السبت ٣ شباط (فبراير) ٢٠٢٤
بقلم إلياس زيدان

4- إطلالات تربويّة من شبابيك الوطن

أَمِنْ كِبار النّاس وزعمائهم أم مِنْ كِبار المجرمين؟ - خليل السّكاكيني وطالبه ياسر عمرو

كتَبَ الأستاذ المربّي خليل السّكاكيني في يوميّاته عن حادثةٍ وقعت قبل نحو 82 سنة مع طالبَين من كلّيّة النّهضة في القدس، والّتي كان المربّي السّكاكيني أحد مؤسّسيها عام 1938 ومديرها في ذلك الوقت. ففي السّاعة الواحدة والنّصف بعد منتصف ليلة الخميس 18/12/1941 أمسك البوليس الطّالبَين ياسر عمرو من الخليل وعبد اللطيف العلمي من غزّة وهما يحملان كيسًا فيه كتب ودفاتر تقدّر قيمتها بنحو عشرة جنيهات في حينه، وهي من كتب كلّيّتهما ودفاترها. فأخذهما البوليس وأودعهما السّجن. وعند وصول الأستاذ السّكاكيني في الصّباح إلى المدرسة وجد شرطيًّا هناك جاء للتّحقيق في الأمر.

انطلق الأستاذ السّكاكيني مع الشّرطيّ إلى مركز البوليس وقابل الضّابط المناوب وقال له: "هذه مسألة دقيقة حرية أن نعالجها من وجهة أخلاقية لا من وجهة قانونية، فهذان الطالبان من أنجب طلابنا وأحسنهم أخلاقاً، وكلاهما ينتميان إلى أسرة كريمة من أسر فلسطين، فإذا أخذناهما من وجهة قانونية أضاعا كرامتهما الشخصية وخلقنا منهما مجرمين كبيرين، ولكن إذا أبقينا على كرامتهما استطعنا أن نقيهما من التدهور في الاجرام". قام الضابط المناوب بتحويله إلى ضابط برتبة أعلى، وفي نهاية المطاف أخذوا إفادة الأستاذ خليل التي قال فيها: "من المبادئ التي تقوم عليها مدرستنا، أن المدرسة أسرة، الأساتذة فيها آباء والتلامذة فيها أبناء. وقد أباحت المدرسة لأساتذتها وتلامذتها أن يستعملوا كل ما في المدرسة من كتب ودفاتر وأدوات كما يشاؤون، فإذا أخذ بعض التلاميذ شيئاً منها فليست هنالك سرقة". ويضيف: "ثم قلت للسيد كاظم إن الحاكم يجب أن يكون فيلسوفاً فضحكنا، ثم كلفت أحد رجال البوليس أن يشتري لياسر وعبد اللطيف فطوراً، وبعد أن انتهينا من أداء الإفادة كفلت الطالبين بعشرين جنيهاً فخرجا من التوقيف وذهبا إلى المدرسة كأن لم يقع شيء".

لم يستغرب الأستاذ خليل أن يُقْدِم الطّالب ياسر على مثل هذا العمل، فقد لمح فيه ميلًا إلى المغامرات وعدّد بعضها، ومنها أنّ ياسر راهن رفاقه في المدرسة على أكل حيّة فأكلها، وفي السّنة الّتي سبقت هذه الحادثة اتُّهِم ياسر بأنّه اعترض طريق يهود وسلب ما معهم بتهديد السّلاح، وبعد هذه الحادثة الأخيرة وجد أساتذة المدرسة مسدّسًا في حوزته. إلى جانب هذه المعلومات يصف الأستاذ خليل تلميذه ياسر بإيجابيّة، بدءًا بصورته الجميلة وبأناقة لبسه، فيضيف: "وهو ذكي يحسن الكتابة كأنه أديب كبير، مصير هذا الفتى إما أن يكون من كبار الناس وزعمائهم، وإما أن يكون من كبار المجرمين، وقاه الله".

بعد قراءتي الحادثة المذكورة تساءلتُ أكثر من مرّة عن مستقبل الطّالب ياسر عمرو، وعمّا حمله تعاقُب الأيّام له، فقرَّرتُ تقفّي أثره لمعرفة تتمّة قصّته، وتمكّنتُ، بمساعدة بعض الزّملاء، من التّواصل مع ابنته الدّكتورة خيريّة ياسر عمرو، المقيمة في الأردنّ، وكانت كريمة وواضحة في إجاباتها عن تساؤلاتي مشكورة. تمّ التواصل الأوّل معها في يوم 4/2/2023 بعدما أرسلتُ إليها رسالة نصّيّة عبْر تقنيّة الواتس آپ (WhatsApp)، وبعد التّحيّة والتّعريف بنفسي كتبتُ: "يَذْكُر الأستاذ السّكاكيني في يوميّاته (19/12/1941) حادثة ظريفة مع طالبَين في كلّيّة النّهضة أحدهما الطّالب ياسر عمرو (من الخليل كما يَذكُر) ... أشار الأستاذ خليل السكاكيني إلى أنّ طالبه هذا "فتى عالي الجسم محكم التركيب جميل الصورة أنيق في لبسه"، وأنّ أمّه تركيّة ... أودّ أن أفحص مع حضرتك هل الطّالب المذكور هو المرحوم والدك؟ وإذا كان الأمر كذلك فيشرّفني أن أتلقّى نبذة عن المرحوم، كما أتساءل هل ذكر الوالد مدرسته كلّيّة النّهضة وأستاذه خليل السكاكيني (او كَتبَ عن ذلك)؟".

وصلني ردّها في اليوم نفسه وكتبتْ فيه:

"نعم والدي هو الطّالب المعنيّ، كان يذكر أستاذه خليل السكاكيني وفضله عليه كثيرا. سأرسل لك نبذة عن الوالد في أقرب وقت".

شكرتُها على الردّ السّريع، ولم تمضِ إلّا ساعات حتّى وصلتني رسالتها التّالية:

"أرفق نبذة قصيرة عن الوالد ياسر عمرو، الرجاء إعلامي إن احتجت تفاصيل أخرى، مع تمنياتي لك بدوام التوفيق".
سنتناول النّبذة عمّا قليل.

كتبتُ إليها في صباح اليوم التّالي:

"صباح الخير د. خيريّة.

أقدّر عاليا جهودك. المادّة المرفقة مختصرة ومفيدة جدًّا.

قد يهمّك معرفة انه وبحسب جريدة فلسطين الصّادرة في حينه فإن والدك قد تخرّج سنة 1942، وقد كان الاحتفال السّنوي للكلّيّة وتوزيع الشهادات على الطّلّاب بتاريخ 4 تموز، 1942.

استفسار أخير: هل ذكر الوالد أحداثًا عينيّة جرت خلال تواجده في الكلّيّة، وهل ذكر "حادثة الكتب" التي شاركه فيها صديقه وابن صفه عبد اللطيف العلمي من غزّة؟ [...] دمتِ بخير."

وجاء ردّها:

"نعم ذكر حادثة الكتب وتدخل الأستاذ خليل كي لا يُطرد من المدرسة، كما ذكر حادثة قطع الطريق وسلب مستوطن كي يستطيعوا الذهاب للسينما [...]".

من رسالتها هذه تتكشّف لنا معلومات إضافيّة عن "حادثة الكتب" الّتي وصفها الأستاذ خليل في يوميّاته، ويبدو أنّ الأستاذ السّكاكيني قد "أنقذ" الطّالبَين ياسر وعبد اللطيف من عقابين؛ عقاب "البوليس والقانون" وكذلك عقاب "المدرسة" الّتي على ما يبدو كانت ستتّخذ قرارًا بطردهما.

تابعتُ الاستقصاء سائلًا:

"هل كان لحادثة الكتب ولطريقة تعامل الأستاذ السّكاكيني مع الحادثة ومع الطّالبين أثرٌ على الوالد؟".

وكان ردّها: "تركت هذه الحادثة وتعامل الأستاذ خليل أثرا كبيرا جعله يضاعف جهوده في الدراسة ونصّب نفسه هو وعبد اللطيف مدافعين عن المدرسة وتصدّوا لمن يحاول العبث بأي من ممتلكات المدرسة."

إذًا، كان لموقف الأستاذ السّكاكيني، من لحظته، أثرُه الإيجابيّ المباشر على الطّالبَين.

لكن، أيّ أثر كان يا تُرى لموقف الأستاذ السّكاكيني وسلوكه على المدى البعيد، وماذا كان مصير الفتى ياسر عمرو؟ هل أصبح "من كبار الناس وزعمائهم" أم "من كبار المجرمين"؟ تكمن الإجابة عن ذلك في النّبذة الّتي وصلتني من الدّكتورة خيريّة، وهذا نصّها:

"الدكتور ياسر عبد المنعم عمرو، ولد في مدينة الخليل يوم 5/8/1925 وتتلمذ في كلية النهضة في القدس، وفيها ذكر دوماً أثر أستاذه خليل السكاكيني الكبير في تربيته وتكوين شخصيته.

حصل على شهادة الطب من جامعة عين شمس بالقاهرة عام 1953، وعاد للأردن ليعمل في وزارة الصحة والتقى الدكتورة نيفين جميل توتونجي خلال عمله في المستشفى الجراحي (مستشفى البشير في عمان حالياً) وتزوجا في عام 1955.

غادر في عام 1957 لمتابعة علومه في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة الأميركية وحصل منها على شهادة التخصص بجراحة العظام عام 1958، فكان أول طبيب أردني حمل هذا التخصص. عاد للعمل في وزارة الصحة حتى عام 1963 حين تفرغ للعمل في عيادته الخاصة.

كان الدكتور ياسر عمرو أول من أدخل مطعوم شلل الأطفال إلى الأردن في بداية ستينيات القرن العشرين بإذن من جلالة المغفور له الملك الحسين، وتطوع لعلاج المصابين العسكريين خلال حرب عام 1967.

حصل على وسام الاستقلال الأردني من الدرجة الثانية عام 1968 ووسام الاستقلال من الدرجة الأولى عام 1995.
استمر الدكتور ياسر بعمله حتى قبيل وفاته رحمه الله يوم 13/12/2011."

قد يسألُ سائِل هنا: هل كان موقفُ الأستاذ خليل وسلوكه في مركز البوليس وليدَي اللّحظة؟ وهل كانت معاملته لهذين الطّالبَين حدثًا عابرًا؟

أعتقد أنّ سلوك الأستاذ السّكاكيني مع الطّالبَين ياسر وعبد اللطيف على هذا النّحو نابع من فلسفته الإنسانيّة-التّربويّة-التّعلّميّة-الوطنيّة الواضحة المعالم الّتي شكّلت بوصلةً أخلاقيّةً لمواقفه وممارساته المهنيّة والشّخصيّة داخل المدرسة وخارجها. في فلسفته، خَطَّ السّكاكيني الأغراض الكبيرة للمدرسة وأدوارها في تربية طلّابها وتعلّمهم والنّهوض بهم وبالمجتمع عمومًا، من جهة، وفي تعاطيها مع المشاكل التّربويّة العينيّة الشّائعة داخل المجتمع المدرسيّ وخارجه، ومن ضمنها مشكلة "السّرقة" المذكورة أعلاه، من جهة أخرى. ففي كلمته الّتي ألقاها في حفلة توزيع الشّهادات على خرّيجي كلّيّة النّهضة الأوّلين في القدس، في تاريخ 5/7/1941، شدّد على أنّ: "المدارس لا تكون مدارس الا بأَغراضها وأصولها [...] مدرستنا حرة، لست اعني انها تهيّئ طلابها لأن يكونوا احراراً في المستقبل، ولكنها تريد ان يكونوا احراراً منذ اليوم، اذا لم يكونوا أحراراً منذ اليوم فلن يكونوا احراراً الى الأبد". وأضاف: "مدرستنا لا تكلِّف الطالب ان يقدم لها شهادة من المدرسة التي كان فيها، ولكنها مستعدة ان تقبله على علّاته، فالطلاب المطرودون من مدارسهم يجدون عندنا مكاناً، لأسباب: أَولاً لأنها لا تثق كثيرا بالشهادات، بل ترجح ان العيوب التي قد تنسب اليهم ليست عيوبا، وانها قد تكون عيوب المدرسة لا عيوب الطلاب. ثانيا لأن هذه العيوب اذا صحت نسبتها اليهم لا تعيش في جوٍّ حرٍّ مثل جوّ مدرستنا، فان احترام التلميذ واحسان معاملته والتغاضي عن عيوبه، كل ذلك كفيل بأن يخلق منه شخصاً جديداً جيِّداً".

كان الأستاذ السّكاكيني قد تطرّق إلى مشكلة "السّرقات" داخل المدرسة. ففي تاريخ 20/5/1940، وخلال حديث مع صديق له كتب في يوميّته: "[...] ثم عرضنا لبعض المشاكل التربوية، من ذلك أن بعض التلاميذ يسرقون أقلام غيرهم أو كتبهم أو غير ذلك من أشيائهم، فكيف نعالج هذه المشكلة؟ قلت لا يجوز في عرفي أن نفتش مكاتب الطلاب أو ثيابهم، أي لا يجوز ان نجعل جميع الطلاب متهمين في نظرنا فإن ذلك إهانة للجميع إلا واحد منهم، بل خير لذلك الواحد أن لا يظهر أمره، لئلا يفقد مكانته بين الطلاب، وما دامت له هذه المكانة فمن المأمول أن تتحسن أخلاقه مع الزمان، ولكن إذا عرف أمره أضاع هذه المكانة فيستولي عليه شعور بالضعة، وقد يخرج إلى القحة ويتمادى في سلوكه الرديء، لأنه لم تعد له مكانة يحرص عليها من جهة، ولأنه يرى في سلوكه الرديء ما يضمن له الانتقام من المجتمع من جهة أخرى، والشر يدعو إلى الشّر". ويضيف الأستاذ السّكاكيني أنّنا إذا عرفنا مَن هو السّارق "فالأولى أن نوهمه أننا لا نعرفه، وأن لا تزال له مكانة عندنا، لأننا بهذه المكانة نستطيع أن نرفع نفسه ونولد في صدره كرامة، وخير للجميع أن نفقد الأقلام كلها من أن نخلق من بعض الطلاب مجرمين". هذا الطّرح يعيدنا عشرات السّنين إلى الوراء، وإلى وصفه للمدرسة الدّستوريّة الّتي أسّسها هو وأصدقاء له عام 1909 في حيّ المُصرارة في القدس، وكتبَ عنها في يوميّته في تاريخ 19/1/1919: "المبدأ الذي قامت عليه اعزاز التلميذ لا إذلاله، تكبير نفسه لا تصغيرها، إنماء عواطفه وأمياله وتهذيبها لا محاربتها أو اهمالها، اطلاق حريته لا تقييدها". وبخصوص التّعاطي مع السّرقات، يضيف الأستاذ السّكاكيني: "ولكن قد تسألني ماذا نعمل لنمنع هذه السرقات؟ قلت إذا تكررت هذه السرقات فإن الطلاب يتعلمون أن يحتاطوا، فبدلاً من أن نقول لهم لا تسرقوا وهذه إهانة لهم جميعاً، نقول لهم لا تدعوا أحداً يسرقكم وليس في ذلك ما يمس كرامة أحد".

منذ بدأ الأستاذ خليل السّكاكيني حياته المهنيّة كمعلّم ومُربٍّ، مع نهاية القرن التّاسع عشر، أصبح كثيرون من طلّابه، حال الدّكتور ياسر عمرو، من كبار القوم وخدموا شعبهم ووطنهم الصّغير كما أُمَّتهم ووطنهم الكبير. اقتران الفلسفة بالفعل لدى الأستاذ خليل السّكاكيني، في مناحي حياته كافّةً، جعلَه قدوة لطلّابه ولزملائه في الوطن العربيّ وأكسبَه مكانة مرموقة بين هؤلاء. أكّد تلميذه صالح برانسي الذي كان "من أبناء مدينة الطيبة ومن أبرز قادة الحركة القومية الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948"، في كلمته التي ألقاها في المهرجان الاحتفاليّ الّذي عُقد عام 1987 في مدينة الطّيبة الفلسطينيّة بمناسبة حلول الذّكرى التّاسعة بعد المائة لميلاد أستاذه السّكاكيني: "ان تلامذة السكاكيني ربما كانوا مجمعين على الاعتراف بشيء واحد، وهو انه لم يؤثر في تكوين شخصيتهم أحد بمثل ما أثر السكاكيني". أمّا تلميذه حنّا فارس مخّول فقد قال في المهرجان ذاته: "شرفني [...] بأن عهد اليَّ باعداد بحث عن سيدي ومعلمي ومثلي الأعلى الأستاذ خليل السكاكيني – رحمه الله – أتناول فيه انسانيته، والقيم العالية التي حرص عليها، والمثل الراقية التي وضعها نصب عينيه، والمبادئ السامية التي تمسك بها، تكريما للإنسانية في شخصه، واكبارا لتلك القيم واشادة بتلك المثل، وتقديرا لما تحلى به من فضائل وتحسينا في عين الجيل الصاعد لمزاياه وسجاياه". تجدر الإشارة إلى أنّ طالبه حنّا كان قد سار على درب مَثَلِه الأعلى، معلّمه السّكاكيني، كناشطٍ اجتماعيٍّ وكمعلّمٍ للّغة العربيّة وكمربٍّ إنسانيٍّ وطنيٍّ لأكثر من جيل من الطّلبة. وشدّد تلميذه عبد المحسن القطّان على وصيّة أستاذه له بقوله: "لا تكن عبداً كن المحسن، هكذا قال السّكاكيني لي...". وبالفعل، أصبح هذا التّلميذ مُحسِنًا وأسّس عام 1993 "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" التّنمويّة الّتي تعمل على تطوير الثّقافة والتّربية في فلسطين والعالم العربيّ. في كلمته المقتضبة كمؤسّس، كتب الأستاذ عبد المحسن القطّان: "غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون، كما قال المربي الفلسطيني الكبير وأستاذي السابق خليل السكاكيني".

كانت شبكة علاقات الأستاذ السّكاكيني متشعّبة في الوطن العربيّ وخارجه. تكتُب ابنته هالة في سيرتها الذّاتيّة "أنا والقدس": "في صيف كل سنة كان يأتي إلى القدس ضيوف بارزون من الدول العربية المجاورة لإعطاء محاضرات في بعض النوادي، ولقاء الكتّاب والمربين الفلسطينيين. ومن الذين زارونا في البيت كان صديق والدي الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد. كان شخصية مثيرة للإعجاب، ورجلًا ذا مظهر جليل وملامح نبيلة". من الجدير الإشارة إلى أنّ الأستاذ السّكاكيني كان قد تعلّم في المدارس حتّى سنّ الخامسة عشرة والأستاذ العقّاد حتّى سنّ الرّابعة عشرة، وبعد ذلك انطلق كلّ منهما في رحلة تثقيف وتعلّم ذاتيّ ترتكز على الجهود الخاصّة والمثابرة الشّخصيّة. وفي هذا السّياق أكّد المؤرِّخ نقولا زيادة: "كان خليل السكاكيني من كبار القراء. وكانت قراءته تنضج معه وينضج معها". وبخصوص عصاميّة العقّاد، فقد ذكر نجيب محفوظ أنّه "علم نفسه بنفسه" وأشار، غير مرّة، إلى "ثقافة العقاد الموسوعية".

خلال النّكبة الفلسطينيّة، وإثر تعرّض حيّ القطمون المقدسيّ الّذي كانت تسكن فيه أسرة السّكاكيني للقصف المتتالي من قبل العصابات الصّهيونيّة وبعد أن أصبحت الأسرة في خطر داهم سيُعرّضها للقتل من جرّاء القصف، اضطُرّ الأستاذ خليل وأسرته إلى النّزوح عن فلسطين إلى مصر. احتضنته القاهرة وأصدقاؤه الكُثر في مصر وفي مَجمَع اللُّغة العربيّة الّذي تلقّى السّكاكيني كتاب تعيينه عضوًا فيه قبل نزوحه عن فلسطين بأشهر قليلة. عاش خليل السّكاكيني بقيّة أيّام حياته في مصر الّتي أحبّها دائمًا، إلى أن تُوفِّي عام 1953، بعد ثلاثة أشهر من وفاة ابنه سريّ. ما زالت "أمّ الدّنيا" تحتضنهما إلى اليوم.
كتب الأستاذ العقّاد في ذكرى الأستاذ السّكاكيني ما يلي: "يوميتي اليوم في يوميات عزيزة، هي يوميات "الانسان الحق" الأستاذ خليل السكاكيني عضو مجمع اللغة العربية واديب فلسطين الكبير[...]". ويضيف العقّاد: "أمثاله بيننا قليلون. وقدوته نافعة في كلّ زمن".

حقًّا وصدقًا، إنّ قدوة الأستاذ خليل السّكاكيني نافعة في زمننا الحاضر.

وعلى ذكر الأستاذ عبّاس محمود العقّاد ومَجمَع اللُّغة العربيّة في القاهرة، فسوف ننطلق إلى مصر في إطلالتنا القادمة لنطلّ من شبابيكها على ثلاثة من رفاق الأستاذ السّكاكيني في المَجمَع وخارجه، وهم الأساتذة طه حسين وتوفيق الحكيم وعبّاس محمود العقّاد. فقد عانى ثلاثتهم من مشكلة في طفولتهم وكتبوا عنها في سِيَرِهم الذّاتيّة وخارجها، ووصل الأمر بطه حسين حدَّ اعتبارها تُفْسِدُ التّعليم والأخلاق.

يشرّفني أن نزور هؤلاء الطّلّاب سويّةً لننكشِفَ على هذه المشكلة العسيرة وعلى تجارب كلّ منهم معها.

ألقاكم/نّ بخير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى