

أزياء المدينة
الحربُ ليست في مكانٍ بعيدٍ كثيراً، والمدينة العصرية منشغلةٌ بهمومها، ديونها اليومية، لا تكاد تلتفتُ لشيء آخر أو مدن أو بشر.
كان قد حشر نفسه قبل شهر بين المصلين على والدته في صلاة الجنازة؛ وفي نهاية الشهر حصل على ماله من المصرف بوصفه الولد الوحيد، الوارث.
نصحه مَن نصحه ولكنه لم يستمع. لديه مكانٌ مع زوجته يمكثان فيه، وإرثٌ لا يجب أن يظل متبطلاً راكداً. دفع إرثه كله تقريبا ليصبح مالك مشروع في الأربعين من عمره، وتوجّب عليه أن يبذل نحو مليون دولار خلوَّ رجلٍ لصاحب المحل الصغير على الزاوية الأثيرة في مركز المدينة. كان المحل ضيّقاً لا يتجاوز 30 متراً مربعا تقريبا، ولكنه في موقع مميز جدا. نفّضه وجدّد ديكوره والطلاء، الأبواب والأضواء، وأضاف حيزاً لحمام داخليّ حديث.
بذل مبلغاً كبيراً آخر من المال ليؤثّثه بالمناضد والرفوف والتكييف، ومبلغاً آخر أكبر للبضاعة تحت واجهة كبيرة براقة خُطَّ عليها: أزياء المدينة.
في الأيام الأولى للافتتاح، لم يأته زبائن كثيرون، وجلّ القادمين كان يستكشف ويشرب القهوة مع الضيافة يتعرف على المحل الجديد. عندما حسب مبيعاته لم يجدها تجاوزت الـ 3% من الرأسمال الأصلي.
استدان من زوجته ليسدّد الأقساط المستعجلة. ناوشته قليلا رافضة، فأغراها بهدية ذهبية ومربح سيأتي لها فوق ما تقدمه من دين.
مرّ الشهر الثالث بعرج شديد في المبيعات. الزبائن متحفظون حريصون لا يطلبوه إلا البضاعة الاضطرارية زهيدة الثمن قليلة المربح له، يسدّدون فواتيرهم الكثيرة بلهفة مشرعة يداورون أقساطهم الكمالية في المصارف بقدر المستطاع، فلا يظل لديهم إلا القليل الذي لا يفي بشراء الملابس على الموضة.
النساء القليلات فقط، المتفرّغات من عمل ومن بطالة، كنَّ يطلبن ما يرينه جديداً على صرعات مدينة التي ليس هو البائع من أهلها. يداريهن بلطف طالما زوجته ليست إلى جانبه، وإلا فإنها تتأفف منهن تغار من وضعهن الأنيق أكثر مما تبالي بمربح مشروعه. فكان عليه أن يداريها أيضاً ويتغزّل بها علنا كما يداريهن، ويكتم غيظه الذي انفجر فجأة بعد صبر أسابيع، على أمر يحصل أمامه:
أجهزة الأمن تلقت تعليماتها فانسحبت من أحياء المدينة التجارية والسكنية. الشابات والشبان ابتعدوا مؤثرين السلامة. خلا الشارع إلا من أصحاب المحلات المضطرين والأكشاك الفارغة.
غيظُه تفاقم مع دخان قنابل غازية وأصوات انفجارات قنابل صوتية لاحقت حشداً صغيراً تشكّل عفواً في أول الشارع.
تطرّف عن الحشد شابٌ في العشرينيات من عمره وبدأ يهرب من ملاحقة متقصّدة. لم يجد إلا محلّه هو ليدخل إليه، سامحاً للغاز بالتسلّل من الباب الزجاجي المغلق، إلى داخل المحل والملابس ورئتيه.
خشي من سوء العاقبة، وأن يدخل الجنود النازلون من دورياتهم الصريحة، السوداء، وأن يبطشوا بالبضاعة الغالية والزجاج وبه.
أمسك الشاب الملتحي الذي قدّم له على عجل مالا لقاء بنطالٍ من الجينز التقطه بسرعة متظاهراً بشرائه.
ولكنَّ ياقة قميصه كانت بين قبضتيه توشك أن تتمزّق على عنق الشاب أعلى صدره.
التقف الجنود المقتربون الشابَ المقدّم وجرّوه أمام المحل نحو الدورية السواء الحديثة، ثم شكره ضابطهم المتأخّر عنهم بلهجة عربية مكسّرة، وهو يزج الشاب في داخل الدورية:
– برافو أزياء المدينة.. برافو!