الاثنين ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم لطفي زغلول

الشعر العربي !!

تعريب أم تغريب ؟

حظيت قضية الشعر العربي بمساحة شاسعة من اهتمام الباحثين والنقاد والشعراء ، وهي قضية تتناول في مضمونها موضوع الحداثة والقدامة في كل من الشكل والمضمون ، وبمنظور آخر الصراع المحتدم بين دعاة تعريبه ودعاة تغريبه . فالفريق الاول يصر على الحفاظ على هويته القومية وعلى جذوره العربية ، واما الفريق الثاني فيطالب بالحاقه في موكب الحداثة القائمة على تجريده من كل مقوماته الاستقلالية وخصائصه المميزة ، وتفرده ، وتكريسه تابعا يدور في فلك الثقافة الغربية .

وهنا يجدر بنا على سبيل التذكير ليس الا ان نعرج على اهم خصائص الشعر العربي المعرفة ومزاياه ، وهي التي تعيها الذاكرة العربية عبر تاريخها الطويل والتي تتمثل بالقصيدة العمودية المصاغة على البحور الوزنية الستة عشر ، والتي تعتمد القافية موسيقى لها . هذا من حيث الشكل ، اما من حيث المضمون والاغراض الشعرية فقد كانت القصيدةالعربية بسيطة تطرح قضية او حالة سائدة في وقتها بلغة عربية سليمة كانت قريبة من افهام سامعيها الذين كانوا يتمتعون بحس مرهف وقدرة فائقة على التذوق ، وممارسة شكل بسيط من النقد اقتضته ظروف هؤلاء المتلقين والبيئة التي كانوا يتفيأون ظلالها . كانت القصيدة مباشرة لا تعرف الالتفاف ولا الالتواء ولا الاعوجاج ، وطريقها معبدة الى اسماع هؤلاء المتلقين وقلوبهم ، وهكذا كان الشعر العربي والقصيدة العربية .
اما ما يخص الاغراض الشعرية فهي لم تخرج على التعبير عن الحالات والاحوال العامة التي كانت سائدة والتي كانت في مجملها تصويرا للاوضاع العربية الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والفكرية ، ولم تخرج عن هذه الأطر . وبالرغم من ان العرب خالطوا الكثير من الأمم التي ترجموا ابداعاتهم الحضارية والثقافية الى العربية ، الا ان الشعر العربي ظل في منأى عن التأثر بالآخرين وشعرهم . فالشعر العربي كان معتدا بنفسه الى اقصى حدود الاعتداد ، واثقا من خطاه كونه راسخا له جذور عميقة في الأرض والتاريخ والأعتزاز والانتماء .

وغني عن القول ان الشعر العربي كان يحتل مكانة مرموقة عند العرب فقد قيل قديما انه كان "ديوان العرب" ولا يزال ، واذا كانت الحضارات القديمة قد عرف بعضها بالمنجزات القانونية وبعضها بالطبية او النحت او الفلسفة او المسرح ، فقد عرف العرب من خلال شعرهم ببحوره واوزانه وموسيقاه وقوافيه مما شكل نسيج وحدة قل ان وجد له مثيل عند الامم الأخرى ، ومن هنا اكتسب الشعر العربي صورة من الوحـدانية والتفرد والتميز في هذا المجال .

والشعر العربي كان ولا يزال في كثير من الأحيان الرئة التي يتنفس الشعراء من خلالها حرياتهم في التعبير والتفكير وابداء الرأى في ازمنة لم تكن فيها وسائل الاعلام غير الشعر. وحتى في عصر انتشار وسائل الاعلام وهيمنتها ، فكثير من الشعراء العرب لا يجدون في هذه الوسائل غاياتهم ذلك انها في جل سياساتها الدائرة في فلك الانظمة السياسية لا تتقاطع وافكار هؤلاء الشعراء. وننوه هنا الى اننا ايضا لا نتحدث عن الشعراء الذين اتيح لهم نشر اعمالهم بوسيلة او باخرى ، ولكننا ايضا نوجه اهتمامنا الى آلاف الشـعراء الذين يفكرون ويعبرون عن ما يعتمل في جوارجهم بواسطة القصيدة ، ولكن لم تتح لهم فرصة نشر اعمالهم .

ويقودنا الحديث عن الشعر الى الحديث عن مكانة الشاعر العربي ، فهو صوت قومه ورائدهم ينطق بلسانهم ويتحدث بلغتهم ويعيش قضاياهم ويدافع عنها ، وباختصار كان منهم ولهم صدقهم القول ، وصدقوه المشاعر والتجاوب ، ذلك انه لم يجرهم الى متاهات ، ولم يدر بهم في دوامات الفراغ والعدم ، ولم يحلق بهم الى مجاهل الغموض والخرافة والشعوذة والطلسمة ، بل قادهم الى فضاءآت أضاءها لهم بقصائده .

واذا كنا تحدثنا عن مكانة الشاعر ومصداقيته ، فنحن هنا ايضا لا يمكننا ان نتجاهل البنية التحتية التي اقيم عليها الشعر العربي ونقصد بها الفصاحة والبلاغة والبيان والمعاني ، وما الى ذلك من رقة وعذوبة وعاطفة وفحولة ومتانة وجمالية وتصوير مجازي واستعاري وخيال وحكمة وفلسفة .

هذا هو الشعر العربي الذي ورثناه عن ثقافتنا وعشعش في ذاكرتنا عبر القرون ، وما زلنا نعيش كل دقائقه التي التصقت بجوارحنا ونزلت الى اعمق اعماق وجداناتنا وتقاطعت مع احاسيسنا وعواطفنا . ونحن هنا لا ننكر ان الشعر كائن يتغير ويتطور تبعا للظروف والمتغيرات المختلفة . ولكنه ربما يكون اقل تغيرا من غيره او ابطأ ، ذلك ان التغيير في العادة يكمن في المضمون وتصوير الحدث الآني وكل المستجدات .

ومن المعروف ان الحياة العربية ظلت حبيسة الجمود قرونا طوالا ، ودخلت عصر الاستعمار وهي مقيدة باكبال التمسك بالقديم والحفاظ عليه ، الا ان صورة الحياة العربية وبالذات مشهدها الثقافي اخذا يتغيران طبقا للظروف الجديدة وذلك منذ اواسط القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين .

ومما لا شك فيه ان الاختلاط مع الغرب الاستعماري المتحضر قد شكل مرآة يرى فيها الشرق العربي نفسه لأول مرة ، او بمعنى آخر معيارا يزن به اموره واشياءه ايا كانت ويحكم على ثقلها ومدى مصداقيتها وملاءمتها لروح العصر الحديث منطلقا من ذاته وشخصيته الحضارية والسياسية والانتمائية والتراثية ، ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد فالاستعمار الاوروبي يحمل في طياته اشكالا عديدة من الاستعمار وبخاصة الاستعمار الثقافي او الغزو الثقافي الذي ارتكز على آليتي " الاقتلاع والاحلال ".

ففي المرحلة الاولى كانت "جرافات الغزو الثقافي" تعمل جادة على هدم البنية الاساسية للثقافة العربية الموروثة واقتلاعها من جذورها ، وذلك من خلال حملات التشكيك بمصداقيتها والطعن بروحها وافقادها المرجعية ، وطمس ايجابياتها والتعتيم عليها ، وابراز كل سلبياتها ومثالبها بحجة عدم قدرتها على مماشاة روح العصر ومقتضياته ، ومن هنا حدث الفراغ الثقافي الذي اعقبته المرحلة الثانية والتي نشطت فيها العناصر الغريبة في زرع المستوطنات الثقافية والفكرية والمفاهيم الغربية المستوردة .

ولعل الشعر العربي والقصيدة العربية بالذات كانا من بين الضحايا الاكثر استهدافا ، ذلك انهما يمثلان نمطا تفكيريا سائدا ، وخطابا خاصا اتصف به العرب . وهنا نود ان ننوه الى ان اكبر انتصار للغزو الثقافي تمثل في ان مثقفين عربا امتدت ايديهم الى الشعر العربي والقصيدة العربية ليس بهدف التطوير الذاتي وانما لهدم صروحه والغاء هيكليته البنائية وتغيير صورته الذاتية واحلال صورة اخرى لا تمت اليه بصلة مكانه ، وذلك بدعوى الحداثة والتحديث .

وهنا يجدر بنا ان نعرج الى موجة الحداثة التي طغت على تفكير نفر من المثقفين العرب وتتمثل مظاهرها وتأثيراتها بالابداعات الفكرية والادبية والشعرية .وهي نموذج تفكير اوروبي توصلت الي اوروبا جراء ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتحررية المطلقة من القيم التي كانت سائدة سواء كانت تراثية او دينية وترتكز اساسا على التفكير المادي الصرف والمناداة بمواجهة الانسان لمصيره مستقلا بغض النظر عن الاطر المؤسسية الآنية والتي ينبغي التخلص من كثير منها. الا ان ما يهمنا من موضوع الحداثة كبضاعة غربية مستوردة انها :

 لا تؤمن بمبدأ التعددية الثقافية .
 انها تنطلق من مركزية الثقافة الغربية .
 تهمش الثقافات الاخرى ايا كانت وتستثنيها بالتالي .
 تفرض على العالم الثالث باعتبارها ثقافة الاقوياء بهدف تبنيها من قبل هذا العالم بصفته عالم الضعفاء المتلقين .

وبطبيعة الحال فان الشعر العربي بخاصة والفكر العربي بعامة وقعا فريستي هذه المنظومة الحداثية ، وسارا في ركابها على يدي شعراء وكتاب ونقاد اطلقوا على انفسهم تعبير الحداثيين ، فظهرت القصيدة الحداثية كآخر ما تفتقت عنه ذهنية الحداثة وهي " قصيدة النثر" تلك القصيدة التي تخلت عن روحها الانتمائية قلبا وقالبا ولغة ، وتعرت الى الحد الذي اغرت واغوت الكثيرين لمصاحبتها ومعاشرتها لسهولة الوصول اليها .

وهي قصيدة تخلت عن مفهوم القصيدة الكلي سواء الموسيقي او الجمالي او اللغوي . ونحن هنا وان كنا تحفظنا على كل هذا السيناريو الذي فرض في ظل اجواء الغيبوبة الانتمائية والسير في ظل ركاب ثقافة الآخرين ، الا اننا كنا في نفس الوقت نأمل ان يكون هناك حوار عقلاني ومنطقي قد يصل بنا في النهاية الى اقرار مبدأ تعددية الهيكلية الشعرية .

الا ان هؤلاء الحداثيين لم يكتفوا بما اقدموا عليه فشنوا حربا شعواء وما زالوا على العقلية العربية بعامة والشعر العربي بخاصة ، ولعل اخطر ما اقدموا عليه انهم صوروا الشعر العربي وكأنه بلا جذور وربطوا مستقبله بالشعر الغربي ، ووضعوه في اطار تجربة الآخر والغوا تجربته الذاتية ، وجردوه من كل الاتجاهات العقلانية والانسانية والفكرية ، والصقوا به تـهم الخطابية والارتجالية والانفعالية والمباشرة والتسطيح واعتماد الجرس الموسيقي والغنائية .

الا ان اقسى الاحكام التي اصدروها بحقه انهم حكموا عليه بموازين الراهن الحداثي الغربي ومعاييره ، وبذلك كرسوا دونيته تجاه فوقية الثقافة الغربية ، وليس هذا في مجال الشعر فحسب وانما في مجالات كثيرة تخص اللغة العربية بكل ميادينها ، وشاهدنا على ذلك موجة التسميات المسعورة باللغات الاجنبية التي غزت العالم العربي .

وعودة بنا الى تجربة تحديث الشعر العربي لنؤكد على الحقائق التالية:

الذين يكتبون الشعر كثيرون ، ولكن الشعراء قلة . هناك محاولات جريئة جميلة ومبتكرة تستحق الوقوف عندها ، وفي نفس الوقت هناك حالات اكثر عبثية تصدر عن نوايا غير طيبة او بمعنى آخر هدامة .

الشعر العربي الراهن يمر في حالة التجريب أي انه لم يصل الى مرحلة الاستقرار بعد . ان ذاكرة القارىء بطيئة ، فهو لا يعي الحركات الجديدة ولا تعنيه البتة ، والمتلقون لا يجدون انفسهم في هذا الشعر الحداثي المعاصر شعر الهذيان والاسطورة والطلسمة والخرافة واللغة المبهمة .

ان الشعر الذي يفترض ان يكرس وان توطد دعائمه ينبغي له ان يكون شعرا منفتحا على جميع الثقافات ، وليس اسير عزلة وفي نفس الوقت ان يكون ذا جذور انتمائية ضاربة في الاصالة لا خارجا عليها او متمردا او منشقا او عميلا لآخر .

وخلاصة القول ان التجريب من حيث المبدأ مقبول في كل المجالات ، ولكن في حالة الشعر ثمة تحفظ ذلك ان العصر هو عصر نشوء المدارس الشعرية المتعددة والمتغيرة على الدوام ، وان نشوء مدرسة يعني الغاء سابقتها ، ذلك ان كل مدرسة تحاول عن قصد تصفية سابقتها وان تجد لنفسها افقها المستقبلي . فعلى سبيل التذكرة هناك اربع عشرة مدرسة شعرية غربية واكثر من هذا العدد من الاتجاهات ، وان مجارات هذه المدارس والاتجاهات من قبل الشعراء العرب يجعلهم مجرد ظلال ميتة لأشجار مثمرة ، واصداء لأصوات ، وبالتعبير العربي " موال لأسياد " .

ان الجري وراء الحداثة المستقاة من المدارس الاوروبية قد ادخل العقلية العربية عصر الجمود والتحجر ، وان ما يحلو للبعض ان يطلق عليه مسمى الابداعات ما هو في الحقيقة الا تقليد ليس له هوية ، واذا كان البعض يظن انه من خلاله يصعد درجات سلم العالمية ، فقد اكد القائمون من اصحاب العالمية الاصيلين انها لا تنطلق الا من المحلية الصادقة .

تعريب أم تغريب ؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى