

الأخطل الصغير
ما زلت أتذكر وأنا في مقتبل العمر أنني شاهدت في السينما فلم"زمان ياحب"من بطولة المرحوم فريد الأطرش، وقد تضمن الفلم أغنية جميلة جدا هزت للحنها وكلماتها الجمهور الحاضر، لدرجة أن العامل المكلف بتشغيل الفلم أعاد علينا بالضبط هذه الأغنية وحدها ثلاث مرات، وما زلت أتذكر أن أحد الأصدقاء حينذاك كان يغنيها لنا كما أداها فريد الأطرش.
أما صاحب الأغنية وكاتبها فأنا لم أتعرف عليه إلا بعد فترة، وهو الشاعر اللبناني الكبير بشارة الخوري الملقب ب"الأخطل الصغير "تيمنا بالشاعر العربي الكبير الأخطل التغلبي صاحب القصيدة الشهيرة والتي حفظنا مجموعة أبيات منها أيام الدراسة وهي"قصيدة "خفَّ الٌطين" التي يقول مطلعها:
خَفَّ القَطينُ فَراحوا مِنكَ أَو بَكَروا
وَأَزعَــجَتهُم نَوىً في صَرفِها غِيَرُ
وفيها يقول الأخطل:
إِلـــى اِمــرِئٍ لا تُــعَرّينا نَــوافِلُـــهُ
أَظــفَرَهُ الــلَهُ فَــليَهنِئ لَــهُ الــظَفَرُ
الــخائِضِ الغَمرَ وَالمَيمونِ طائِرُهُ
خَــليفَةِ الــلَهِ يُــستَسقى بِــهِ المَطَرُ
وَالــهَمُّ بَــعدَ نَــجِيِّ الــنَفسِ يَبعَثُهُ
بِالحَزمِ وَالأَصمَعانِ القَلبُ وَالحَذَرُ
إلى آخر هذه القصيدة الجميلة،واليوم نتحدث عن الشاعر بشار الخوري الملقب ب"الأخطل الصغير".
الأخطل الصغير (1885- 1968 م) شاعر لبناني تلقى تعليمه الأولي في الكتّاب، شاعر غنائي كلماته فخمة، وقد غنى له محمد عبد الوهاب قصيدة:"جفنه علّم الغزل"كما غنت له المرحومة اسمهان قصيدة"اسقنيها"/والتي عنوانها الأصلي هو:
"بأبي أنت وأمي". والشاعر بشارة كان مسؤولا في نقابة الصحافة وأنشأ حزبا سياسيا وانتخب رئيسا لإحدى البلديات بلبنان.
تفتحت شاعريته مبكرا ومن أصدقائه في المدرسة كان الشاعر شبلي ملاط.
مارس مهنة تدريس الأدب العربي، لكنه عدل عن التدريس ومال إلى الصحافة، فأنشأ مجلة باسم"البرق"، وكانت تصدر أسبوعيا.
عاش الأخطل الصغير محبا لشيئين وهما الحب والكأس.
ومن قصائده الجميلة في الحب قصيدة "الصبا والجمال" التي يقول فيها:
الصِّبا والجمالُ مِلكُ يَديك ِ
أيُّ تــاجٍ أعزُّ من تاجَيكِ!
نصبَ الحُب عرشَه فسألنا
مــن تُــراها له فدلَّ عليكِ
ومنها قوله:
مــا تــغنّى الــهزارُ إلا ليُلقي
زفــراتِ الــغرامِ فــي أذنيكِ
سَكِرَ الروضُ سكرةً صرعتهُ
عند مجرى العبيرِ من نهديكِ
قــتلَ الــوردُ نفسَه حسداً منكِ
وألــقى دمــاه فــي وجــنتيكِ
والــفراشاتُ ملَّتِ الزهــــرَ لمّا
حــدّثتْها الأنــسامُ عن شفتيكِ
وقد غنت له المطربة المحبوبة فيروز قصيدة رائعة بعنوان: "يا عاقد الجبين" يقول مطلعها"
ياعاقد الحاجبين على الجبين اللجينِ
إن كنت تقصد قتلي.. قتلتــني مرتينِ
وفيها يقول:
مــولاي لــم تــبق مني حياً سوى رمقينِ
صبرت حتى براني وجدي وقرَّبَ حيْني
ســتحرم الــشعر مــني وهذا ليس بهين
أخاف تدعو القوافي عليك في المشرقين
والأخطل لم يكن شاعر الحب فقط، بل كان شاعر الحرية كذلك،يقول من قصيدة بعنوان "شرف الفتح":
ليتَ شعري ماذا جنينا على الغر
بِ لــنُشوى عــلى يــديهِ ونُــقلى
ألأَنّـــا مــن أفــقِنا تــطلُع الــشم
سُ فــتعطي الــغداء حــباً وبقلا
ألأَنّــا مــن صــدرِنا ولِــدَ الحُبُ
الـــذي شــيّــد الــحضارةَ قــبلا
ويختم القصيدة بهذا البيت:
شــرفُ الفـتح أن تــحــطــم قـيـدا
عــن رقــابِ الورى وتــنــشُـر عـدلا
وعنده قصيدة بعنوان "الذئاب" يقول فيها:
يــا أمــة غدت الذئاب تسوسها
غــرقت ســفينتها، فأين رئيسها
تــتمرغ الشهوات في حرماتها
وتــعيث في عظماتها وتدوسها
تــعساً لــها من أمة… أزعيمها
جــلادها وأمــينها جاسوسها ؟
رُشــيت مآذنها، فلم تغضب لها
غضب الكرام، وباعها ناقوسها
أبناء احمد والمسيح ألا انهضوا
أتــباح حــرمتها وأنت شوسها؟
وللأخطل الصغير في رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة هي من عيون قصائده ومن أجملها يقول فيها:
قف في ربى الخلد واهتف باسم شاعره
فــــســدرة الــمــنتهى أدنـــى مــنــابره
وامــسح جــبينك بــالركن الذي انبلجت
أشــعــة الــوحــي شــعراً مــن مــنائره
إلــهــة الــشــعر قــامــت عــن مــيامنه
وربـــة الــنــثر قــامت عــن مــياسره
ويقول عن شوقي في خاتمتها:
قــيثارة الــنيل كــم غــنيت قــافية
في مسمع الدهر مسراها وخاطره
لو عاد فرعون كانت من ذخائره
أو خــتِّم الخلد كانت في خناصره
والحديث عن الشاعر الأخطل الصغير لا ينتهي ،لأن الحديث عن الشعر الحقيقي الصادق لا ينتهي، وعبد ربه يقول بأنه لو لم يوجد فينا شعراء مثل الأخطل الصغير وأحمد شوقي وهما من مدرسة واحدة، وغيرهما من الشعراء الحقيقيين الذي أثروا القصيد العربي بقرائحهم الاستثنائية، لكنا ربما نعيش الرداءة ولخيل إلينا ـ أو على الأصح لصورها لنا بعض المبطلين منا على ـ أنها شعر.
اللهم سهل علينا كل أمورنا فأنت إذا شئتَ جعلتَ الحّزْنَ سهلا.