الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم جاسمين ماجد

نضال

(مستوحاة من القصة الحقيقية لبيت السكاكيني في فلسطين)

هجرتك يمكن أنسى هواك
وأودع قلبك القاسي
وقلت أقدر في يوم أسلاك
وأفضي من الهوى كاسي

فَتحت باب الشقة التي في إحدى العمارات العتيقة التي تحافظ على تفردها وسط المباني المُحدثة لتفي التفاقم السكاني. دخلتها لأول مرة منذ عامين, لم تكن تتوقع أنها ستدخلها ودموعها تسري كفرعِ نهرٍ أوشك على الجفاف في أرضٍ خصبة, وتفاجأت مما رأته. تعلم أن والدها لديه اكتنازًا قهريًا, ولكن لم تتوقع أن تتحول الشقة لمستودع خردوات. زجاجات، أوراق مُبعثرة, صناديق كرتونية مرصوصة فوق بعضها, فواتير قديمة, والكثير من التحف واللوحات التي تعلم أنه يهوى تجميعها. ظلت عيناها الدامعتان مفتوحتين من هول المنظر, وهي تَجُر حقيبتها ذات العجلات ورائها, وخلفها "حسام" ابن عمتها.

 أخبَرتُكِ أن تقيمي في المنزل مع أمي.

لم تُعِره إهتمامًا, فإنها لا تعلم سبب تشبُثها في المَبيت هنا حتى انتهاء الأربعين يومًا فترة الحداد قبل أن تعود إلى أمريكا حيث تقطن منذ سبع سنوات. شمَّرَت ساعداها وأشارت لـ"حسام" كي يهم معها لتنظيف الشقة. بدآ بوضع كل الأوراق والخردوات في أكياس، ثم قاما بفتح كل الصناديق الكرتونية. كانت أغلبها تحتوي على ملابس مهترءة, ومعدات قديمة.
وجدت في إحدى الصناديق ملابس والدتها المتوفاة منذ عِقد، فتذكرت تلك الأعوام العشرين الأولى في حياتها.

لقيت روحي في عز جفاك
بفكر فيك، بفكر فيك وأنا ناسي
هجرتك يمكن أنسى هواك
وأودع قلبك القاسي

كانت "نضال" ذات العشرين تعيش في نفس البيت مع والديها, كانت طالبة في كلية الإعلام. البيت كان مليئًا بالفراغ الذي يتخلله رائحة النعناع الذي يزرعه والدها وأغاني أم كلثوم. كانت أمها تعمل جمعية لحقوق المرأة, وربتها على الاعتماد على النفس والاستقلالية الذان جعلاها لا تحتاج لأحدٍ أبدًا, كانت تَسعَد حين ترى ابنتها قوية وذات قرارات مصيرية. تَذْكُر "نضال" أنها لم تُعانَق أبدًا, ولم يُسمح لها بالبكاء إذا استاءت. تَذْكُر أيضًا حين أخبرت أمها أنها تفكر في السفر للخارج كي تكمل دراستها بعد الجامعة فشجعتها من الصميم, ولكن كانت هذه الفكرة سبب أول تدخل حقيقي لوالدها في حياتها. كان "فاروق" والدها رجلٌ مسالِم, يشبه كوب الشاي بالنعناع الذي يُرتشف صباحًا، لا يحب الصراعات ولا يهوى المشاكل, لذا حين رأى زوجته مستميتة على تربية الفتاة وحدها استسلم لرغبتها, ربما كان هذا السبب الذي جعله فاتر بالنسبةِ لـ"نضال", فلما قرر التدخل في أمرها رأى منها تحجرًا أشعره بالضعفِ وقلةِ الحيلة أمامها, وسكت كعادته, فأصبح البيت أكثر فراغًا وبرودة, خاصةً حين توفت أمها. وبعد تخرجها مباشرةً ملأت الحقائب بالأمتعة باحثةً عن شيءٍ ما ربما الحُب, ربما المُتعة, ربما الحياة.

غصبت روحي على الهجران
وإنت هواك يجري في دمي
وفضلت أفكر في النسيان
لما بقى النسيان همي

 نضال, تعالي أنظري ماذا وجدت.

ذهبَتْ لـ"حسام" التي وجدته في غرفة والدها وأمامه صندوقًا مفتوحًا مُمسكًا بورقةٍ مهترءة يمد يده بها إليها.
"الوداع يا بيتنا, يا بيتًا بنيته بفؤادي قبل يديّ, يا حُلمًا حَلُمتُ به سنواتٍ بعد سنوات...

كنت بيتًا لبورسعيد كلها, طالما جمعتنا في الأفراح والأتراح, وأقمنا فيك الأعراس واستقبلنا بين حوائطك التعازي...
يا بيتًا ألممت تناثر أفراد العائلة في أضلعك الواسعة, وملأت حياتنا دفئًا ومرحًا وحياة...

لا أعلمُ أأنا الذي أهجُرُك الآن أم أنت الذي تهجُرُني, ولا أعلمُ هل سأعود أم سأموت مهاجرًا...

ولكن طالما حوائطك قائمة وعمدانك متأصلة في مكانها سأكافح للعودة...

وطالما أنت موجود أنا موجود, حتى إن مُت.

ساكِنُك الوفي
منصور النجار

15/5/1969

 ما هذا؟
 هذا والد جدنا على ما أعتقد.
 أنا لا أفهمُ شيئًا.

الصندوق مليء بالكثير من الخطابات والصور, الصور للعائلة أيام صبى والدها, تراه جالسًا بجانب جدتها وهو في الثانيةَ عشرة من عمره تقريبًا, وخلفهما تلك اللوحة التي في صالة المنزل الآن. قلبَّت في الخطابات بعشوائية وفضول.
"وُلِد اليوم تحديدًا أول حفيدٍ لي "فاروق" من إبني الكبير "عيسى", واليوم فقط عدنا من التهجير...

أليس شيئًا عظيمًا أن تستقبل الحياة فردًا جديدًا في نفس الساعة التي استقبلتنا بورسعيد مرةً أخرى بعد التهجير؟ أليس شيئًا عظيمًا أن يمنحنا قدرنا الحياة مرتين!

لذلك قررتُ أن أحققَ حلمًا ظللت أحلمه طوال عمري, سأبني بيتًا كبيرًا يجمع العائلة تحت سقفه...
وهذا ما أطمح إليه...

سيكون من طابقين, الطابق الأول به صالون يحتوي على نسخٍ سأعيدُ رسمها لللوحات التي عشت حياتي أرسمها ودُمرت في القصف, والتُحف التي سأسافر لكافة بقاع مصر أجمعها, وتماثيل سأنحتها بنفسي...

وفي نفس الطابق ستكون هناك المكتبة التي سأنتقي الكتب التي فيها كتابًا كتابًا, والتي ستحتوي على شتى أنواع العلوم والفنون...

الطابق الثاني سيكون به خمس غرف نوم, الأولى لي ولمُهجتي الغالية, وسأسمي الغرفة "الجنة", سأنتقي كل جزء فيها بعناية, وأشرف على صنعها بنفسي, سينقش عليها "إيروس" إله الحب, وسيصوب سهامه إتجاهنا...

وثلاثة غرف ستكون لأبنائنا الثلاثة, وستكون غرف واسعة تكفيهم مع أزواجهم وأولادهم عندما يأتون لزيارتنا, كل غرفة ستكون باسم صفةٍ حميدة في صاحبها, فغرفة "مختار" سأسميها "محبة" كناية عن كونه أحن أبنائي, وغرفة "سميرة" ستكون "بديعة" رمزًا لجمالها الذي ورثته من أبدع ما رأت عيني, زوجتي ومُهجتي, وغرفة "عيسى" سأطلق عليها "نضال" لما بدر منه أثناء مقاومة للعدوان...

وأخيرًا ستكون الغرفة الخامسة غرفة للضيوف, وسأسميها "كريمة" دلالة على حسن الضيافة لدينا...
ستكون حديقة المنزل خضراء ومزهرة, وسأزرع فيها الياسمين العربي والنعناع, وسأهتم بها بنفسي يوميًا...
وسيكون البيت معروفًا في بورسعيد كلها بإسم "بيت النجار"
منصور النجار
11/3/1957

 بيت؟ لجدي؟ لم يخبرني أحد بهذا الأمر من قبل.

 أمي أخبرتني عنه مُسبقًا, لكنهم تهجروا من بورسعيد كلها منذ كانت في العاشرة تقريبًا.

 عمتي؟ أريد مقابلتها.

لو خطر حبك في بالي
ولا زار طيفك خيالي
حاولت أهرب من الأفكار
اللي تشعلل نار حبي
وفضلت وأنا بالي محتار، محتار
في الحب بين عقلي وقلبي

تقابلت "نضال" مع عمتها, أخبرتها أن بيت النجار كان ملتقى لكل أهل بورسعيد. كان "منصور" يجمع ألأصدقاء والأقارب في البيت شهريًا. ويقيم إفطارًا جماعيًا في بيته كل رمضان, ويذبح الذبائح كل عيد أضحى. كما أن الأحفاد كانوا يعشقون الذهاب هناك كل اجازة. أخبرتها أنه بنى البيت في عامين, وعاش فيه عشرة أعوام قبل أن يُهَجَروا التهجير الثاني. كانت زوجته قد توفت بعد ثلاثة أعوام فقط من بنائه، وأبناءه كانوا غير مقيمين في بورسعيد, لذلك بعد وفاة الأم أكثروا الزيارات لوالدهم الذي آبى تمامًا ترك البيت, حتى بعد اشتعال نيران العدوان الثاني, عدوان 5 يونيو1967. بعد أن قُرِر التهجير الإجباري جمع ما استطاع من الأشياء القيمة من البيت ورحل, وهذه الأشياء مُبعثرة في بيوت أحفاده الآن. وجلس عند "عيسى" جد "نضال" شهرًا فقط, حتى مات مُتحسرًا على فقدانه بيته. حين ألغى "السادات" التصاريح مما أمكن سكان بورسعيد من العودة ذهب "عيسى" للبيت فوجده مازال واقفًا, فأقام حفلًا كبيرًا وكأن والده "منصور" مازال موجودًا, وغُنيت أغاني فرقة "السمسمية" التي اشتهرت بأغاني الإنتصار.

 أتعلمين أن فرقة "السمسمية" هي في الأصل فرقتين تم ضمهما سويًا؟ إحدى الفرقتين تدعى "أولاد الأرض" والأخرى تدعى "نضال". لا أعلم أكان "فاروق" يعلم هذه المعلومة وهو يقوم بتسميتك أم لا.

 أهذا البيت مازال موجودًا؟

 لا أعلم, فلقد تم بيعه بعد وفاة أبي وعمي وعمتي, خاصةً أن الجميع كان موافق على البيع عدى "فاروق" وبالطبع لم يكن معه ما يكفي لشرائه.

غني ياسمسمية .. لرصاص البندقية
ولكل إيد قوية .. حاضنة زنودها المدافع
غني ياسمسمية .. لرصاص البندقية
غني للمدافع .. واللي وراها بيدافع

حزمت أمتعتها, وككل مرة تبحث عن شيء, لكن هذه المرة تبحث عن اعتذار, ربما لوالدها الذي مات دون أن يعرف كم تحبه رغم جفائها, وربما لنفسها, لتشعر أنها ليست سيئة إلى هذا الحد. ماذا سيحدث إن وجدت البيت؟ هل هو مهجور أم به سكان؟ كيف ستقنعهم أنها تريد أخذ جولةٍ فيه؟ ولِما هي تريد هذا من الأساس؟ أخذت العنوان من عمتها وانطلقت مع "حسام" بسيارته, حتى وصلا.

صعبان عليّ جفاك
بعد اللي شفته في حبك
مش قادر أنسى رضاك
أيام ودادك وقربك
لكن أعمل إيه
وأنا قلبي لسه صعبان عليه

كان البيت غريبًا, كأنه لم يعد بيتًا. دخلا ليجدا مكتب استقبال, فسألت إن كان هذا المكان بيت النجار سابقًا, وكان هذا البيت فعلًا.

 إذًا إلى ماذا تحول الآن؟

 جمعية "نضال امرأة" لحقوق المرأة.

دمعت عيناها وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة للسكرتيرة، وشكرتها ومشت.

 ألن تدخلي لتشاهدي البيت من الداخل؟

 لا, شاهدت ما يكفي, خذني إلى البيت.

ثم أخذت نفسًا عميقًا وهي تقول:

 حسام, سأقيم في بيت أبي, لن أسافر مجددًا.

وصبحت بين عقلي وقلبي تايه، تايه حيران

أقول لروحي من غلبي إنسى، إنسى النسيان

مادام بهجر عشان أنساك
وأفضي من الهوى كاسي
لقيت روحي في عز جفاك
بفكر فيك، فيك، فيك بفكر فيك وأنا ناسي
"أبي الغالي...

أود الاعتذار عما بدر مني طوال الأعوام الماضية, أعرف أني قسوت عليك أكثر من اللازم. وأعرف أني لو كنتُ على تواصلٍ دوريٍ معك ما كنتَ لتَمُت قبل أن أودعك, لكني أحاول الاعتذار قدر استطاعتي.

في الواقع أنا متوترةٌ قليلًا لأني لم أكتب خطابًا من قبل, لكن اليوم يومٌ مصيري في حياتي, وفي تاريخ العائلة كلها حسبما أظن.

اليوم سأذهب لمزادٍ علني على بيت النجار, سأشتريه يا أبي مهما كان الثمن, سأحاول أن أفعل ما يُسعدك لأول مرةٍ في حياتي.

وسواءً استطعت شراءه أم لا, كان يجب أن أخبرك أن ابنتك عرفت معنى كلمة "نضال" أخيرًا, وأعدك أني سآخذ ما تمنيتَ أن آخذه من اسمي, لا كما رُبيتُ أنا.

لك مني كل الحب والعرفان, وآمُل منك المُسامحة والعفو.

نضال فاروق النجار
19-10-2024

 سنتأخر على المزاد يا نضال.

تمسح دموعها التي بللت الخطاب, وتتركه على شاهد القبر الذي يحمل اسم والدها وهي تبتسم مودعة. تذهب إلى سيارة "حسام" حيث ينتظرها.

 افتح المذياع على أي شيء يُذِهب عني الكآبة.

قد ايه من عمري قبلك راح وعدّى
يا حبيبي قد ايه من عمري راح
ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة
ولا داق في الدنيا غير طعم الجراح


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى