الثلاثاء ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم محمد جمال صقر

نحو النص

نَعَى بعض نَقَدَة علم النحو العربي القديم على النحويين القدماء والقَداميّين، احتباسهم داخل حدود الجملة الواحدة، على حين اتسع لعلم النحو الحديث والنحويين المحدثين والحَداثيّين فضاءُ النص، فرتعوا فيه ما شاؤوا إقبالا وإدبارا؛ فاستفزوا إلى تفنيد نعيهم شابا مغربيا لَوْذَعِيًّا (محمد خطابي)، بكتاب لم يكن غير رسالته للماجستير، وُفِّق فيه إلى التنبيه على جهود مفسري القرآن الكريم، والتنويه باختصاصهم بالدراسة النحوية الكلية، في حين اختص النحويون بالدراسة النحوية الجزئية.

وأطرف ما يمكن أن ينضاف إلى هذا التفنيد أن تُردِّد النظر، فتجد النحوي القديم الواحد جزئيا وكليا في وقت واحد معا، "يلبس لكل حال لَبُوسها"؛ ففي حين يضع الزمخشري كتابه "المفصل" في علم النحو، فيستقصي على طريقته تراث النحويين، ويستسهل صعابهم- يضع كتابه "الكشاف" في تفسير القرآن الكريم على هدى نظرية النظم البلاغية الجرجانية، فيستقصي على طريقته تراث المفسرين، ويستسهل صعابهم!

وكما تطورت الدراسة النحوية الكلية تطورت الدراسة النحوية الجزئية، ولكن بقيت علاقة بعضهما ببعض على حالها، لا تكتمل الكلية إلا باستيعاب الجزئية، ولا تستقيم الجزئية إلا بمراجعة الكلية، مثلما ينظر الصاعد في طوابق العمارة الشاهقة، لا يبلغ الطابق الأعلى إلا من خلال الطابق الأسفل، وكلما صعد نظر قاصدا أو غافلا، فاطلع على آفاق تتباعد دواليك قليلا قليلا، ولكنه لا يستغني عن الهبوط لأخذ بعض ما يحتاج إليه من أدوات مساعدة، فينظر من الطابق الأسفل مرارا أخرى قاصدا أو غافلا، ويقيس الأنظار بعضها إلى بعض، ويعرف فوارقها وجوامعها.

ودائما ما كان القرآن الكريم في بال النحويَّيْنِ كليهما جميعا -كيف لا وهو دستور علوم العربية وآدابها وعلوم الإسلام وآدابه!- يستشهد منه النحوي الجزئي بالآية الواحدة، ويفسر فيه النحوي الكلي السورة الكاملة، وفي بال كل منهما القرآن الكريم كله: طبعه، ومراده، وأسلوبه، وحفظه، وتلاوته، وأثره، يعرب النحو الجزئي الكلمة في ضوء ما يعرف من مواردها في القرآن كله، ويفسر النحو الكلي السورة في ضوء ما يعرف من تكامل سور القرآن كلها.

وكلما تطورت الدراستان حَظِيَتَا بعرض تطوُّرَيْهِما على القرآن الكريم، إيمانا من الدارس بمبدأ عربي إسلامي يتوارثه الدارسون ويتواصون به: "لَقَدْ خَبَأَ الحَقُّ -سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى!- لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ نَصِيبَهُمْ مِنْ إِدْرَاكِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ"؛ فيقبل الدارس حفيا متطلعا؛ لعل الحق -سبحانه وتعالى!- أن يوفقه إلى أن يكون هو صاحب الخبيئة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى