

وَأَغسلُ وجهَ الصّبَاحِ بالندى للشاعر فيض أحمد فيض

متعب هو تدوين السير الذاتية والتراجم، وأكثر ما يتعب فيها سبر سيرة حياة الشعراء، تلك التي لم يعيشوها و اللحظات التي خُطفت من أعمارهم وهم الباحثون عن الحياة، متعب هذا الاختزال لرحلة عمر تختصرها بعدة أسطر لاسيما إن كانت حياة صاخبة عاشها الشاعر بكل أطيافها، وأعني هنا الاغتراب الروحي والمنفى والحزن والفقد وكل هذه الأمور يجب أن تصيغها بكلمات معدودة وصفحات لا تتعدى البضع، هي مهمة شاقة وسط يقين تام أن كل لحظة مرت على الشاعر وكأنها دهر، تارة يتراءى أمامك مهانا يجر إلى السجن أمام الجموع ثم وحيدا في زنزانته و يتمنى فقط قصاصة ورق ليكتب عليها، وتارة منهكا في منفاه وقد نال منه السُّكر و معطفه يتدلى على كتفه وجسده يترنح في شوارع لا أهل حوله ولا أصدقاء. لذا تشعر وكأنك تحتاج إلى أصابع شقيّة تنزف وهي تكتب مشوار عمر شاعر كبير ورحلة مناضل كافح لأجل الإنسانية.
يعد فيض أحمد فيض من أبرز شعراء اللغة الأردية بعد العلامة الدكتور محمد إقبال وأكثر شعراء جيله قبولاً وشعبية ومن أعمقهم تأثيراً، و هو بالمثل شخصية بارزة من الحياة العامة في باكستان، ولد فيض أحمد فيض بن سلطان محمد خان بن صاحب زاده خان في سيالكوت الشمالية في الثالث عشر من شباط عام 1911 (التابعة لإقليم البنجاب الباكستاني حاليًا) وهي مدينة معروفة بأنها ولّادة للشعراء فمنها ولد الشاعران مولانا ظفر علي و محمد إقبال، وطبقاً لمقابلة أجراها معه الدكتور عبادة البريلوي عبر أثير إذاعة لندن قال فيض" لا أعلم تاريخ ميلادي إلا أن الشهادة التي منحتني إياها مدرستي كان مذكوراً فيها كانون الثاني عام 1911 لاسيما أن أكثر التواريخ المسجلة بالمدارس كانت وهمية آنذاك، ثم استدركت من بلدية سيالكوت بأني ولدت في الحادي عشر من شهر شباط عام 1911 ".
نشأ فيض في بيئة عائلية كبيرة وسط بنات عمته وجدته وامرأتين أفغانيتين إحداهما "نانا جان" التي كانت مدبرة المنزل، وأخرى " آبا بانو " - وربما هذا أحد الأسباب الكامنة وراء مكانة المرأة في حياة فيض الأدبية، وذلك في مدينة سيالكوت على الشارع الرئيسي بمنطقة " كنك مندي" حيث يقع بيتهم الواسع، والذي تقع أمامه فسحة واسعة كان يجتمع بها والده بمعية أصدقائه ليتجاذبوا أطراف الأحاديث.
والده هو سلطان بخش الذي ولد بدوره في بيت عكار "صاحب زاده" بقرية كالا قادر التابعة لمديرية "نارووال في إقليم البنجاب"، و ينحدر من أسرة فقيرة الحال، وعلى النقيض من فيض الذي اعتبر أسطورة حية في باكستان وفي جميع أنحاء العالم، فلم يعرف والده على نطاق واسع على الرغم من أنه عاش حياة أكثر صخبا من فيض نفسه، فسلطان محمد خان كان راعيًا فقيرًا، وهو سليل عائلة فلاحة من سيالكوت، تلقى تعليمه في مدرسة الناحية، وعرف عنه منذ صغره شغفه بالعلم، فترك المنزل مغادراً إلى لاهور لمتابعة دراسته ، وهناك عانى من قسوة العيش، فكان يبيت في مسجد كان يرتاده الطلبة الفقراء. ومع الوقت كان يدرس بنفسه ويتعلم اللغات الفارسية والأردية والإنجليزية. وتشاء الأقدار أن يلتقي أفغاني رفيع المستوى به والذي بدوره يعجب بالمهارات اللغوية التي يتمتع بها الشاب وذكائه، ليصحبه الثاني إلى البلاط الملكي في كابول التي كانت في أوج ازدهارها آنذاك. هناك تقلد سلطان محمد منصب مترجم الملك الشخصي. هذه الأحداث قبل أن يُولد فيض، ومكث فيها لفترة وتقلد هناك المناصب إلى أن وصل إلى مرتبة مدير الإدارة المدنية، ولكن الإصلاحات التي قام بها أثارت حفيظة حرس البلاط فدسّوا له المكائد، مما اضطر به الحال إلى السفر متنكراً من كابول، ثم رحل إلى إنجلترا ليَدرس في جامعة كامبريدج وهناك حصل على إجازة في الحقوق وأصبح صديقاً للعلامة محمد إقبال، وختاماً عاد للعمل بمهنة محامٍ ممارس.
كان سلطان محمد خان قد تزوج عدة مرات، بما في ذلك بعض بنات النبلاء الأفغان. وبعد عودته إلى سي الكوت تزوج من فاطمة غلام والدة فيض، وهي زوجته الأخيرة والصغرى، ثم وبعدها بفترة قصيرة ولد فيض وأصبحت الأسرة تملك آنذاك أراض وملاكات وفيرة تضم ستة جواميس وعربة بأربع عجلات يجرها حصان وعدد من الخدم وثروة نقدية لا بأس بها.
ولما توفي سلطان كان فيض حينذاك طالباً بالكلية الحكومية في لاهور، وأثناء ذلك علم أن والده يرزح تحت كاهل الديون، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي حلت وبسببها كَثرتْ مصاريف الأراضي دون مدخول يذكر، يقول فيض عن تلك المرحلة أنه كان ينام أحياناً جائعا بعد وفاة أبيه، لكنه لم يذكر هذا الشيء لأحد حتى لأقرب أصدقائه.

التعليم:
نشأ فيض في بيئة دينية وقبل أن يبدأ تعليمه كانت نانا جان تسرد له ما تيسر لها من قصص فارسية، ولما بلغ السبع سنين من عمره بدأ ينهل من علوم القرآن الكريم ويحفظ سوره، وفي أثناءها أصيب بألم في عينيه مما أوقفه عن متابعة الحفظ، ولكنه تابع في منزله يتعلم اللغتين الأردية والفارسية من الأستاذ عطا محمد إلى موعد تسجيله في مدرسة اللجنة الإسلامية والتي كان والده يديرها، ولكن لم ترق له هذه المدرسة أو ربما لصفات فيض صفات الشاعر النزقة، وأعني هنا صفة الرفض لأي حكم و رقيب حتى لو كان والده، فانتقل إلى مدرسة سكاج مشن.
تلقى تعليمه المبكر تحت وصاية العالم المشهور سيد مير حسن، المعروف باسم شمس العلماء في مدرسة سكوتش ميشن الثانوية. و على الرغم من جميع الاتهامات اللاحقة الموجهة ضد فيض باعتباره ملحدًا، فقد حفظ جزءًا من القرآن في سني صباه المبكرة.
دعي فيض يوماً إلى المنبر لتلاوة القرآن وآنذاك كان العلامة محمد إقبال رئيس ذلك المجلس وأعجب ببلاغته، لاسيما أن فيض كان يواظب بصحبة والده على أداء صلاة الفجر في المسجد وهناك كان يستمع لتلاوة الشيخ إبراهيم السيالكوتي.
أثناء قيامه في سيالكوت كان ينضم إلى الأمسيات الشعرية التي كانت تنعقد تحت رعاية بنديت راج ناران ارمان، ولما بلغ الصف العاشر بدأ في السجع. وفي هذه الأيام أشار عليه الكاتب سراج الدين بترك الشعر وصرف عنايته إلى العلم فاستجاب له الفيض، لكنه لما ذهب إلى كلية مري نصحه البروفيسور يوسف سليم معاصر العلامة إقبال على نظم القصائد، وكان فيض في السابق حين كان يدرس في الصف الثامن قد هجا في قصيدة له الشاعر جهجو رام زميل نذير أحمد محمود، واشتهرت هذه القصيدة . فلما بلغ فيض إلى جهجو رام يستعفيه فوجده فرِحا لشهرته.
أحرز فيض علامات متقدمة في الاختبارات السنوية للدرجة الثانوية بتقدير امتياز، ثم انتقل إلى كلية مري سيالكوت عام 1929، و بعد الانتهاء من تعليمه في سيالكوت، انضم فيض إلى الكلية الحكومية في لاهور، بناء على توصية شخصية من إقبال، وكان يشارك في الأمسيات الشعرية التي كانت تنظم كل أسبوعين وربما هذه المرحلة تحمل البدايات الأولى لديوانه الشعري الأول. تعرف في تلك الفترة على كل من البروفيسور لينك هارون والبروفيسور بطرس بخاري و البروفيسور جتر جي الذي تعلم منه الإنجليزية و دكتور صدر الدين اللغة العربية أمّا الفارسية قد تعلّمها من القاضي فضل حق و صوفي غلام مصطفى إلى جانب مواظبته على حضور الأمسيات الشعرية في بيت بطرس بخاري وكذلك المحافل الأدبية التي كنت تنعقد في بيت صوفي غلام مصطفى. و استمع إقبال إلى تجارب فيض الشعرية الأولى في الأمسيات الشعبية الشعرية، ومنحه مرة جائزة في مسابقة شعرية. كما شارك في أمسية شعرية تحت رعاية جمعية إخوان الصفاء وحظيت قصائده بإقبال جماهيري واسع.
وفي عام 1931 حصل على البكالوريوس بتقدير جيد وكان من المواضيع التي تطرق إليها في دراسته الإنجليزية والأردية والعربية والفلسفة. ثم تابع فيض تعليمه حتى حصل على درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية بمرتبة أستاذ فنون من جامعة البنجاب عام 1934م بتقدير جيد من جامعة بنجاب ونجح في اختبارات الماجستير الخاصة باللغة العربية بتقدير امتياز.
اطلع فيض أثناء دراسته المدرسية والأكاديمية على العديد من كلاسيكيات الشعر الأردية والإنجليزية. مفتوناً بالمدارس التقليدية الشعرية ومؤسسي شعر الأردية أمثال مير تقي مير ، وميرزا غالب ، والمعروفين بسادة شعر الغزل الأردي التقليدي، لذا لا ينظر إلى فيض على أنه آخر الشعراء الكلاسيكيين في الأردية ، بل أيضًا الشاعر المفصلي الذي مزج الشعر القديم والحديث، و على الرغم من الجيل الشعري الفذ الذي عاصره فيض والأسماء ذات الشهرة الرنانة، وتلمذته على أيدي عدد من الشعراء الكبار وملازمتهم ملازمةً طويلة لاسيما أنهم كانوا في طور المحافظة والتقليد إلا أنه برع وفاق أقرانه وأساتذته في المعاني والبيان والنحو وقرض الشعر والتجديد الشعري.

حياة العمل
بدأ فيض حياة العمل في كلية أمرتسر عام 1935 كمحاضر للغة الإنجليزية وكان محبوبا بين تلامذته ذو روح مرحة وخاصة أنه كان رئيس فريق الكريكيت، وقدّم بحثا هاما عن الشعر الأردي ما بين عامي 1857 – 1939 وتضمن خمسة عشر باباً يضم أعلام ورموز الشعر الأردي. ثم عاد فيما بعد إلى لاهور، مركز الحياة الأدبية النشطة وشرع في التدريس بكلية التجارة، وفي عام 1936 انضم إلى فريق الكتاب الماركسيين تحت رئاسة سجاد زهير مؤسسها.
تزوج فيض من أليس عام 1941 حين كانت في زيارة لها إلى أختها في أمريستر وهو مدّرس في الجامعة، وعقد زواجهما الشيخ والسياسي المعروف لاحقا محمد عبد الله شيخ، ووقع في هواها ورأى فيها الامرأة المناسبة وبالفعل سنرى لاحقا أنها صانته بكل حبّ وهو في معتقله ومنفاه، حضر حفل زفافه كل من الشعراء مليح جلال آبادي ومجاز وغيرهم.
خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية تخلى فيض عن العمل في المدارس وانخرط في صفوف جيش المستعمرات البريطانية وانضم إلى سلك الجيش الهندي البريطاني في قسم العلاقات العامة أثناء المقاومة الصارمة للنظام الفاشي، حينذاك كان عصر المقاومة الشديدة ضد الفاشية عالميا. وكان الداخل الهندي مرتابا من انتصار جيوش هتلر على الروس علاوة على مخاوفهم من سيطرة اليابان على الهند، ولعب فيض دوراً هاما في تأجيج أفراد الجيش الهندي ضد الفاشية، وانقسمت الأحزاب السياسية في الهندي منها ما يؤيد الفاشية ومنها ما هو نصير للتقدمية والشيوعية وبذلك بدأت أول اتصالات فيض بأعضاء الحزب الشيوعي، ودارت عدة اجتماعات في منزله. حتى تناهى ذلك إلى مسامع السلطات البريطانية وبالتالي اعتقلت الزعيم الشيوعي وي دي تشوبرا على إثرها.

ولم يستمر الأمر طويلا، فإثر المجازر التي قامت بها الحكومة اليابانية ضد أفراد الجيش الهندي الذين كانوا في سنغافورة وسط صمت بريطاني، وردة فعل الثاني العنيفة بمحاكمة الأسرى المدنيين والعسكريين اليابانيين، إلى جانب تجنيد المزيد من الهنود لزجهم في الحرب الروسية الأمريكية ونواياهم بتقسيم بلاد الهند وبقاء الهند تحت الرعاية البريطانية حتى بعد استقلالها، ترك فيض العمل في الجيش الهندي البريطاني، وكان قد تبوأ رتبة رائد آنذاك وحظى بوسام كمكافأة على جهوده وجدارته إبان الحرب.
في تلك الفترة وأثناء إقامته في أمرتسر التقى بزعيم حزب العمل فضل إلهي الذي كان قد تعرف عن كثب على الشيوعية الروسية، كما تعرف على الزعيم بشير أحد بختيار، وفي الوقت الذي كان فيه القسم الكبر من أدباء اتحاد كتاب الأوردو دون صلة مباشرة مع الطبقات العاملة، قام بتنظيم صفوف العمال الذين يعانون من أوضاع تعيسة تحت مسمى نقابة العمال، ولاتزال تدين له نقابة الحمّالين بالفضل الكبير للجهود الجبارة المتواصلة التي بذلها في سبيلهم، ولم يكن هذا كل شيء بل أنه عمد إلى تعليم الأميين ممن يعانون العوز مبادئ القراءة والكتابة وأملى عليهم تعاليم الماركسية الأولى.

وبعد تقسيم الهند، بات فيض من مواطني باكستان و أصبح رئيسا لاتحاد نقابة التجار الذي كان يرأسه ميرزا إبراهيم، وناب عنه في حضور مؤتمر منظمة العمل العالمية في سان فرانسيسكو، وآخر في جنوى، ثم تخلى عن الوظائف العسكرية وانصرف إلى الصحافة كمحرر في مجلة أدب لطيف حتى تم مصادرة المجلة، ثم أصبح رئيس تحرير باكستان تايمز الصادرة بالإنجليزية وأصدر في لاهور صحيفة اليوم اليومية باللغة الأوردية وكان يدعو فيها إلى الحقوق الديمقراطية للشعب الباكستاني والتوزيع العادل للموارد المالية وصرح بأنه يريد للشعب الباكستاني أن يكون له القدرة على تقييم وضع بلادهم الحالي وظروفها بالإضافة إلى أن يكون لهم إطلاع على ما يجري في العالم وكان ضد أي تزوير إعلامي من تضخيم للأخبار والتطبيل للسلطة الحاكمة، كان أمل فيض أن الدولة الجديدة على مبادئ العدالة الاجتماعية ولكنه ما لبث أن تبين خيبة آماله، لا من جراء أعمال القتل الجنونية و السلب التي رافقت عملية التقسيم فحسب، وإنما لما أنطوت عليه قوانين الدولة الجديدة ذاتها من اجحاف، فقد كان هدفها الأول هو تأمين الرخاء لرجال الصناعة وملّاك الأراضي دون سواهم.
في تلك الآونة، ازداد تعلقه بالحزب الشيوعي وبدأ كفاحه من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية لمواطني بلاده، وأصبح نائبا لرئيس اتحاد نقابات العمال الباكستاني، كي يستطيع من منصبه الدفاع عن مصالح الطبقات الكادحة بصورة أشد وأمضى، وفي نهاية عام 1949 قام بتنظيم المؤتمر الأول للكتاب التقدميين ثم قام بتأسيس حركة السلام الباكستانية وفي عام 1950 أصبح الأمين العام للجنة السلام الباكستانية ثم عضوا في مجلس السلام العالمي.
في عام 1948 أصدرت الشرطة أمراً بالقبض على فيض بسبب بعض الأخبار التي نشرها في صحيفته، واقتيد إلى المحكمة رافضا أي محامٍ للدفاع عنه، ودافع عن نفسه وحقوقه حتى تمت تبرأته.
وفي عشية الانتخابات العامة الأولى التي أجريت في البلاد عام 1951 اتهم رئيس وزراء باكستان لياقت علي خان الحزب الشيوعي الذي كان يقوم بنشاطه رسميا في ذلك الوقت وإن كان قد خضع باستمرار للرقابة بأنه يدبر مؤامرة لاسقاط الحكومة بمساعدة ضباط الجيش الباكستاني وعلى أثر ذلك، ألقي القبض على سجاد زهير السكرتير العام للحزب الشيوعي واللواء أكبر خان أحد أركان حرب الجيش الباكستاني، والرائد محمد اسحق سكرتير الحزب الشيوعي الباكستاني وغيرهم من الضباط الآخرين المتهمين بتهمة تدبير مؤامرة عسكرية في روالبندي، وأيضا على فيض إذ في التاسع من آذار أيقظت صوت خطوات الجنود وقرع الباب فيض وأليس من فراشهما وحينئذ لم تكن أليس تدري أن فيضا سيعود أم لا وهل يا ترى ستطول مدة محاكمته.
و بالمناسبة، كانت العقول المدبرة لهذه المؤامرة من ذوي الفكر اليساري، وسعوا من خلالها إلى إنشاء جمهورية مدنية على غرار تركيا أثناء حكم مصطفى أتاتورك، وطلب الضباط المدبرين لها انضمام الحزب الشيوعي الناشئ حديثا أن يكون جزءا منها، ولكن رفض فيض ورفاقه الانصياع لذلك، وسرعان ما انكشف أمرهم وجرى القبض على كل من كان على اتصال بهم.
وبدأت المحاكمة في حزيران عام 1951 و جرى تسجيل أقوال الشهود عام 1952، وحظيت بالسرية التامة وكانت تضم قائمة المتهمين خمسة عشر شخصا منهم الرائد أكبر خان، والرائد نذير أحمد، والعميد محمد صادق خان، والعميد لطيف خان والملازم نياز محمد وضياء الدين والرائد إسحق محمد خان وحسن خان والنقيب خضر حياة والنقيب ظفر الله بوشني وفيض أحمد فيض والسيد سجاد ظهير ومحمد حسين عطاء وزوجة نسيم أكبر خان.
أما البت في القضية فكان عام 1953 وحكم على فيض بالسجن لأربعة أعوام مع الأشغال الشاقة وغرامة قدرها خمسمائة روبية. أمضى فيض الأشهر الثلاثة الأولى من اعتقاله في السجن المنفرد في سجون ساركودها و فيصل آباد وخلال هذه الفترة لم يسمح له بمطالعة كتب أخرى غير القرآن الكريم، وفي حزيران عام 1951 نقل إلى سجن الفرقة في حيدر آباد حيث منح هناك جانبا أكبر من الحرية، إلا أنه أمضى هذه الفترة وهو مهدد بتوقيع عقوبة الإعدام عليه في أي وقت، وانتهت المحاكمة التي جرت في كانون الثاني عام 1953 بالحكم على جميع المتهمين بالسجن لمدد مختلفة، وفي العام الذي أعقب ذلك منع الحزب الشيوعي من مباشرة نشاطه في جميع أنحاء باكستان، ونقل فيض بعد استياء حالته الصحية إلى مستشفى جناح بكراتشي للمعالجة ثم استبقي في سجن مونتجامري فيما بعد، حيث تمتع بحريات كبيرة نسبيا بالنسبة إلى سجين، فكان يقضي وقته بالاعتناء بأزهار الجنينة، كما شرع في تعلم اللغة الفرنسية وأخيرا أطلق سراحه بعد أربع سنوات وذلك عام 1955.
الحبسيات التي نظمها فيض في معتقله تعتبر من أشهر قصائده، و كان يقول إن سنوات السجن كانت من أكثر سنواته إنتاجية. و إن الوقت الذي قضاه في السجن كمثل الوقوع في الحب مرة أخرى، وهذا يعني أنه قدم له قوة دفع لوضع أفكاره في القصائد.
بعد إطلاق سراحه عاد رئيسا لتحرير باكستان تايمز، كما شارك في أمسية شعرية وطنية في الهند، ومن ثم استجاب لدعوة في روسيا وأيضا زار الصين وهناك نظم قصيدتين بعنوان "سفر نامه" متأثرا بثورتها. و بعد الانقلاب العسكري الذي قام به أيوب خان عام 1955 اشترك في المؤتمر الذي عقد للكتاب الآسيويين والإفريقين في طشقند وهناك سأله ألكسندر سركوف هل ستعود إلى الوطن، فأجابه نعم النضال نضال يا صديقي سأزور لندن ومن ثم أعود للوطن، ومن جديد ألقي القبض عليه بعد عودته من الاتحاد السوفيتي وسجن احتياطيا ولكن أخلي سبيله هذه المرة بعد خمسة أشهر مع شيء من التكريم والحفاوة، في تلك الفترة انتشرت الأحكام العرفية وساد جو من التكتيم وتعرض فيض لأول أزمة قلبية وبقي طريح الفراش لمدة ثلاثة أشهر، ثم عرضت عليه الحكومة رئاسة تحرير باكستان تايمز مرة أخرى لكنه رفض، وفي عام 1962 تلقى دعوة من موسكو وأنعم عليه هناك بوسام لينين للآداب اعترافا وتقديرا له بالنشاط الذي أبداه في صالح التقدم الاجتماعي و السلام العالمي، وكان وزير الصحة آنذاك ذو الفقار علي بوتو أول المهنئين له على ذلك الوسام.
أثناء تلقيه الدعوة لاستلام الجائزة سافر عبر البحر كون صحته لا تسمح له بالسفر عبر الطائرة، فاصطحب معه ابنته سليمة وحاولت المخابرات مضايقته على متن السفينة بحجة تفتيش الوثائق لكنه صبر على هذا الاعتداء الجائر، وفي موسكو ألقى كلمة دعا فيها إلى العدالة الاجتماعية والمساواة، ثم تتالت الدعوات إليه من كل من كوبا و الجزائر ومصر والعراق، ثم استقر في لندن لفترة وكان يقدم برنامجا عبر إذاعة البي بي سي كما توطدت علاقته ع المفكر رالف راسل.
كتب في تلك الآونة أغاني فيلمين مع حوراهما وعمل في كلية عبد الله هارون في كراتشي كما كان ينشر نتاجاته في جريدة دان.
في السنوات التي تلت ذلك، توثقت الروابط بينه وبين النظام القائم، فتقلد منصب مدير كلية عبد الله هارون في كراتشي وعمل كمستشار ثقافي للحكومة الباكستانية وعين عام 1960 أمينا للمجلس الفني الباكستاني في لاهور، وفي عام 1972 رئيسا للمجلس القومي الباكستاني للفنون في إسلام آباد، وقام في هذه الفترة برحلات واسعة زار خلالها الكثير من البلدان وعاش هذه الحقبة حياته كشخصية اعتبارية، ومع ذلك ظل شاعرا قبل كل شيء.
أثناء استلام ذو الفقار علي بوتو رئاسة الوزارة، تولى فيض منصب مستشار ثقافي فأسس المجلس الوطني للفنون وإدارة الفنون الشعبية وأثناء ذلك قل نتاجه الأدبي كثيرا، وكان فيض يكتب افتتاحيات جريدة ليل ونهار و يكشف فيها خبايا ما يجري في البلاد والعالم.
وبعد انقلاب الجنرال ضياء الحق وإعدامه لذو الفقار علي بوتو، وقعت باكستان تحت نظام عسكري ديكتاتوري من خنق للحريات وكتم للأفواه ومصادرة حرية الرأي، وجد فيض نفسه مرة أخرى تحت نير الظلم لا يستطيع التحرك، فوردت له دعوة من مجلة لوتس التي كانت تصدر في القاهرة ويتولى رئاسة تحريرها الأديب يوسف السباعي ينضم إليها لاحقا، وبعد اغتيال السباعي تولى فيض رئاسة تحريرها من بيروت، و من هناك تعرف على الزعيم الفلسيطيني الراحل ياسر عرفات وتوطدت صداقتهما وكتب عن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون وعن حقوق الشعب الفسطيني ووحشية القصف الإسرائيلي والمجازر التي يرتكبها.
وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان نصح عرفات فيض بمغادرة بيروت فاتجه إلى دمشق سرا ومن ثم إلى لندن مرورا بموسكو وكان في نيته العودة إلى الوطن وأن ينتقل مكتب مجلة لوتس إلى باكستان.

عرف فيض بشراهته للتدخين وأيضا من معاناته من مشاكل تنفسية، ولما كان مؤتمر الادباء في بيروت دخن فيض كثيرا فأصابه الدوار وسقط مغشيا عليه في بيروت ولكن ظروف الحرب كانت سيئة جدا فاضطر الطبيب للمجيء في اليوم التالي، ثم غادر إلى موسكو ومكث هناك في المستشفى، ثم عاد إلى مسقط رأسه قبل أن يتوفاه الله بيومين، وأنشد هناك في بيت ابن عمه البروفيسور محمد صادق من شعره البنجابي.
حضر فيض الذكرى السنوية لزواج أحد أصدقائه وأثناء ذلك تعرض لدوار خفيف، وحين عودته إلى المنزل وجدته زوجته طريح الفراش فنقلوه على إثرها إلى المستشفى في منتصف الليل لكن حالة شاعر الصباح أصبحت سيئة جدا في الصباح، وتوفي يوم الثلاثاء في تمام الساعة الواحدة والربع نهارا في العشرين من تشرين الثاني عام 1984.
ترنيمةٌ لأطفالِ فلسطينَ
كفاكَ دمعاً يا بنّيَ، بالله كفى
قدْ طالتْ مواسمُ البكاءِ
حتّى لمْ يعدْ في العينِ دمع
دعْ أمك تنمْ، دعْها
في الحالِ نامتْ بعدَ بكاءٍ طويلٍ
كفاكَ دمعاَ بنّي، باللهِ كفى
ها هوَ أبوكَ أخيراً،
قدْ نالَ قِسْطاً مِنَ الراحةِ
مِنْ كلِّ هذا الغمِّ والبلاء
لا تبْكي يا بنّيَ باللهِ لا
هناكَ أخاكَ اختفَى في مكانٍ آخر
وهوَ يطاردُ فراشات أحلامِه
لا.. لا تبكي يا بنّيَ
أختكُ ركبتْ هودجَها
ورحلتْ إلى أرضٍ ثانيةٍ
لا.. لا تبكي ثانيةً يا بنّي
في فناءِ دارِك
غَسلُوا الشمسَ الميتةَ
ودفنُوا القمرَ، قبلَ أنْ يغادرُوا
هذا ما يحدثُ في بلادِكِ
كفاكَ دمعاً، يا بنّي، بالله كفى
وهكذا، إذا استمرَ نحيبُكَ على هذا الحال
لزادَكَ بكاءً أكثرَ وأكثر
كلٌّ مِنْ أمّكَ وأبيكَ وأخيكَ وأختكَ
وأيضاً أيضاً الشمسُ والقمرُ
ولكن إذا مَا تبسّمتْ
ربّما سيأتونَ بهيئةٍ أخْرى
وفي ظرفٍ مختلفٍ
كي يلعبُوا معك
– استخدم الشاعر كلمة دولا وهي مرادف لبالكي والتي تعني بالعربية الهودج.
– استخدم الشاعر كلمة بهيس والتي لها دلالتها الدينية عند البوذيين وتعني تقمص الأرواح والولادة من جديد، ولكن بهيئة أخرى.
– نظم فيض أحمد فيض هذه القصيدة في بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي مطلع الثمانينات.
دعْني أفكر*
دَعْني أفكرُ هُنا
ولوْ قليلاً
في هذا البستانِ
الذي أضحى أرضاً جرزاً
عنْ أولِ غصنٍ فيهِ كانَ
وأولِ بُرعمٍ أزهرَ منهُ
عنْ أولِ غصنٍ فَقدَ لونَه
قبلَ أن يستسلمَ كلُّ شيءٍ للنّدمِ،
وقبلَ هذا وذاكَ
دعْني أفكّرُ
في تلكِ اللحظةِ التي نَزفتْ منْها الأشجارُ
حينَ قطعتْ أوردتَها
وسطَ مجاعةِ الدمِّ
وزحفِ الفصلِ الكئيبِ على تويّجِ الزهرةِ
لا شيء يمكنُ إنقاذهِ وسطَ عاصفةِ الألمِ
لذا دعني أفكر
****
دعْني أفكرُ لوهلةٍ
في هذهِ المدينةِ التي كانتْ تضجُّ بالحياةِ
كيفَ أصبحتْ خاويةً هكذا حتى منْ الوحدةِ
لا سفن كانتْ تحملُهم
لكنّهم رحلُوا
إلى أنْ غدتْ وادياً للموتِ
عنْ أولِ سهمٍ ناريٍّ حَوَّلَها إلى حريقٍ
أيّ نافذةٍ مُظلمةٍ منْ بينَ تلكِ المطلةِ اخترقَها الدمُّ أولاً
أي تلكَ النوافذِ كانتْ شمعتُها وضاءةً آنذاك
دعْني أخمّن..
وتسألُني عنْ هذهِ البلادِ
تفاصيلُه تغادرُني
لا أذكرُ خرائطَه ولا جغرافيتَه
كَمَا لا أذكرُ شيئاً منْ تاريخِه
أنا أزورهُ فقط بذاكرتِي
كما أتذكّرُ حبيبةً في الأيامِ الغابرة
بشغفٍ كبيرٍ ومعَ عدمِ الخوفِ منَ النّدمِ،
والآنَ وقدْ بلغتُ منَ العمرِ عتيا
مَن تزورُ القلبَ تزورهُ مجاملةً
تماماً كما يبقى أحدُنا على تواصلٍ معَ جارٍ قديمٍ
لذا لا تسألْني عنِ القلبِ
فقطْ، دعْني أفكر ....
– نظم فيض هذه القصيدة في موسكو عام 1967 وتتجلى فيها قدرته البارعة على التحكم بمزاج المتلقي، بحيث يستطيع القارئ ربطها بأي شيء يؤرقه، وطنه أو حبيبته أو أحداث ماضية، ضمن الثيمة الأساسية: الوقت الذي يضعف رؤيتنا إلى كل شيء حالي.
– تذكرنا بعض الكنايات المستخدمة في القصيدة ببيت للشاعر الكبير مير تقي مير حين يقول " لا تدع النحلةَ تدخل إلى البستان لا تدعها / عندها ستلقى الفراشة مصرعها ".
وحدة
"لا أحدَ يا قلبِي الحزينُ، لا أحدَ هُنا، هل يعودونَ؟
لا لم يأتُ، لا يوجدُ أحد
ربّما تائهٌ يممَّ وجهَه إلى شطرٍ آخرَ "
ومرةً أخرى، يزورُنا الحزنُ
تناثرَ غبارُ النجومِ وانسكبَ الليلُ
تراقصتْ مصابيحُ البيوتِ الناعسةِ
وخفّتْ خُطى العابرينَ،
غادرَ الضيوفُ
و نامَ الشارعُ بعدَ طولِ انتظارٍ
ثمّتَ، غبارٌ عابثٌ طمسَ آثارَ الأقدامِ
اِنفخْ على شموعِك، و ووضّب القارورةَ وكأسَ السلافِ
ثمَّ أقفلْ عينيكَ الأرقةَ كبيتٍ مظلمٍ ومهجورٍ
فلا أحدَ هُنا، وما من قادمٍ يطرقُ بابكَ ولوْ بالغلطِ
إلى غريمِي
هيّا تَعالَ، الذكرياتُ الحلوةُ تَعبرُ منْ ذكراكَ
وكلها تقلب هذا القلب إلى مدائن للحور،
في حبِّها، نَسيتُ كلَّ شيءٍ حولِي إلّاها
وأيضاً، فقدتْ الدُّنيا كلَّ معنىً لهَا
في هذا الدهرِ، الدهرُ باتَ قصة ٌ،
هذه الحَواري، تميّزُ أقدامَكَ جيداً
وذاكَ الجمالُ المنتشيُّ والذي وهبَهُ من حُسنها
الدربُ إليها موكبٌ يسكنُهُ الجَمَالُ، ويمرُّ منه الكثيرُ
وعينايَ لا تشبعان من طريقِها ولا تلتفانِ إلا إليها،
وأنتَ أيضاً يا غريمي، عرفتَ مِثلِي النسائمَ الندية
وهي تَسكنكَ،
تلكَ المنسابةُ والمعطرةُ منْ عبيرِ فستانِها
ولمْ يبقَ منها إلا الرائحة الحزينة،
وأنتَ مثلي أيضا، انسابَ عليكَ ضوءُ شرفتِها مراراً
أمّا ضوءُ القمرُ الباقي لنَا في ليالينا الكئيبةِ
هوَ غصةُ ورمادُ قصةِ تلكَ الأيامِ،
رأيتَ تينكَ العينين والشفتين والجبهةَ َالعريضةَ
التي نقلتْ كلَّ انفعلاتِها،
وأنا نظرتُ إليها، لتنظرَ إليَّ بعينيها المفقودتَين الساحرتَين،
الآنَ، تدركُ جيداً بأيّ صورةٍ أهدرتُ شبابي وأنا أترقّبُ
وأنتَ يا غريمِي!، تعرفُ جيداً أنّي انتظرتُها طويلاً لترانِي لمرّةٍ
يا غريمي!، لقد رافقَنا هذا الحبُّ البائسُ
وَوهبَنا الكثيرَ منَ الهباتِ المشتركةِ
والكثيرَ منَ الحزنِ
هباتٍ نعجرُ عنْ عدِّها
ولكن ما تعلّمناهُ منْ هذا الهوى
ما مِنْ أحدٍ سيفهمُه سواكَ:
تعلمتُ منكَ يا عزيزي!، التواضعَ وحمايةَ البسطاءِ
وعرفتَنا على معنى العجزِ والحرمانِ واليأسِ وبؤس المظلومِين
وماذا يعني الإحباطُ، وتلك الوجوهُ الصفراءُ الخاويةُ منَ الأملِ
وأينما يمّمتَ وجهكَ ترى أولئكَ الحزانى والشكاة
تماماً كأطفالٍ رضعَ يمضون في البكاءِ ولا أحدَ يلتفتُ إليهم
حتى تجفَّ الدموعُ في محاجرِها،
ورأينا لقمةَ الفقراءِ تسلبُها العقبانُ الحائمة،
وكأنّها تلتهمُ أوصالَهم،
ثمَّ تأتي مختالاً ولا تسألُ عنْ دماءُ الفقراءِ المسكوبةِ على الطرقاتِ
ولحمُ العمالِ يُباعُ على الأرصفةِ ويتصدّرُ،
هذهِ هيَ النارُ- يا غريمي - تستبدُّ بي رويداً رويداً
وأنا متعبٌ منْ قلبي المُترفِ بالحزنِ، تعبان
وهوَ مِثْلكَ لا سلطةَ لي عليهِ
الليلُ شجرةُ الشَّجنِ
والليلُ شجرةٌ منَ الشّجنِ؛
شجرةٌ أعلى منكِ ومنّي،
قافلةٌ من النجومِ تاهتْ في المدارِ
كجمعٍ يحملُ المشاعلَ وعلى الرغمِّ من ذلكَ تاهَ،
وألفُ قمرٍ معصوبَ العينينَ عنْ ضيائِه
ذُبحَ تحتِ ظلِّ الشجرةِ،
ومنْ شجرةِ الليلِ هذهِ
تساقطتْ أوراقٌ صفرٌ للحظة هزيلةٍ،
ولكنّ ما أن انضفرتْ بين جدائكِ
حتى دبَّ بها اللونُ الأرجواني،
تتدلّى كاللآلئِ على جبهتكِ
تلكَ قطراتُ الصمتِ وهي ندى هذه الشجرةِ،
شديدَ السوادِ يحلُّ الليلُ
يغرقُ صوتيَ في جدولٍ من الدماءِ،
ولكن هناكَ في الظلِ يبرقُ ضوءُ
هو خيالُكِ،
أُصيبَ الحزنُ بالحمّى، توا
ذلك الحزنُ الذي لا يهدأ إلا بينَ ذراعيكِ
والذي هوَ ثمرةُ هذه الشجرة
قد تزداد حرارتهُ حتى تغدو هذه الشرارة،
منْ انحناءة القوسِ
والسهمِ المنغرز في القلبِ
صنعنا إزميلاً للنحتِ،
ذلك الفجرُ البائسُ
فجرُ المحرومين والمظلومين يتلاشى في السماءِ
ولا يوجدُ سوى مدى الفجرِ الأنيقِ
فجرُنا أنا وأنتِ،
هي ذا تتألقُ شرارات الحزنُ، وتزدهرُ
تتأنّق وتتّفق، لتصنع بستاناً من شفقِ المساءِ
وكأكاليلٍ من النارِ مرتبةً في صفوفٍ
يتمادى هذا الحزنُ الموحشُ
هو رمز للأمانِ؛ هذا الشّجنُ القادم من هذا الليلِ
الأمان الذي هو أكرم من الشجنِ
والفجرُ السامي الأكثر سموّاً من الليلِ
من عاشقٍ إلى حبيبته
دعيهِ يفعلُ ذلكَ، دعيهِ
إذا أراد ندى الصّباحِ غسلَ وجوهِ الأزهارِ مرة أخرى
في بستانِ الذاكرةِ
إذا رغبَ النّسيمُ بنشرَ الطّلعِ في البستانِ
إذا كان الألمُ يتوقُ للخروجِ من مخدعهِ، ليتوقّدَ مرةً أخرى
دعيهِ ينعتقُ
كغريبينِ يلتقيانِ
تعالِي واجلسي قبالتي لبرهةٍ
لن نذكرَ شيئاً منَ الملامةِ ولن نبدي أي قسوةٍ
ولن أذكرَ أبداً وعوداً كانتْ في الماضي
وحتّى لو جلستِ أمامِي
سيكونَ إحساسُنا بالخسارةِ أكبرَ منْ أيّ وقتٍ مضى
وسيبقى هناكَ دائما ما هو مسكوتٌ عنهِ، وإن كنّا نتحدثُ
وإذا كان لا بد لنا منْ غسلِ غبارِ الماضي
لن أتحدثَ عن الحبِّ والجفاءِ
فقط حينَ أحدّقُ بعينيكِ، ستقولُ عيناي شيئاً ما
عندها لكِ حريةُ بالاستماعُ لهما أو لا
ولو أرادتْ عيناكَ المتملصتانِ توجيهَ اللومِ لي
لكِ كلُّ الحريةِ بقولِ ما تريدين