الاثنين ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم حسن توفيق

نجيب محفوظ.. أربع سنوات على غيابه

على البلاج.. قصة مجهولة للكاتب العملاق

ثلاثة أدباء يلتقون مع ثلاث حسناوات منذ ستين سنة!

فجأة وجدت نفسي محاصرا من جميع الجهات، لكني لم أشعر بالخوف أو القلق، رغم أني أدركت أني لا أستطيع الحركة لأنها بدت لي مربكة ومرتبكة. لم يكن هذا الحصار جائرا وغادرا من طراز حصار الصهاينة لقطاع غزة، ولم يكن حصارا مخيفا ومرعبا مثل الفيضانات التي حاصرت الباكستانيين. لا أحد فرض على جسدي الحصار. أنا الذي حاصرت نفسي بنفسي. مئات من المجلات تحاصرني من كل الزوايا . إنها مجلات قديمة، تتفاوت أعمار أعدادها، فمنها ما يتجاوز تسعين سنة، أما أحدثها فلا يتجاوز عمر أعداده أربعين سنة.

كان هدفي من فرض هذا الحصار على نفسي أن أبحث عبر صفحات المجلات القديمة عن إبداعات منسية أو مجهولة، كتبها مبدعوها ونشروها لكنهم لسبب أو لآخر لم يجمعوها ويضموها ضمن الكتب التي أصدروها خلال حياة كل منهم، وقد سعدت من أعماق القلب لأني اكتشفت قصائد مجهولة عديدة لا لشاعر الحب الرفيق والكبير الدكتور إبراهيم ناجي وحده، وإنما لشعراء آخرين من أبناء جيله، منهم محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وحسن كامل الصيرفي وصالح جودت، وبينما كنت أبدأ – وسط هذا الحصار الجميل - بتقليب صفحات عدد من أعداد مجلة أدبية من تلك المجلات القديمة، إذا بمفاجأة رائعة لم أكن بالطبع أتوقعها أو أترقبها ولو في الخيال، وهذا ما دفعني لأن أقف في مكاني صائحا ومهللا!

المجلة التي أشير إليها مجلة نصف شهرية، لكني لن أذكر اسمها الآن على الأقل حتى لا يهتدي إليها القراصنة، لكي يزعموا أنهم قد اكتشفوا ما اكتشفته وعرفوا ما عرفته، وعلى الرغم من هذا الإغفال المتعمد من جانبي لاسم المجلة إلا أني سأذكر تاريخ العدد وأثبته بصورة واضحة لا لبس فيها، فهذا العدد هو الحادي والعشرون، وقد صدر يوم الخامس من أغسطس سنة 1950 أي منذ ستين سنة بالتمام والكمال. على الصفحة الرابعة من هذا العدد تعلقت عيناي بما قرأته.. على البلاج – قصة مصرية اشترك في كتابتها ثلاثة كتاب * صالح جودت * نجيب محفوظ * عبد الحميد جودة السحار. توقفت مذهولا حتى أفيق من حلاوة المفاجأة، ثم شرعت في قراءة القصة.

بعد استمتاعي بالقراءة، لاحظت ملاحظة طريفة. لاحظت أن القصة التي كتبها ثلاثة أدباء، تتحدث عن ثلاث حسناوات جالسات على الرمال الناعمة أمام البحر في الإسكندرية، وفوق هذا وربما لكي تكتمل الثلاثية فإن القصة نفسها تحتل مساحة ثلاث صفحات من صفحات المجلة! وأحاول الآن رسم جوانب الصورة المتعلقة بأجواء قصة – على البلاج – حيث التقى كل من الشاعر صالح جودت والكاتبان نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار في كازينو جليم أمام البحر مباشرة في الإسكندرية، وبينما كان الأدباء الثلاثة منشغلين في الحديث وارتشاف القهوة الصباحية، إذا بصالح جودت – وكان مشهورا بأنه عاشق للجمال - يتأمل ثلاث حسناوات فاتنات، ويقوم بتنبيه صديقيه إلى اللواتي يتأمل جمالهن وسحرهن، ثم يشرع في كتابة القسم الأول من القصة، ويتلوه نجيب محفوظ لكي يستكمل ما بدأه الشاعر العاشق للجمال، و بعد هذا يأتي الدور على عبد الحميد جودة السحار ليصل بالقصة إلى خاتمتها!

لا أريد أن أتناول موضوع القصة، لكي يستمتع القاريء الجديد بفراءتها دون تدخل مني، لكني أذكر أني قد رددت بيتا من شعر أبي نواس، أحسست أنه يلخص جوهرهذه القصة:

ليس على الله بمستكثر

أن يجمع العالم في واحد

وبعد برهة صمت، سألت نفسي: ماذا أفعل بهذه القصة؟

على الفور أجبت على سؤالي، قائلا: يمكنني أن أجمعها على الكمبيوتر، لكي أتهيأ لنشرها في أجواء الذكرى الرابعة لغياب نجيب محفوظ عن محبيه وعن الدنيا كلها، ولكن وقبل كل شيء لا بد من أن أتأكد أن هذه القصة لم تنشر – من قبل - ضمن أية مجموعة من المجموعات القصصية لنجيب محفوظ أو لعبد الحميد جودة السحار، أما صالح جودت فإن من البديهي أنه لن يكون قد ضمها إلى أحد دواوينه الشعرية!

تنفيذا لما ألزمت نفسي به قمت بمراجعة مجموعات نجيب محفوظ والتي تبدأ بمجموعة – همس الجنون – رغم أني أعرف بالطبع أنها قد صدرت سنة 1938 مرورا بمجموعة – دنيا الله – الصادرة سنة 1962 ثم ما تلاها من مجموعات قصصية: بيت سيئ السمعة – خمارة القط الأسود – تحت المظلة – حكاية بلا بداية ولا نهاية... وبالطبع فإني كنت متأكدا أني لن أجد قصة – على البلاج – ضمن أية مجموعة قصصية للكاتب العملاق.

أعادني اكتشاف هذه القصة المجهولة أو المنسية التي كتبها ثلاثة أدباء، إلى عمل أدبي جميل ومشوق، كنت قد قرأته للمرة الأولى عندما كنت طالبا في المرحلة الثانوية، ثم أعدت قراءته عدة مرات فبما بعد. هذا العمل الأدبي ليس مجهولا ولا منسيا، ولكنه عمل شارك في كتابته كاتبان من جيل العمالقة هما طه حسين وتوفيق الحكيم، وعنوان هذا العمل الجميل والمشوق – القصر المسحور - وقد صدر في طبعته الأولى سنة 1936 وفضلا عن هذا فإني تذكرت عملا أدبيا رائعا، يتمثل في رواية – عالم بلا خرائط – و هي الرواية التي شارك في كتابتها كذلك كاتبان عربيان كبيران هما جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، ولا بد أن أتذكر الآن موقفا طريفا، حيث تحدى الكاتبان الكبيران جميع النقاد أن يعرفوا من الذي كتب هذا الفصل أو ذاك من تلك الرواية التي صدرت في طبعتها الأولى سنة 1982 ثم صدرت طبعتها الثانية سنة 1992، وهنا يطيب لي أن أذكر أني قد عرفت من الذي كتب هذا الفصل أو ذاك، حيث أفشى لي الشاعر الكبير بلند الحيدري أسرار كتابة – عالم بلا خرائط - وهو أمر يحتاج لكتابة تفصيلية عنه فيما بعد.

هنا أقول إن القاعدة العامة تتمثل في أن الكاتب المبدع - روائيا كان أو كاتبا قاصا أو شاعرا –يشرع في كتابة إبداعه وحده دون أن يسمح لأحد سواه بأن يشاركه فيما يكتبه، أما الاستثناء فيتمثل في اشتراك أكثر من شاعر أو كاتب في كتابة عمل أدبي، على نحو ما رأينا في قصة – على البلاج – ومن فبلها – القصر المسحور – ومن بعدها – عالم بلا خرائط – ولكن لا بد لي من تسجيل ملاحظة تتعلق بأسلوب الكتابة في الأعمال المشتركة، وعلى سبيل المثال فإن أسلوب كتابة – على البلاج – يبدو متجانسا ومنسجما رغم أن ثلاثة أدباء قد شاركوا في كتابتها ولكل واحد منهم أسلوبه الخاص المتفرد عن سواه، وكذلك يبدو التجانس والانسجام واضحين في أسلوب رواية – عالم بلا خرائط - رغم أن أديبين اثنين قد شاركا في كتابتها، بينما نستطيع أن نميز بين أسلوب طه حسين وأسلوب توفيق الحكيم في – القصر المسحور - وبالطبع فإن هذه الملاحظة تتطلب دراسة متمهلة ومتأملة.

أعتقد الآن أنه قد آن لي أن أحرر نفسي من الحصار الذي فرضته عليها، وأترك المجال لقراء الجيل الجديد لكي يستمتعوا بالقصة التي شارك في كتابتها نجيب محفوظ منذ ستين سنة، ولكن قبل الاستمتاع بالقراءة، أظن أن علينا أن نتذكر عملاق الرواية العربية الكاتب المصري- العربي- العالمي نجيب محفوظ والذي تنقضي اليوم على غيابه عن أحبابه أربع سنوات، حيث رحل عن عالمنا يوم 30 أغسطس سنة 2006، بعد أن عاش حياة طويلة حافلة بالأحداث والوقائع على امتداد ما يقرب من خمس وتسعين سنة، بدأت تتوالى منذ يوم 11 ديسمبر سنة 1911 وهو اليوم الذي شهد تفتح عينيه للنور لأول مرة في حياته.

نجيب محفوظ هو اسم مركب، اختاره له والده عبد العزيز أحمد الباشا، تقديرا وتيمنا باسم الطبيب الذي كان شهيرا في عالم الطب كما أنه أشرف على الولادة التي كانت متعسرة، وهو الدكتور نجيب محفوظ. وإذا كانت هناك أحداث ووقائع تؤثر في الأفراد الذين يشهدونها، فلابد هنا أن نذكر ثورتين خطيرتين، أثرت كل منهما على نجيب محفوظ حياتيا وفنيا، الأولى هي ثورة 1919 الشعبية ضد الاحتلال البريطاني لمصر، وكان عمره وقتها ثماني سنوات لكن هذه الثورة ظلت مرتسمة في خيالاته ومتغلغلة في أعماقه إلى أن سجل ما جرى فيها ولها في إحدى رواياته التي تمثل المرحلة الاجتماعية عنده وهي رواية بين القصرين، والثورة الثانية هي ثورة 23 يوليو سنة 1952 بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وكان هو قد تخطى الأربعين من العمر، وقد توقف عن الكتابة أو عن نشر ما كان يكتبه عدة سنوات بعد قيام الثورة،مبررا صمته أو صومه عن الكتابة بأن الثورة توشك أن تحقق أحلامه في العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس ولهذا لم يعد لديه ما يكتبه، وفي تقديري أن سنوات الصمت أو الصوم عن الكتابة كانت مرحلة كمون وتأملات عميقة، إلى أن أطلت سنة 1959و بدأت جريدة الأهرام تنشر روايته الفذة - أولاد حارتنا - على شكل حلقات مسلسلة يومية، وقد أثارت هذه الرواية ذات الصيت الذائع ما أثرت من عواصف فكرية، نتيجة للتضارب حول تفسير أحداثها وشخصياتها،فظلت دار الآداب اللبنانية وحدها تنشرها في عدة طبعات إلى أن صدرت لأول مرة عن دار الشروق في القاهرة سنة 2006 وتصدرتها مقدمة مستفيضة كتبها الدكتور أحمد كمال أبو المجد، واعتبارا من سنة 1961 بدأت أعمال نجيب محفوظ التي تمثل المرحلة الرمزية في نتاجه تتوالى، حيث صدرت رواية اللص والكلاب وتلتها السمان والخريف والطريق والشحاذ وثرثرة فوق النيل، وقد أصدر عملاق الرواية العربية دون منازع ستة وخمسين عملا أدبيا ما بين رواية وقصة قصيرة، وكان يمكن لهذا العطاء الأدبي الضخم أن يزيد على هذا العدد لو لم يكن صاحبه ومبدعه قد تعرض لمحاولة الاغتيال الفاشلة التي قام بها شاب جاهل لم يقرأ لنجيب محفوظ حرفا واحدا لكنه استجاب وقتها لتحريض قوى الظلام ضد ثروة قومية وإنسانية نفيسة، وذلك يوم 14 أكتوبر سنة 1994، وأتذكر هنا بكل وضوح أني كنت قد اتفقت مع نجيب محفوظ على إجراء حوار مطول معه في نفس ذلك اليوم، وهذا ما دعاني لكتابة مقال بعنوان نجيب محفوظ واللقاء المؤجل، أشرت فيه إلى محاولة الاغتيال التي تسببت في إلغاء ذلك اللقاء!

تحية لروح هذا العملاق الذي كان يدرك أن الكلمة المبدعة تتطلب من كاتبها أن يظل مخلصا لها ومؤمنا بجدواها باعتبارها رسالته الشريفة التي يتوجه بها إلى قلب الإنسان وعقله.

على البلاج

قصة قصيرة مجهولة

اشترك في كتابتها ثلاثة أدباء

* صالح جودت

* نجيب محفوظ

* عبد الحميد جودة السحار

* بدأ القصة الأستاذ صالح جودت:

كان البحر في ثورة على الجمال... الراية السوداء منصوبة تنذر بعدم الاقتراب من الماء، ولهذا اكتفت صاحباتنا الثلاث بالاستلقاء على الرمل المتوهج تحت أشعة الشمس التي ينساب سحرها في بشرتهن، فيكسوها طبقة رقيقة من النبيذ الأسمر المشرب بالحمرة.

ثلاث فتن، لا يشك من يراهن في رقدتهن هذه، أن الخطر كل الخطر الذي رفعت من أجله الراية السوداء، ليس كامنا في الموج، بل على الرمل، وأن مغامرة الاقتراب من البحر قد تفقد الرجل حياته على الأكثر، ولكن مغامرة الاقتراب منهن تفقده دنياه وآخرته معا.

وفيم تفكر هذه الفتن الثلاث ؟ فيم يدور حديثهن الهامس الذي يمتزج بابتساماتهن الحلوة، ونظراتهن إلى أفق بعيد ؟ لعلهن يتحدثن عن الحب، ولعل لكل واحدة منهن حبيبا، ولعل حكاية كل منهن مع حبيبها تصلح لتأليف مادة كاملة لقصة شائقة.

ثلاث قصص راقدة أمامي على الرمل، وأنا مطل عليها من شرفة كازينو جليم، ومع هذا لا أجد مادة لقصة واحدة، قصة تلزمني بها المجلة، ويستعجلها رئيس التحرير للعدد القادم.

وفي غمرة هذه الحيرة تفاجئني ضربة على كتفي من الخلف، تسقط القلم من يدي، وأتلفت إلى الوراء فأرى صديقي أنور يضحك من نظراتي إليهن ملء شدقيه، ويقول:

 إني أرقبك منذ نصف ساعة...

ثم يرتسم الجد على وجهه ويقول:

 ولكن.. خير لك ككاتب – لا كمفتون – أن تنظر إلى الناحية الأخرى من الشاطيء..

 ماذا هناك ؟

 هناك.. إلى هذه المظلة المخططة بالأحمر.. ألا ترى نظراتهن مترامية إلى هناك لا تتحول ؟

وسكت لحظة ثم استطرد يقول:

 هل تصدق أن هؤلاء الثلاث مشغولات برجل واحد..

ثم تبعه الأستاذ نجيب محفوظ:

وكان صاحبنا السعيد، رجل المظلة الحمراء مشغولا كذلك، ولكن بالفتن الثلاث معا، فوجد نفسه في حيرة، وعز عليه أن يستمتع بسعادته السخية في صفاء وسلام، وقد تواصلت رؤيته لهن على الساحل يوما بعد يوم، فتردد بصره بينهن طويلا ثم تنقل فؤاده بينهن دون أن يستقر على حال. تخلب لبه حينا السمراء الرشيقة التي تهوى بكل روحها الرياضة والسباحة، فيوحي جسدها اللدن المرن بالانطلاق والحيوية، ثم تجذبه ذات القد الرشيق والعينين الحالمتين التي تقسم وقتها بين السباحة والاستسلام للكرسي المتمدد فتسبح في تأملاتها أو تقرأ في كتاب، وبين هذه وتلك تسترعي نظره ذات جسم ناضج، لم يرهله القعود ولا جففه الإغراق في الرياضة، وسط في كل شيء، تذكر جلستها الطويلة على الساحل بين أطفال الأسرة بالبيت والأمومة.

طالما ساءل نفسه أيها أحب إلى قلبه دون أن يظفر بجواب حاسم،وكم تمنى لو يجمع الله الثلاث في واحدة، فيزين رشاقة الأولى بعقل الثانية ويكملها بقلب الثالثة، وكم أنفق الساعات وهو يبادلهن نظرا شغوفا ناطقا، وخياله دائب على الإنشاء والاختيار، والوصل والفصل، والخلط والمزج، قانعا إلى حين بلذة الأحلام، وزاد من حيرته أنهن كن يستجبن لنظراته استجابات متعادلة في حرارتها ودلالاتها، فلم تستأثر إحداهن باهتمامه بعطف قصرت دونه الحلوتان الأخريان، أو لتمنع يستثير النشاط والحماس، ولما ضاق بحيرته، وضاقت به حيرته صمم على الخروج منها مهما كلفه الأمر، ما باله لا يسعى للتعرف بهن ؟ أليس من الممكن أن يتمخض الاختلاط عن رأي جديد يكون فيه الخلاص من حيرته ؟

وقال لنفسه: سأتعرف بهن، وإذا لم يخرجني التعارف من حيرتي كاشفتهن بنجوى قلبي واعترفت بحبي لهن جميعا، وحيرتي فيهن، وسألتهن أن ينتشلنني من بلواي، ولأنظر ماذا يكون بعد ذلك، ومهما يكن من أمري وأمرهن فهي تجربة بارعة في لطافتها، وفيما يحتمل أن تتكشف عنه من مختلف الحلول.

ثم اختتم القصة الأستاذ عبد الحميد جودة السحار:

ونهض وقد عزم على أن يسعى للتعرف بهن، وسار إلى حيث كانت الفتن الثلاث، وما إن دنا منهن حتى اعتدلن في جلستهن، وتطلعن إليه خافقات القلوب، ورفت على شفاههن ابتسامات عذبة، وانبعث من عيونهن سحر، كانت كل منهن تحاول أن تبدي فتنتها لتسلبه لبه وتسبي فؤاده.

وأحس وقع نظراتهن الساحرة في قلبه، فخفف من خطوه، وعادت إليه حيرته، فما كان يدري إلى أيهن يتودد، وأطرق يفكر في وسيلة تيسر له التعرف بهن، ومكاشفتهن بنجوى قلبه، واعترافه لهن بحبه، وحيرته فيهن، وفيما هو في تفكيره صك أذنيه صوت نسائي يصرخ، فالتفت فرأى فتاة في اليم، تتلقى صفعات البحر الثائر الذي استخفت به، واقتحمته دون أن تأبه لغضبه أو تحترم ثورته.

وألفى نفسه يندفع إلى البحر كالسهم،ويلقي بنفسه في الماء، وراح يشق عبابه، ويصارع أمواجه، حتى إذا بلغ الفتاة التي أنهكها الجهد ضمها إليه، وراح يسبح عائدا إلى الشاطيء، وخرجا من الماء، وهو يلف ذراعه حولها، وهي تستند إلى صدره تحتمي خشية أن تنوء من الإعياء، وانطلقا إلى المظلة المخططة بالأحمر، واستسلمت للكرسي المتمدد، وأخذت تلتقط أنفاسها في جهد، فيرتج صدرها الناهد الفتان.

ووقف يرنو إليها في دهش وإعجاب، كانت تجمع ما كان يشتهيه في الفتن الثلاث، كانت سمراء رشيقة، يوحي جسمها اللدن المرن بالحرية والحيوية والانطلاق، وكانت عيناها حالمتين، ويستشف من قسماتها الرقة والحنان.

ورفعت صدرها الرائع ومدت يدها في دلال، تسوي شعرها السبط المتهدل. ثم راحت تتحدث إليه في صوت حلو أخاذ، وهو يصغي إليها منشرح الصدر، متفتح القلب ‘ فقد قابل من كانت تتراءى له في أحلامه على غير ميعاد.

ونهضا وفي عيونهما حب، وفي صدريهما نشوة، وعلى شفاههما يرف الأمل البسام، وسارا ومرا على الفتيات الثلاث فلم يحس بمن كن يملأن أقطار نفسه منذ لحظات، كان مشغولا عنهن بحوريته التي خرجت له من الماء.

ونظرت إليهما الفتيات فأخذت عقارب الغيرة تنهش صدورهن، فغامت الوجوه الحلوة بسحائب من الحزن، وبان فيها الأسى العميق، ورفعت إحداهن بصرها إلى الراية السوداء، فازداد ضيقها فلولاها لما قابل من كانت ترتجيه تلك الفتاة!

ولم يطقن البقاء بعد أن سخر القدر بهن، فقمن وسرن خافضات الرؤوس، يجرجرن أرجلهن فقد تملكهن اليأس، بعد أن تكسرت آمالهن على الرمال.

والتفت إلى صديقي أنور فألفيته فاغرا فاه، أذهله ما جرى في لحظات قصار، فلم يسعفه لسانه ليعلق على ما رآه، والتفت ثانية إلى الفتيات المنسحبات من الميدان، فحز في نفسي أن ينهزم السحر والرقة والفتنة والجمال.

** نشرت هذه القصة المجهولة منذ ستين سنة أي في يوم 5 أغسطس سنة 1950 - حسن توفيق


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى