بائعات الهوى في بيجال

كالأمواج التي تتحرك وتندفع.. وإن كانت تنخفض أو ترتفع.. ظلت حشود من النساء والرجال.. تتحرك في شارع بيجال.. وتنبه المجنون وهو واقف مع صديقيْ عمر.. أن هناك نساء يغمزن بعيونهن دون حياء أو خفر.. وأنهن يتحركن ببطء قرب
أعمدة الإنارة.. ويقمن بحركات، كلها إغراء وإثارة.. وقال أحد لصديقي عمر بن أبي ربيعة.. وهو يضحك ضحكة خليعة آه من بائعات الهوى في بيجال.. إنهن يرقصن على الشوك بغير جدال.. وفجأة رن الموبيل الذي يحمله عدة رنات موسيقية.. فاندفع ليرد باللغة العربية.. رغم أن الأجواء كلها بالطبع فرنسية:

– نحن الآن في شارع بيجال.. أمام المولون روج .. ومعنا شخص يريد التعرف عليك.

– أنا سبقتكما.. ودخلت الليدو في الشانزليزيه.. وقد حجزت لكما تذكرتين.. فلا تتأخرا.. لأن العرض سيبدأ بعد قليل.. وستجدان فيه كل جميل. ... بعد المكالمة أراد المجنون أن ينصرف في اللحظة والتوّ.. لكنه أطمأن بعد أن عرف أنه مدعوّ.. وانصرف الثلاثة في الحال.. بعيداً عن شارع بيجال.. وحول المائدة.. التي اتخذ منها عمر بن أبي ربيعة قاعدة.. يراقب من خلالها حركات النساء.. ويتأمل جمال الأضواء.. جلس الثلاثة معه يثرثرون.. بينما قال له المجنون:

– أنا سعيد حقاً بلقائك أيها الشاعر الساحر..

– شكراً لك.. ولكن ماذا تعرف حقاً عني؟

– اسمح لي أولاً أن أقول لك إنك أكثر شباباً مما كنت أتخيل..

– السبب يرجع إلى عشقي للحياة وحبي للنساء الجميلات.

– أنت إذن ينطبق عليك المثل الفرنسي «شرشيه لافام».. فتش عن المرأة .

– لا تخلط الأمور.. فأنا شاعر أقدم من أي شاعر فرنسي.. بل أقدم من كل شاعر أوروبي.

– أنا أعرف هذا طبعاً.. فأنت قد ولدت في المدينة سنة 23 هجرية في نفس اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب.

– هذا صحيح.. ولهذا السبب يهاجمني المتزمتون.. ويقولون.. إن عمر الشاعر الفاسد.. قد ولد يوم مقتل الخليفة الراشد.. على العموم أنا لا أهتم بالنقاد.. خصوصاً الذين تمتليء صدورهم بالأحقاد.. والآن.. دعنا من هؤلاء.. ولنتحدث عن النسوان.. الحقيقة أني قد تأثرت.. بل إني بكيت.. عندما اقتربت مني إحدى بائعات الهوي في بيجال.. وأخذت تشرح لي ما تعانيه من أهوال.. والطريف أنها سمتني أُمَرَ بن ربيئة .. لأنها لا تستطيع نطق حرف العين.

... تدخل أحد صديقي عمر.. وطلب منه يخبره بما قالته فتاة بيجال.. فانطلق عمر بن أبي ربيعة في الحال.. وتمايل قليلاً.. ثم قال:

أمَرَ بن ربيئة

وردة العشق المضيئة

إنني بنتُ الفرنْجَةْ

كنتُ في الماضي بريئة

إنما المهنةُ شاءتْ

أن أرى دنيا رديئة

مع ناس قد أحبوا

نُكَتَ الخمرِ البذيئة

وشباب قد أضاعوا

عُمرهم بين الخطيئة

فلتجربْ أنتَ حزني

أمَرَ بنَ ربيئة!

... اغتاظ أحد صديقي عمر منه.. وطالبه بألا يكدر الجو.. بما يغمر القلب بالحزن.. وقال له: يا عمر.. أنظر إلى هذه الفتاة التي لا تتكرر.. إن جسدها ليس من طين وماء.. بل من المرمر.. وأنا كلمتها منذ لحظات.. وقد وعدتني بأن تسهر معي أحلى السهرات.. وأنا شخصياً كتبتُ عن رشاقتها الفريدة.. ما يبدو لي أنه قصيدة:

جسدٌ.. مرمرْ

وبه أسْحَرْ

يتثنىَّ في

أبهى مظهرْ

وصديقةُ أَحْــ

ـلامي تبهرْ

زهرة فلِّ

لا تتكررْ

عيناها مِنْ

خمر الكوثرْ

شفتاها يا

قوتٌ أحمرْ

فمها يحوي

أحلى سُكَّرْ

فإذا اقتربتْ

يحلو المنظَرْ

وإذا غابتْ

فرحي يُقْهَرْ

فمتى تدنو

ومتى نسهر؟

جسدٌ.. مرمرْ

وبه أُسحر

معه يأتي

فرحي الأكبرْ

... بعد لحظات.. مالت إحدى فتيات الليدو على عمر بن أبي ربيعة.. ولاحظ المجنون أنها تنطق حرف العين نطقاً صحيحاً.. فأدرك أنها قد اختلطت كثيراً بالعرب اختلاطاً واضحاً وصريحاً.. وأخذت فتاة الليدو تداعب عمر.. وتعاتبه في نفس الوقت.. لأنه أكد لها أن كازينو بديعة.. أجمل من الليدو.. وسمع المجنون منها ما تقول.. بينما كان يجلس في اندهاش وذهول:

كيف.. مِسْيُو.. عمر بن ربيعة

كيف تشتاق لكازينو بديعة؟

إن في الليدو نساءً لا تُجاريَ

هُنَّ في الليل حَمَاماتٌ وديعة

حين يرقصن يفيضُ الجوُّ سحراً

بين أمواج لموسيقى سريعة

فإذا كنت تحب الرقص فأشربْ

واندمجْ كي يحضن القلب ربيعه!