السبت ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥

ابتسام.. أمٌ تحمل وجوه أحبتها في قلبٍ أنهكته الحرب

سمر أبو شماس

عيونها عيونُ أمٍ ترثي خمسة من أفراد عائلتها، واحدًا تلو الآخر، تغزو الآلام خاصرتها وتنهك قواها، لتصبح كما تصف نفسها بجسد يمشي على الأرض وروح سابحة في السماء، عيونها تختصر جغرافية فلسطين حين تطل عليك بنظرة تلخص مشهدًا لأحراش الزيتون فوق جبال القدس العتيقة، موشحة بحلاوة برتقال حيفا الناعس أمام البحر.

تجلس على حافة السرير ممسكة بمسبحة تتدلى بجانب مصحفها أنيس وحدتها، كما تقول، ابتسام عيسى (٦١ عامًا): "لجأتُ لله، وإلى من تبقى من عائلتي وأحفادي كي أستطيع تمرير يومي دون نحيب فالنسيان صعب جدا، والأم تبقى خارج المقارنة في القدرة على الصبر والصمود كما يتغنى الناس، فالأمهات بشر من لحم ودم مشاعر".

"نزحتُ من بيتي نتيجة القصف الشديد فأنا أسكن في حي الشجاعية على الحدود الشرقية لمدينة غزة، كان ذلك في اليوم التالي لبداية الحرب، حيث هربت مع أبنائي إلى بيت أهلي في حي التفاح أرجو الأمن والحماية"، تضيف عيسى.
غيمة رمادية تستقر في عيونها وهي تهرب بناظريها حتى لا تبكي، وهي تسرد تفاصيل استشهاد أول ابن لها، لكن عبثا محاولتها باءت بالفشل لأن الدموع كانت أسبق: "ذهب ابني في 23 أكتوبر 2023 لتفقد بيتنا وليجلب لنا ملابس وحاجيات، فنحن خرجنا بلا شيء. كنت أشعر بدقات قلبي تتسارع وانقباضة غير عادية في صدري، دقائق فقط واتصل أحد ابنائي ليخبرني باستشهاد أخيه إثر قصف منزل كان يمر بجانبه، رأى أشلاء أخيه عالقة على شجر الصبار ولم يستطع جمع جثته، فعاش في صدمة حتى استشهاده هو نفسه".

تلاحق القذائف وحمم الطائرات البشر والحجر في غزة، لا مجال للنجاة في حرب صنفها الخبراء بأنها حرب إبادة مستوفية لكافة الشروط لهذا التصنيف، وفي صباح 14ديسمبر2023، بينما كانت ابتسام تتبادل الأحاديث الودية مع شقيقاتها عن احتمالية النزوح نحو الجنوب كما أمر جيش الاحتلال السكان، دوت انفجارات متتالية.

"هزت الأصوات رأسي ولهيب النار اشتعل في الخارج، كما دخل الدخان إلى الغرفة فلم أعد أستطيع التنفس منه، وفجأة سمعت صرخات وأسماء أبنائي في الخارج، فخرجت من الباب مسرعة، ونظرت للأعلى لأكتشف أن الطابق العلوي حيث ينام أبنائي هو المستهدف بالقذائف العمياء التي لا وجهه محددة لها".

وفي ذات السياق تكمل: "صعدت الدرج مسرعة رغم قلة حيلتي وضعفي واقتحمت ألسنة النيران الملتهبة، فالكل هارب نحو الطوابق السفلية طلبا النجاة، بدأت أستنجد وأصرخ حتى يأتي أحد وينقذ أبنائي، كانوا يمسكون بي كي أنزل ولا أعرض حياتي للخطر، كنت أصرخ حياتي فوق حياتي ليست في جسدي أبنائي هم بعضي وكلي، كنت أبكي بهستيريا شعرت أن عقلي قد خرج، ثلاثة من أبنائي استشهدوا دفعة واحدة ليكون العدد الكلى أربعة أحبة قضوا في هذه الحرب، وابنه مصابة تمكث في المشفى".

"ما أعز من الولد إلا ولد الولد" مثل دارج في مجتمعاتنا العربية يؤكد على كم الحب والحنان من الأجداد نحو الأحفاد، ولكن هذه الحرب المسعورة أخذت معها حفيد ابتسام (6 أعوام) في أبريل/2025، حين وقع على رأسه عامود من الباطون أثناء لعبه في الساحة جراء قصف غرفه صفية في مدرسة الفارابي، مما ترك جرحًا آخرًا في الروح لديها، كما تصف.

حرب الإبادة لم تأخذ أبناء ابتسام وحفيدها فقط بل هدمت ذكرياتها وحياتها حين علمت أن بيتها أصيب بأضرار بليغة حين قصف جيش الاحتلال بيت جيرانهم "كنت أحلم كل يوم بالعودة لمنزلي وحياتي السابقة، الهدوء نسمات الشرق الطيبة، لكن كل هذا ذهب بانهيار بيتي واستشهاد أبنائي وحفيدي، وإصابة ابنتي التي ما زالت تعاني وتحتاج إلى تحويلة للعلاج في الخارج لإجراء عملية هامة في قدمها".

ابتسام تعرضت لوعكة صحية صعبة على إثر استشهاد أحبتها أدت إلى مكوثها في المشفى لمدة شهر، تقرر حينها خضوعها لعملية غسيل كلوي وهي في غيبوبة حفاظًا على حياتها "بقيت في غزة مع من تبقى من عائلتي ولم أتوجه للجنوب، فكانت الضريبة التي تكبّدتها فادحة وهي المجاعة وحرماني من الطعام الملائم لصحتي، بالإضافة إلى قصف وتدمير واقتحام المراكز الصحية التي تختص بغسيل الكلى مما ضيق الكثير على المرضى وعرض حياتهم للخطر فمنهم من قتل ومنهم من مات جراء تدهور حالته الصحية".

"أنا مريضة أحتاج الى التغذية المناسبة لحالتي خاصة بعد خضوعي لجلسة الغسيل الكلوي، واحتاج للوصول الآمن للمشفى كذلك الدواء أحصل على بعضه بصعوبة بالغة فهو غير متوفر بشكل كامل، عندما تشتد الأحداث ولا أستطيع الوصول لأيام للمشفى أتوقف قسرا عن غسيل الكلى".

"إضافة إلى الوضع الاقتصادي السيء وارتفاع أسعار المواصلات، أضطر للمشي مسافة طويلة وأرتاح في الشارع مما يعرض حياتي للخطر لو قصف مكان قريب مني، أو تناثرت شظايا الصواريخ وأصابتني، أنا امرأة أرملة لا مخصص مالي لي أعتاش على المساعدات من الأهل وبعض المؤسسات وبالكاد يكفي لسد بعض احتياجاتي الشخصية كمريضة خاصة حاجتي للمياه النقية"، تقول ابتسام.

وبين شد وجذب سياسي وعسكري، حين ألقت طائرات الاحتلال منشورات تطالب السكان بالتوجه جنوبًا في مطلع سبتمبر 2025، كانت ابتسام لا تزال نازحة في حي التفاح، أحد أكثر الأماكن خطورة في ذلك الوقت، وهو ذاته السبب الذي دفع عائلتها للخوف على صحتها؛ فاتخذوا القرار بالنزوح جنوبًا، حتى تتمكن من مواصلة جلسات الغسيل.

"بعد جلسة الغسيل، في 20 سبتمبر 2025، كنت منهكة ولا أستطيع الصعود للقاطرة التي ستقلنا للجنوب، لذلك جلسنا بجانب السائق لأن ابنتي مصابة أيضًا. واستغرق الطريق ثماني ساعات حتى وصلنا"، تتابع حديثها.

وصلت ابتسام مرهقة حوالي الساعة العاشرة والنصف مساء، لا تقوى إلا على طلب الطعام ثم النوم. رقَدَت في خيمة أخيها مع 12 فردًا في مساحة ضيقة تشبه القبر: "كان المشهد يبكي الحجر، أطفال صراخهم يشق الهواء، نساء مذهولات، شيوخ على كراسٍ متحركة، وذوو احتياجات خاصة لا يجدون من يساعدهم"، تصف الطريق.

في اليوم التالي خرجت تبحث عن مكان لنصب خيمتها، لكن الزحام لم يترك شبرًا فارغًا، وبمساعدة صديقة شقيقتها، استضافتهم عائلة لمدة أسبوع حتى وجدوا مكانًا مناسبًا: "كنت أبحث عن مكان قريب من المشفى لأصل دون تكلفة كبيرة. اضطررت لتقليل جلسات الغسيل من ثلاث إلى اثنتين. كان ابن أختي يقلّني إلى المشفى البلجيكي وسط قطاع غزة، على كرسي متحرك بسبب نقص المواصلات وعدم توفر نقود فكة"، تقول وهي تشير للطريق.

وتجلس ابتسام تحت شمس حارقة في طريقها للمشفى، والجوع يقرص معدتها، ومع ذلك يظل على وجهها أثر ابتسامة حزينة: "إن للصبر حدودًا، الأم ليست جبلًا ولا أسطورة لا تنهار، ما فقدته ليس هينًا، أسرة كاملة، ضحكاتهم، تفاصيلهم، أحلامهم".

ابتسام نزحت وسط غزة، لكن قلبها ظل في الشمال، حيث ترقد قبور ثلاثة من أبنائها في الشارع دون أن تُوارَ التراب؛ بسبب استهداف جيش الاحتلال للمقابر، ومنع الوصول اليها . إنها واحدة من قصص كثيرة تروى وأخرى تطوى في حرب إبادة جماعية لامثيل لها فيماتظل القرارات الدولية التي يفترض أن تحمى النساء كلاما بعيدا عن واقع غزة الذى تجاوز حدود الوصف.

سمر أبو شماس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى