

أسبابٌ أخرى للاعتزال!
منذُ اشترانا الرجل الطيِّب –أنا وأختي التوأم- لابنِه الموهوب الصغير ونحن نتطلَّع ليومِ خروجِنا بصحبتِه.
أيَّامٌ طويلة عشناها من وقتِ ولادتِنا بمصنعِ الأحذيةِ الرياضيَّة، إلى رحيلِنا لذلك المَحل المُتخصِّص بوسطِ المدينة، وحتَّى جاء الوقت الذي طال انتظاره.
حين رأيته للمرَّةِ الأُولى أحببتُ صخبه وشقاوته؛ كان يتجوَّل بنظرةِ عاشق بين الأزواجِ المرصُوصة خلف الزجاج.. له شخصيَّة مرحة، وتقاطيع ذكيَّة، وما أنْ شاهدني حتَّى تسمَّر في مكانِه.
لم أكن الأغلى سعرًا، لكن لي لونًا جذَّابًا، وتاريخ قديم موثوق به.. نادَى علَى والدِه بشغفٍ، وأشار ناحيتي بفرحٍ، فمسح الأب على شَعرِه الأسود الناعم، وأومأ له بالموافقة.
كنت القطعة الأخيرة في المحلِّ مِن فصيلتي، وقد ظللتُ خلف واجهة العرض الزجاجيَّة أُحارب المَلل بعد رحيل بقيَّة زميلاتي واحدة تلو الأخرى.
كم اشتقتُ للانطلاق مِن جلستي تلك، أنا التي صُنعت خصِّيصًا للَّعب.. لذا فما أنْ لامستْ قدم الصغير جلدي وهو يقيسني حتَّى دبَّتْ الروح بداخلي، وكسَتْ البهجة ملامحي، مِمَّا زاد مِن رَونقي؛ فاليوم هو يوم ميلادي الحقيقي.
لم يُفاصل الأب الطيِّب في ثمنِنا، بل أخذ يحكي لمُدير المكان عن موهبةِ ابنه في لعبِ كُرة القدم.. حملني الولد برفقٍ، وانتقلنا إلى مسكنِهم بالأرضِ المُحتلَّة.
بتُّ ليلتي الأُولى في حضنِ الولدِ المسرور باقتنائِه لنا، كنت قَلقة بعض الشيء، رُبَّما بسببِ عدمِ اعتيادي على المكان، بينما أخذ يحكي لنا عن حُلمِه في أنْ يُصبح لاعبًا شهيرًا، وعن النادي الكبير الذي يتمنَّى أنْ يلتحق به.
كان طموحه ليس له سقف، وأمله في تحقيقِ أحلامِه بِلا حدُود.. حتَّى أنَّ عدوى الأحلام أصابتني أنا الأُخرى؛ فتخيَّلتُني بعد سنوات قليلة، وقد حقَّقتُ مع رفيقي مشوار مِن الأمجاد، جعله يبيعني في مزادٍ علني بسعرٍ خيالي.
عشتُ بعدها أيَّامًا مِن الإثارةِ والترقُّب، مُنتظرة خروجي بين لحظةٍ وأخرى؛ كي أُساعد صاحبي الموهوب على صنعِ الهَجمات، وإحراز الأهداف، ومِن ثمَّ تحقيق الانتصارات، وحَصد البطولات.
سمعتُ من مكاني المُظلم داخل دولابه الصغير أشياءً كثيرة آلمتني: حديث عن استشهادِ الأُم منذ سنوات على يدِ العدو المُحتل، حكايات الاعتزازِ بالوطن والأرض، والأمل في التحريرِ والنصر، وأخيرًا تلك الانفجارات الغاشمة التي طالت كل شيء.
فجأة انقلبتْ الدنيا رأسًا على عقب؛ توالت القنابل، انهدم جزء مِن البيت، وتعالت الصرخات.. غاب أصحابي فارِّين بأرواحهم، ودعوتُ من الله أن يُنجيهم مِن ذلك العدوان.
عمَّ الدمار أرجاء المدينة، انتشرتْ رائحة الموت، وطغى اللون الأحمر على كلِّ شيء.. لم أعد أسمع سوى صوت الطلقات الناريَّة، وسارينة عربات الإسعاف.. كما لم أعد أشمّ غير رائحة البارود، ودُخَّان الحرائق.
مرَّت أيام ثقال، وأخيرًا ظهر الرجل الطيِّب المنكُوب..
كان سليمًا، لكن وكأنَّ عمره قد تضاعف خلال ساعات! سار بحذرٍ بين الرُّكام، وبدأ يُفتِّش عن الأغراضِ الهامَّة ليأخذها معه إلى حيث ملجأه الجديد.
ها هو يُلَملِم بعض حاجياته الضروريَّة، ويستعد للمُغادرة.. حبستُ أنفاسي وأنا أراه يمرُّ مُترنِّحًا مِن جواري، كدت أقفز مِن مكاني ليراني، تمنيتُ لو سألته عن سلامةِ صديقي الصغير الذي لم يسعفنا الوقت، ولم يمهلنا القَدر للَّعبِ سويًّا.
في لحظةِ خروجِ الأب مِن نصفِ البيت حَنتْ منه التفاتةً حيث مَرقدي الحزين.. وضع ما بيدِه جانبًا وتحرَّك ناحيتي، كان يُقدِّم خطوةً ويؤخِّر الأخرى.. أقسمُ أنِّي شاهدتُ دموعه تتساقط لتُنافس تلك القنابل المُنهمرة على أرضِه المُغتصبة.
أحنَى قامته المُثقلة بالهمُوم، ومدَّ يده المجروحة تجاهي، نفضَ عنِّي التَّراب، وحملَني بشفقةٍ مُحاولاً الابتسام.
كادت الفرحة تغمرني، والشوق للّعبِ يعتريني مِن جديد.. لولا أنَّه أخذني أنا فقط، الفردة اليُمنى، تاركًا –أُختي- الفردة اليُسرى تسقط مِن يدِه.. لتظلّ بمفردِها وحيدة..
حبيسة بين الرُّكام!.