ العَدُوَّ اقْتَلَعَ الأَشْجَارَ وَدَمَّرَ كُلَّ مَا هُوَ أَخْضَرُ، إِلَّا أَنَّ الأَرْضَ عَادَتْ لِتَتَنَفَّسَ مِنْ جَدِيدٍ.

الأَشْجَارُ نَمَتْ مَرَّةً أُخْرَى، بِعِزَّةٍ وَفَخْرٍ، كَأَنَّهَا تَقُولُ: "سَنَبْقَى هُنَا، مَهْمَا حَدَثَ".

الهَدُوءُ يَمْلَأُ المَكَانَ الآنَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الطَّائِرَاتُ تَمْلَأُ السَّمَاءَ بِضَجِيجِهَا المُزْعِجِ وَالمُرْعِبِ.

أَشْعُرُ بِالحُرِّيَةِ وَالأَمَانِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ عُقُودٍ.... الحُرِّيَةُ الَّتِي لَطَالَمَا حَلُمْنَا بِهَا، وَالَّتِي كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهَا سَتَظَلُّ حُلْمًا بَعِيدَ المَنَالِ. لَكِنَّهَا هُنَا الآنَ، حَقِيقِيَّةٌ وَمَلْمُوسَةٌ.

فَجْأَةً، أَسْمَعُ صَوْتَ ضَحَكَاتٍ وَصَرَخَاتِ فَرَحٍ قَادِمَةً مِنْ بَعِيدٍ, إِنَّهُمْ أَحْفَادِي، يَحْمِلُونَ مَعَهُمْ طَعَامًا وَمَشْرُوبَاتٍ لِلِاحْتِفَالِ.

كَأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ مَعَهُمْ فَرَحًا جَدِيدًا، وَكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: "لَقَدْ عُدْنَا، وَهَذَا هُوَ يَوْمُنَا". أَرَى فِي عُيُونِهِمْ بَرِيقًا مِنَ الفَضُولِ، كَأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ: "هَلْ هَذِهِ حَقًّا أَرْضُنَا؟ هَلْ هَذِهِ هِيَ الحَدِيقَةُ الَّتِي كُنَّا نَحْلُمُ بِهَا؟.

أَحْتَضِنُهُمْ وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ، وَأَبْتَسِمُ بِعُيُونٍ لَامِعَةٍ بِالدُّمُوعِ. دُمُوعُ الفَخْرِ، دُمُوعُ الفَرَحِ، دُمُوعُ الغُرْبَةِ الَّتِي انْتَهَتْ أَخِيرًا.

نَنْشُرُ البَطَّانِيَاتِ عَلَى الأَرْضِ، نَجْلِسُ فِي دَائِرَةٍ، نَتَناوَلُ الفَلَافِلَ وَالحُمُّصَ وَالكُنَافَةَ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لَهُمْ سَابِقًا.

الأَطْفَالُ يَلْعَبُونَ بَيْنَ الأَشْجَارِ، وَالكِبَارُ يَتَذَكَّرُونَ الأَيَّامَ السَّابِقَةَ، يَرْوُونَ قِصَصَ الصُّمُودِ وَالعَزْمِ.

أَحْكِي لَهُمْ عَنْ أَجْدَادِهِمْ، عَنِ الأَرْضِ، عَنِ الحُرِّيَةِ الَّتِي لَطَالَمَا كَانَتْ حُلْمًا وَهَدَفًا.

أحْكِي لَهُمْ كَيْفَ كُنَّا نَعِيشُ هُنَا قَبْلَ أَنْ نُجْبَرَ عَلَى الرَّحِيلِ، وَكَيْفَ كُنَّا نَحْلُمُ بِالعَوْدَةِ كُلَّ يَوْمٍ.

أَحْكِي لَهُمْ عَنِ المِفْتَاحِ الصَّدِئِ الَّذِي كُنَّا نَحْفَظُهُ، وَكَيْفَ كَانَ رَمْزًا لِلْأَمَلِ فِي قُلُوبِنَا.

يَسْأَلُنِي أَحَدُهُمْ: كَيْفَ كَانَتْ حَيْفَا قَبْلَ ٧٥ عَامٍ؟ جَدَّتِي...

يَلْتَفِ الْجَمِيعُ حَوْلِي بِإهْتِمَامٍ وَإِنْصَاتٍ

أٌجيبهم : تَقَعُ حَيْفَا عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ الأَبْيَضِ المُتَوَسِّطِ فِي شَمَالِ فِلَسْطِينَ، وَكَانَتْ تُعْتَبَرُ وَاحِدَةً مِنْ أَهَمِّ المَدَائِنِ الفِلَسْطِينِيَّةِ بِسَبَبِ مِينَائِهَا الطَّبِيعِيِّ الكَبِيرِ، الَّذِي كَانَ مَرْكَزًا تِجَارِيًّا رَئِيسِيًّا فِي المِنْطَقَةِ , كَمَا كَانَتْ مَرْكَزًا صِنَاعِيًّا وَتِجَارِيًّا مُهِمًّا، حَيْثُ كَانَتْ تَحْتَوِي عَلَى مَصَافِي النَّفْطِ وَمَصَانِعِ الإسْمَنْتِ وَالمَنْسُوجَاتِ.

كَمَا كَانَ مِينَاءُ حَيْفَا وَاحِدًا مِنْ أَكْثَرِ المَوَانِئِ ازْدِحَامًا فِي شَرْقِ البَحْرِ الأَبْيَضِ المُتَوَسِّطِ، حَيْثُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ السُّفُنَ التِّجَارِيَّةَ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ العَالَمِ.

كَانَتِ الزِّرَاعَةُ أَيْضًا جُزْءًا مُهِمًّا مِنَ اقْتِصَادِ المَدِينَةِ، حَيْثُ كَانَتْ تُزْرَعُ الحَمْضِيَّاتُ وَالزَّيْتُونُ فِي المَنَاطِقِ المُحِيطَةِ بِهَا.
شَهِدَتْ حَيْفَا صِرَاعَاتٍ بَيْنَ العَرَبِ وَاليَهُودِ بِسَبَبِ الهِجْرَةِ اليَهُودِيَّةِ المُتَزَايِدَةِ إِلَى فِلَسْطِينَ، وَالَّتِي كَانَتْ مَدْعُومَةً مِنَ الحَرَكَةِ الصِّهْيَوْنِيَّةِ.

و فِي عَامِ 1947، أَعْلَنَتِ الأُمَمُ المُتَّحِدَةُ قَرَارَ تَقْسِيمِ فِلَسْطِينَ، وَالَّذِي قُوبِلَ بِرَفْضٍ مِنْ قِبَلِ العَرَبِ الفِلَسْطِينِيِّينَ وَالدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ.

فِي أَبْرِيلَ 1948، وَقَعَتْ مَعْرَكَةُ حَيْفَا، حَيْثُ سَيْطَرَتِ القُوَّاتُ الصِّهْيَوْنِيَّةُ عَلَى المَدِينَةِ بَعْدَ انْسِحَابِ القُوَّاتِ البِرِيطَانِيَّةِ.

أَدَّى ذَلِكَ إِلَى نُزُوحِ غَالِبِيَّةِ السُّكَّانِ العَرَبِ مِنَ المَدِينَةِ حَيْثُ هَاجَرُوا إِلَى لُبْنَانَ وَسُورِيَا وَالأُرْدُنِّ أَوْ إِلَى مَدَائِنَ فِلَسْطِينِيَّةٍ أُخْرَى.

أَصْبَحَتْ حَيْفَا بَعْدَ عَامِ 1948 مَدِينَةً ذَاتَ أَغْلَبِيَّةٍ يَهُودِيَّةٍ، حَيْثُ اسْتُوطِنَ فِيهَا مُهَاجِرُونَ يَهُودٌ مِنْ أُورُوبَّا وَالعَالَمِ العَرَبِيِّ. قَبْلَ عَامِ 1948، كَانَتْ حَيْفَا تَحْتَوِي عَلَى العَدِيدِ مِنَ المَعَالِمِ التَّارِيخِيَّةِ، مِثْلَ:

حَيُّ وَادِي النِّسْنَاسِ: أَحَدُ الأَحْيَاءِ العَرَبِيَّةِ القَدِيمَةِ.
حَيُّ الحَلْفَا: الَّذِي كَانَ يَضُمُّ سُكَّانًا مِنْ خَلْفِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
مِينَاءُ حَيْفَا: الَّذِي كَانَ مَرْكَزًا تِجَارِيًّا مُهِمًّا.
جَبَلُ الكَرْمَلِ: الَّذِي كَانَ يُعْتَبَرُ رَمْزًا لِلْمَدِينَةِ وَيَضُمُّ أَمَاكِنَ دِينِيَّةً مِثْلَ دَيْرِ Stella Maris.

الخُلَاصَةُ قَبْلَ 75 عَامًا، كَانَتْ حَيْفَا مَدِينَةً مُزْدَهِرَةً وَمُتَنَوِّعَةً ثَقَافِيًّا، تَعْكِسُ تَارِيخَ فِلَسْطِينَ الغَنِيِّ. كَانَتْ مَرْكَزًا اقْتِصَادِيًّا وَثَقَافِيًّا مُهِمًّا، لَكِنَّهَا شَهِدَتْ تَغْيِيرَاتٍ جَذْرِيَّةٍ بَعْدَ عَامِ 1948 بِسَبَبِ الصِّرَاعِ العَرَبِيِّ الإسْرَائِيلِيِّ.

فَجْأَةً، نَسْمَعُ صَوْتَ دَقَّاتِ قَدَمَيْنِ قَادِمَةً مِنْ بَعِيدٍ, شَهَقَ الجَمِيعُ خَوْفًا، وَنَظَرْنَا بِرُعْبٍ.

لَكِنَّنَا سَرْعَانَ مَا أَدْرَكْنَا أَنَّهُمْ جِيرَانُنَا القُدَمَاءُ، الَّذِينَ عَادُوا أَيْضًا إِلَى مَنَازِلِهِمْ.

نَتَعَانَقُ وَنَضْحَكُ، كَأَنَّنَا لَا نُصَدِّقُ أَنَّ هَذَا يَحْدُثُ حَقًّا... يَحْمِلُونَ مَعَهُمْ هَدَايَا وَذِكْرَيَاتٍ قَدِيمَةٍ، وَيَنْضَمُّونَ إِلَى احْتِفَالِنَا، مِمَّا يَجْعَلُ اللَّيْلَةَ أَكْثَرَ حَيَوِيَّةً وَجَمَاعِيَّةً.

نُشْعِلُ مَصَابِيحَ زَيْتِيَّةً صَغِيرَةً، تُضِيءُ الجَوَّ بِأَضْوَاءٍ دَافِئَةٍ، كَأَنَّهَا تَخْلُقُ جَوًّا مِنَ الخُلُودِ وَالتَّارِيخِ. نَتَذَكَّرُ كَيْفَ كُنَّا نَفْعَلُ الشَّيْءَ نَفْسَهُ قَبْلَ عُقُودٍ، كَأَنَّ الزَّمَنَ يُعِيدُ نَفْسَهُ. ثُمَّ نَقْرِرُ أَنْ نَزْرَعَ شَجَرَةَ زَيْتُونٍ جَدِيدَةً فِي الحَدِيقَةِ، رَمْزًا لِلْعَوْدَةِ وَالجُذُورِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي.

أَحْمِلُ حَبَّةَ الزَّيْتُونِ بَيْنَ يَدَيَّ، وَأَضَعُهَا فِي التُّرَابِ بِعِنَايَةٍ. أَدْعُو بِصَوْتٍ عَالٍ إِلَى السَّمَاءِ لِحِمَايَةِ هَذِهِ الأَرْضِ وَأَهْلِهَا. أَرَى أَحْفَادِي يَهْتَمُّونَ بِالحَفْرِ، مُتَحَمِّسِينَ لِرُؤْيَةِ الشَّجَرَةِ تَنْمو. أَقُولُ لَهُمْ: "هَذِهِ الشَّجَرَةُ هِيَ رَمْزٌ لِعَوْدَتِنَا، وَلَنْ تَنْسَى الأَجْيَالُ القَادِمَةُ مَا مَرَرْنَا بِهِ".

اللَّيْلَةُ تَنْتَهِي بِالنُّجُومِ تُبْرِقُ فِي السَّمَاءِ، وَالقُلُوبُ مُمْتَلِئَةٌ بِالأَمَلِ وَالفَرَحِ. نَنْظُرُ إِلَى بَعْضِنَا البَعْضِ، وَنَصْرُخُ جَمِيعًا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: "العَوْدَةُ!" بِفَخْرٍ، لِيَصِلَ صَدَانَا إِلَى قُلُوبِ كُلِّ مَنْ عَانَى وَصَبَرَ.

أَقُولُ لَهُمْ: "هَذِهِ الأَرْضُ هِيَ تَارِيخُنَا، وَهِيَ مُسْتَقْبَلُنَا لَنْ نَتْرُكَهَا أَبَدًا مَرَّةً أُخْرَى".

يَوْمًا مَا، سَأَكْتُبُ مَذَكَّرَاتِي، شَاهِدَةً عَلَى تَارِيخِنَا... سَأَرْوِي لِلأَجْيَالِ القَادِمَةِ كَيْفَ عِشْنَا، وَكَيْفَ حَلُمْنَا، وَكَيْفَ عُدْنَا. لَكِنَّ الآنَ، حَانَ وَقْتُ الِاسْتِرْخَاءِ.

السَّعَادَةُ الَّتِي أَشْعُرُ بِهَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ 75 عَامًا تَمْلَأُ قَلْبِي. أَغْفُو قَلِيلًا، وَأَحْلُمُ بِمُسْتَقْبَلٍ مُشْرِقٍ لِأَحْفَادِي... رُبَّمَا أَغْفُو إِلَى الأَبَدِ، لَكِنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ حُلْمَنَا قَدْ تَحَقَّقَ، وَأَنَّ الأَرْضَ سَتَظَلُّ لَنَا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى