

نعود كل يوم
الجثث في كل مكان، ورائحة الموت هي العطر الوحيد الذي يحلق في المكان، ورغيد مختبئ خلف أكوام النفايات لا يستطيع أن يخرج، ملثمون يجولون في المكان مع أسلحتهم، قتلوا الجميع بلا رحمة، الشوارع تصرخ ولا من مجيب، لم يعد يستطيع التنفس، حاول البحث عن قطعة قماش يسكن بها وجع الرائحة، عليه أن يصعد إلى منزله عله يرتاح قليلا، لكن الفوضى أخافته، كيف سيخرج وإن عادوا لتفتيش المنازل ما سيفعله، قرر تحمل الرائحة حتى يصبح المكان آمناً.
يد صغيرة تطبطب على كتفه، تمد يدها وتأخذه بهدوء، يبتسم لأول مرة منذ بداية الحرب على بلده، لقد قسموا المناطق فصارت التفاحة لعائلة فلان، والبرتقالة لعائلة فلان، أما الليمون فأخذه شخص مجهول عنوة وصمت الجميع، والعائلات الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة ستعمل لدى تلك العائلات بلا أي اعتراض كي تحميها، خرج من تحت أنقاض النفايات ليجد أن الشوارع نظيفة، فرك عينه غير مصدقٍ، من أنجز هذا العمل بسرعة، وكم نام؟.
شدت اليد الصغيرة على أصابعه كي يكمل، دخل منزله، رائحة طهو أمه في كل مكان، كم شعر بالفرح، بكى بحرقة الشوق، ركض إلى أمه كي يضمها، استيقظ فزعاً.
نظر حوله فوجد بعض الملثمين يعلقون الأوراق على الجدران، حاول النهوض عله يرى تلك الوجوه فدخلت شوكة في خاصرته وصاح من الألم، الأمر الذي جعله في أيد الملثمين وبسرعة البرق كان خارج النفايات وفي سيارة صغيرة وضعوا الكيس الأسود على رأسه وكبلوه بالحديد.
في غرفة باردة خلعوا الكيس وضربوه كثيراً.
– أرجوكم دعوني وشأني أنا لم أقترف ذنباً
– كنت تتجسس علينا
– أنا لا أعرفكم فكيف أتجسس عليكم
– نحن من نكتب على الجدران كل يوم
– أنا لا أقرأ
– أنت كاذب
– صدقوني أنا لم أقرأ، كل ما في الأمر أني أختبئ كي لا أموت
– جبان وكاذب
– وأنتم ماذا، هل ستحررون الأرض من خلال الكتابة على الجدران
– سنحررها بالكلمة وذلك أفضل من الخوف والنوم في النفايات
آلمه نعته بالجبان، وما كان ليفعل حين هوجم منزله، طلب من زوجته الهرب لكنها لم تستطع اللحاق به، كانت تنعته بالجبان أيضاً، طلبت منه مراراً الدفاع عن شجرة الليمون الوحيدة التي يملكونها لكنه منحها بكل خنوع، كان يخبرها دوماً أن لا ذنب له بوجوده بين يدي أصعب العصابات التي وجدت في البلد، وتجيبه أن السرقة واحدة إن كانت ليمون أو برتقال أو تفاح.
فيطلب منها الصمت وأنها نقرت رأسه بالخرافات التي تعيشها في الحلم فقط فتصرخ به بحزن
– من لا يدافع عن حقه لن يدافع عن بيته وعائلته
وحينها انقطع الكلام بينهما، وانقطعت بها الحياة حين هُوجم منزله وقُتل من فيه وبصعوبة هرب بنفسه قبل أن يلمحه أحد، قتلوا كل من في الحارة، بدأت المساومة على محصول وانتهت بالحارات كاملة، استوطنوا الأماكن كلها وهو وحيد لا يعلم إلى أين بات ينتمي.
ضربه أحدهم ونعته بالغبي:
– استيقظ من افكارك، أتحاول تبرير أفعالك أم الأفكار الغبية التي تعبث بك
– أرجوكم دعوني وشأني أريد أن أعيش
– وكيف ستعيش
– سأهرب من البلد
– وتترك المكان للغرباء كي تصبح بلا وطن
– وما قدمه الوطن لي، حروب لا تنته، قهر وذل، حتى عائلتي قُتلت
– وذنب من هذا
– ذنب الغرباء وليس ذنبي
– ذنبك أيها الجبان المتخاذل
أعادوا ضربه وهو يصرخ حتى دخل زعيمهم وطلب منهم أن يتوقفوا.
تنفس الصعداء حين فكوا وثاقه، تركوه مرهقاً متعباً جائعاً وخرجوا جميعا، نظر حوله في الغرفة التي عرفها حديثاً فوجدها غرفة في منزله، تفوح منها رائحة الدم، وجد يد زوجته مقطوعة، وقف يبحث عن جثتها وجثة ابنه، لم يجد إلا تلك اليد، أين ابنه، هل من المحتمل أن يكون على قيد الحياة.
خرج مسرعاً خلفهم:
– أرجوكم لحظة، ساعدوني
– ماذا تريد
– لم أجد جثة ابني
– ربما أخذوها حية
– ساعدوني
– وأولاد العالم وأهاليهم ممن فقد، ألا تهتم
– أجل أجل، فلأذهب معكم
في البداية كان عليهم أن يمتحنوا ولائه، وضعوا له الكثير من الاختبارات فنجح، تحول إلى شخص آخر، قاموا بتغذية عقله وعلموه حمل السلاح، وصار المقرب من رئيسهم حتى أصبحوا بمأمن فخلعوا تلك الأقنعة التي تغطي وجوههم، صدمه الأمر، كان بعضهم من أصدقائه، والآخر من حارة قريبة يعرفها، وهناك النساء أيضاً، تحولت حياته وأفكاره إلى منحى جديد، صاروا يهجمون ليلاً على أوكارهم، يُقتل من يُقتل ويعود من يعود، وفي كل مرة يعودون بالكثير من الليمون والبرتقال والتفاح، لكنهم لا يشبعون، وتعاد الكرة، وعادت أفكاره العبثية، ماذا يفعل بنفسه؟، أين ابنه، لم يساعده أحد لاسترجاعه، جلس قرب صديقه وعد ليتحدث إليه بالأمر:
– يا صديقي، ماذا نفعل؟. نحن لا نعيد المكان، ولا نحارب القهر، نحن نسرق فحسب، لم نحمي شخصاً، ولم نساعد مسناً ولا يتيماً. من نحن؟.
– لا أعلم يا صديقي لكن ما أعلمه أن ما نفعله هو الذي يبقينا بآمان
جلس في زاوية وحيداً، ليتهم لم يعلموه ولم يساعدوه، انهم كمرتزقة يعيشون فقط لكنهم لم يحرروا من الأرض شبراً ولا أعادوا له ابنه، هرب ليلاً متسللاً بعد أن خبأ ما استطاع من الليمون والبرتقال والتفاح وابتعد عنهم.
المساحات التي امتدت أمامه شاسعة، خرج من دائرة الأرض ليجد مساحات لا علم له بها، صارت أفكاره أكثر نوراً، نعم الكلمة تساعد فلقد علموه وقرأ الكثير لكن عقله فقط من حلل ما هو صحيح وما هو منطقي عن غيره، وصل مدينة جديدة، استبدل ما في يده بحفنة تراب جيدة، أعاد بناء منزل من طين، رمم نفسه المتعبة، زرع محصوله الجديد، كان يحلم بلقاء ابنه كل يوم، يتأمل عودته سالماً إليه، يسأل عنه في كل مكان، ولم يمت الأمل لديه
سمع ضوضاء في الخارج، أتى جاره مسرعاً إليه
– يا رغيد اهرب فهناك رجال ملثمون يقتربون من مكاننا
– وماذا عن محاصيلنا وبيوتنا
– سنبني غيرها هيا فلننجو بحياتنا
– لن أخرج
خرج إلى الملأ، وصاح بأعلى صوته، لا تهربوا أرجوكم، لن نقضي حياتنا في الهروب، صدقوني لقد عانيت ما عانيت، ما هؤلاء إلا صورة، فلنكن يد واحدة، لن نسمح لهم بالاقتراب، لن نموت، لقد قتلوا عائلتي وضاع ابني فلا تفعلوا مثلي.
صدقوه وحملوا ما استطاعوا من سلاح ووقفوا كمتاريس أمام الغريب القادم، وجههم بطريقته، وبكل ما تعلمه في محنته، وانتصروا أخيراً. وصار قائدهم وحاميهم وملاذهم.
علم أنه في الطريق الصحيح فلقد رفض كذب حمايتهم سابقاً وأنقذ بفكره من استطاع وشعر أنه رجل جديد في هذا العالم المليء بالخيانات.
اليوم يجلس رغيد على كرسي خشبي صغير، حوله أشجار من التفاح والليمون والبرتقال، زرع وربى كل نوع استطاع تربيته، يأتي صغار الحي إلى حقله فيُقبلهم ويعطيهم ما يحبونه من الفاكهة، ينظر إليهم بعين الأب، ويعلم أنه يرى ابنه فيهم، وحين امتد به العمر وصاروا شباباً نادوه ب بابا واعتنوا به كأب وصار عنده أولاد الحي كلهم، حملوا له من البر ما حملوا ومن الحب ما استطاعوا، فالبذرة الجيدة تعطي موسماً من الحياة واليقين الصحيح.
النهاية